حققت مصر طفرة هائلة في إنتاج السكر خلال السنوات الخمس الأخيرة، واقتربت من تحقيق الاكتفاء الذاتي مقارنة بأزمة عام 2016. وتشير الأرقام الرسمية الصادرة العام الجاري إلى ارتفاع إنتاج مصر من السكر إلى حوالي 90% من استهلاكها المحلي. وذلك مقارنة بـ 77% قبل 5 سنوات.
وفي عام 2016 شهدت مصر أزمة في توفير السكر، ارتباطًا بتعويم العملة، ومشكلات في التوزيع. لكن سرعان ما اتخذت الحكومة خطوات تصحيحية على عدة أصعدة سواء الزراعة أو التصنيع والتوزيع، أدت إلى تحقيق قفزة هائلة.
قفزة هائلة
وفق آخر إحصائية لوزارة التموين، فإن إنتاج مصر من السكر وصل إلى حوالي 2.8 مليون طن سنويًا، تمثل حوالي 90% من حجم الاستهلاك المحلي البالغ 3.1 مليون طن، مقارنة بـ 2.4 مليون طن تمثل 77% عام 2016. ويتوزع الإنتاج بواقع: 900 ألف طن من قصب السكر، و1.7 مليون طن من البنجر، و250 ألف طن صناعات محلية أخرى.
وتقلص العجز إلى 350 ألف طن سنويًا حاليًا، مقارنة بمليون طن قبل خمس سنوات، وقت ذورة الأزمة. وتقوم الحكومة ومستوردون من القطاع الخاص بسد الفجوة عادة من خلال مشتريات خارجية عبر اعتمادات مستندية.
الأرقام الرسمية تُفسر هذه القفزة في الإنتاج المحلي من السكر. والتي من بينها زيادة مساحة الزراعات إلى 700 ألف فدان حاليًا، مقارنة بـ300 ألف فدان عام 2016.
أسباب زيادة الإنتاج
كما أن ثمة جملة من الإجراءات الحكومية التي شجّعت على زيادة الإنتاج، بعضها يتعلق بالزراعة وأخرى تتعلق بالتصنيع والنقل والتوزيع. من بينها: نقل المحصول بالمجان من الحقول إلى المصانع، والسماح بنسبة شوائب 8%، وصرف حافز لكل طن على درجة حلاوة تزيد على 16%، وهي أقل نسبة حلاوة يتم احتسابها للمزارع، وتحمل تكاليف الزراعة الآلية لتوفير نفقات الزراعة، وتوفير الخدمات الإرشادية للمزارع بالتعاون مع مجلس المحاصيل السكرية.
وبعدما كانت تأخير مستحقات الفلاحين واحدة من عوامل تثبيطهم في الزراعة، حلت الحكومة هذه الإشكالية، بل حولّتها إلى سياسة تحفيزية من خلال إعفاء مزارعي العروة المبكرة من ثمن التقاوي، بشرط التوريد في الوقت المحدد. كما عكفت الحكومة على تطوير مصانعها، وزيادة طاقة تشغيل خطوط الإنتاج من 14 ألف طن إلى 21 ألف طن يوميًا بنجر.
سياسة الدعم.. وشراهة الاستهلاك
لكن مع اقتراب تحقيق الاكتفاء الذاتي من الإنتاج، يستغرب خبراء من الإفراط الحكومي في سياسة دعم السكر، بدلاً من اتباع سياسات بديلة لتقليل الاستهلاك المحلي من المنتج المضر للصحة.
وفيما تنفق الحكومة 56 مليار جنيه سنويًا على دعم السلع التموينية، قال وزير التموين على المصيلحي، في تصريحات مؤخرًا، إن الوزارة تتجه للاستغناء عن 53 سلعة من المقررات التموينية، والاكتفاء بنحو 3 سلع أساسية فقط، وهى: “السكر، والأرز، والزيت”.
لذلك يطالب خبراء ومختصون بوضع معايير لخفض استهلاك السكر، وتوجيه الدعم لسلع أخرى أكثر أهمية في القيمة الغذائية والصحية للفقراء، منها على سبيل المثال الخضراوات والفواكه. ويستند المختصون في هذا الطرح إلى عاملين الأول تقليل فاتورة الإنفاق الحكومي على المنتج كثير الاستهلاك، والثاني الأضرار الصحية، خاصة أن أكثر من 8.9 مليون مصري يعانون من مرض السكري.
أزمة استهلاك المياه.. والسياسات البديلة
التحدي الآخر، الذي سيواجه الحكومة على المدى البعيد يتمثل في ضرورة إيجاد حلول بديلة لشراهة استهلاك محاصيل إنتاج السكر للمياه، خاصة في ظل أزمة مائية تلوح في الأفق. ويستهلك فدان القصب الواحد 8 آلاف متر مكعب من المياه.
وخلال السنوات الماضية، اتبعت الحكومة سياسيات لترشيد المياه، تتمثل في زيادة الاعتماد على تحلية المياه المالحة، وتدشين مشروعات إعادة التدوير، وبناء مخرات للسيول، وتقليل زراعة المحاصيل التي تعتمد على الري بالغمر، وتبطين الترع، والاعتماد على المياه الجوفية في المناطق الزراعية.
كما وزّعت وزارة الزراعة القدرات المائية المتاحة على المحاصيل الأكثر أهمية، لكنها تبقى أمام تحدي اثنين من السلع الاستراتيجية هما الأرز ومحاصيل السكر.
البعض تحدث عن حل بديل يتمثل في اتجاه الحكومة لتقليل زراعة محصول القصب واستبداله ببنجر السكر لسد العجز من المحصول، خاصة أن الأخير لا يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه وتصلح زراعته في جميع الأراضي الرملية المستصلحة.
البنجر كلمة السر
هذا الحل تحديدًا يراه رئيس مجلس المحاصيل الزراعية الدكتور مصطفى عبدالجواد سببًا رئيسيًا في رفع سقف الإنتاج خلال السنوات الخمس الماضية.
وأشار عبدالجواد إلى أن السكر صناعة مربحة، وتعتمد عليها أكثر من 22 صناعة أخرى، فهي اقتصاد قائم بذاته. غير أنه ربط بين السوق العالمية والسعر محليًا، معقبًّا: “نعيش تحت رحمة السعر العالمي في أغلب الأحيان”.
ووصل السعر العالمي إلى سبعة جنيهات ونصف، ما يعني أن سعره لدى المسهلك مرورًا بمراحل التعبئة والتغليف وهامش الربح لن يقل عن 10 جنيهات، في حين أن سعر المنتج المحلي أصبح 7 جنيهات.
أشاد عبدالجواد أيضا بالطريقة المتبعة مع الفلاحين من التعاقد مقدما مع الشركات خاصة فيما يخص محصول البنجر، الذي لا يصلح للتخزين، مع تحديد السعر وهامش الربح، مما يجعلها من الزراعات المطمئنة للفلاحين، حيث أصبح تسويقها مضمون.
مصنع القناة
الاتجاه الحكومي نحو الاهتمام بالتصنيع يبقى واحدًا من العوامل المؤدية للاكتفاء الذاتي، حيث يلفت عبد الجواد النظر إلى مصنع القناة لصناعة سكر البنجر المزمع افتتاحه خلال العام الجارى، والمقام في محافظة المنيا، والذي سيكون الأكبر والأهم في مصر، وربما الشرق الأوسط، وفق عبدالجواد.
والمشروع الذي تقدر قيمته بنحو مليار دولار مملوك بحصة أغلبية لرجل الأعمال الإماراتي جمال الغرير، العضو المنتدب لشركة الخليج للسكر، ومستثمرين آخرين، بينما تستحوذ شركة الأهلي كابيتال المصري على 30% فقط.
لكن الاقتصادي عبد المولى إسماعيل، يتحدث عن زاوية أخرى سلبية جراء الاعتماد على محصول البنجر، بديلاً عن القصب لإنتاج السكر.
إشكالية التحول إلى البنجر
يشير إسماعيل إلى مصانع قصب السكر تعتمد في تجهيزاتها بالأساس على القصب ما يعني صعوبة تحويلها إلى البنجر. فيما تضم هذه المصانع عددا كبيرا من العمالة في محافظات الصعيد الخمسة، الذي يعتمد الملايين منهم على هذه الزراعة. لذلك قال: “ربما نكون أمام أزمة حديد وصلب أخرى”.
كما أن أكثر من 13 صناعة أخرى تعتمد على القصب، سواء دبس السكر كالكحول الإيثيلي وعلف الماشية، وتفل السكر، والمولاس. ولفت إلى أن جودة القصب ومنتجاته لا تتوافر في البنجر.
لكن المؤيدين لتوجه التحول إلى البنجر، يدفعون بأن أزمة المياه لا تترك حلاً آخر، في ظل الحديث عن انخفاض حصة مصر من المياه إلى 35 مليار متر مكعب، عقب تدشين سد النهضة، مقارنة بـ55 مليار خلافا لمياه الأمطار والفيضانات.
يقول عبدالمولى إن فدان قصب السكر يحتاج إلى ما يتراوح بين 8 آلاف و10 آلاف متر مكعب. وفيما تزرع مصر حاليا ما يقرب من 700 ألف فدان من القصب وحده، فإن هذا المحصول يحتاج 7 مليار متر مكعب من المياه سنويا.
تكلفة إعادة تأهيل الأرض الزراعية
هنا يتساؤل الخبراء حول مكاسب وتحديات إحلال المحاصيل، في ظل الاحتياجات المائية الهائلة آنفة الذكر، هل البنجر يعتبر أقل تكلفة؟ عبدالمولي يقول إن بناء الأرض وإصلاحها لزراعة محاصيل أخرى أمر يتطلب أموالا ضخمة لا يتحملها فقراء الفلاحين. وضرب مثالاً بالموالح والأرز والموز وبعض الخضراوات، أو حتى القمح التي سينتج عن إحلالهم مساسا بالاكتفاء الذاتي لبعض المحاصيل.
ونبه الاقتصادي إلى الموقف الإيكولوجي البيئي الذي يتوقع تدهوره في حالة الاضطرار إلى الإحلال، فضلاً عن عملية الانكشاف التي يتوقع حدوثها.
وسابقًا اضطرت مصر لوقف زراعة الذرة الرفيعة لاتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة. وفي الوقت الحالي باتت مصر نعتمد على استيراد أكثر من 80% من إجمالي احتياجاتها من هذا المحصول.
أسعار التوريدات الحكومية
أما النقطة الأخيرة التي يلفت المراقبون النظر إليها، في طريق الوصول للاكتفاء الذاتي، فتتمثل في زيادة التسعيرات الحكومية لتوريدات الفلاحين. هنا يقول عبدالمولي إن تكلفة الفدان تصل إلى 600 جنيه، بينما تشتريه الحكومة بسعر 700 جنيه. وهو ما يعني أن ربح الفدان الذي ينتج 40 طنًا سنويًا سيكون 4800 جنيه، وهو مبلغ غير مشجع للفلاحين.
هذه المطالب مدعومة، بحسب عبدالمولي، بضرورة وجود تشكيلات نقابية حقيقية أو تعاونيات. يمكن من خلالها اعتماد الفلاحين على أنفسهم في إنتاج وتصنيع السكر، بدلا من الخضوع للأسعار الإجبارية التي لا تفيهم حقهم.