بعد أن دخل قرار وقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي حيز التنفيذ فجر الجمعة قبل الماضية، سعى كل طرف من أطراف المواجهة إلى الإعلان عن انتصاره، وعدد المحللون والمراقبون المكاسب والخسائر العسكرية والسياسية والاقتصادية لطرفي المعركة..

 حركة حماس ومعها باقي فصائل المقاومة الفلسطينية اعتبرت أن قبول إسرائيل المباردة المصرية بوقف إطلاق نار «متبادل ومتزامن وغير مشروط» ما هو إلا إعلان «هزيمة وهروب من الميدان أمام ملحمة النصر التي سطرتها المقاومة خلال حرب الـ11 يوم».

وخرج قادة المقاومة ومن خلفهم الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وباقي مدن فلسطين التاريخية في مسيرات للاحتفال بالنصر على العدو الذي فشل في تحقيق هدفه بردع المقاومة وتدمير قدرتها العسكرية، فصواريخ الفصائل ظلت تستهدف المدن الإسرائيلية مسببة حالة من الفزع والرعب غير المسبوق حتى فجر الجمعة .

إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس قال في خطاب ألقاه الجمعة الماضية إن المعركة مع إسرائيل هي علامة فارقة مهمة في الصراع، والمقاومة أقوى بكثير اليوم، مضيفا: «سنعد أنفسنا لعصر ما بعد معركة سيف القدس».

 

 

A Palestinian boy pulls a cart carrying his brother and their belongings as they flee their home during Israeli air and artillery strikes, near the site of a tower building destroyed in earlier strikes in Gaza City May 14, 2021. REUTERS/Mohammed Salem

في المقابل، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن جيشه حسم المعركة الأخيرة وتمكن من تقويض أدوات المقاومة الفلسطينية: «ضربنا حماس بصورة أكبر مما كان يمكن لقادتهم أن يتخيلوها وغيرنا قواعد اللعبة عبر عملية حارس الأسوار.. ضربنا أكثر من 100 كيلومتر من أنفاقهم وقتلنا أكثر من 200 عنصر وأكثر من 25 قياديا».

وبعيدا عما أعلنه كل طرف فإن الحقائق على الأرض أثبتت خروج العدو الإسرائيلي من المعركة بخسائر سياسية واقتصادية هائلة، وهو ما وثقه الإعلام العبري، فبحسب صحيفة «هآرتس» العبرية فإن إسرائيل فشلت فشلا سياسيا وعسكريا ذريعا وأخفق جيشها في تحقيق أهدافه، ونشرت الصحيفة مقالا وصف العملية الأخيرة، التي أطلقت عليها حكومة نتنياهو «حامي الأسوار» بأنها أكثر «العمليات الفاشلة وغير الضرورية بالنسبة لإسرائيل».

ونقلت الصحيفة في تقرير آخر ما دار في المجلس الوزراي المصغر الذي وافق بالإجماع على قرار وقف إطلاق النار، وقالت نقلا عن مصادر حضرت الاجتماع إن بعض الوزراء أشاروا إلى أن المعلومات الاستخباراتية التى زُودت بها العملية كانت «ركيكة» ولم تقدم «أهدافا تغير الواقع»، بينما فشل سلاح الجو فى تدمير شبكة الأنفاق الهجومية التابعه لـ«حماس» و«المترو» الشهير الذى كان إحدى المهمات المركزية للعملية. وانتقد هؤلاء الوزراء فشل محاولات اغتيال مسئولين كبار فى «حماس»، واستمرار سقوط الصواريخ على إسرائيل حتى فى الليلة الأخيرة من العملية.

وتابعت «هآرتس» في تقرير لمراسلها العسكري يهونان ليز: «على ما يبدو النجاحات العملاتية للجيش الإسرائيلى فى القتال كانت محدودة وهى بالتأكيد لا تتلاءم مع أجواء النشوة التى أشاعها جزء من الجنرالات السابقين فى الاستديوهات»، مشيرا إلى أن عملية «حارس الأسوار» هى عملية أُخرى من سلسلة العمليات المحدودة فى قطاع غزة.

ويضيف ليز: «ينهى نتنياهو العملية، تحديدا كما توقع مسبقا، بخيبة أمل معينة، فالحريق الأمنى الذى تسبب هو نفسه به من خلال الدعم الذى منحه للخطوات الاستفزازية للشرطة فى القدس، أحبط مساعى تأليف حكومة التغيير التى سعت لإبعاده عن الحكم.. لكن طريقه إلى تأليف حكومة جديدة لا يزال غير ممهد.. صفارة النهاية التى وضعته فى حالة تعادُل مخيب للأمل مع حماس لا تحسن مكانته لدى الجمهور.. فى هذه الأثناء هو يخوض مواجهة مع خصومه السياسيين (وفى مواجهة النيابة العامة) ويشن معركة تراجُع وتأجيل لا معركة هجوم هدفها الانتصار. وأمس انضم إلى خصومه أشخاص كثر».

فصائل المقاومة إذن وباعتراف أعدائها في وسائل الإعلام العبرية أجبرت العدو على القبول بالمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار دون قيد أو شرط، وهو ما منح حماس وشركائها الحق في إعلان انتصارهم في المعركة التي غيرت قواعد الاشتباك وخلقت واقعا سياسيا وعسكريا جديدا، هذا هو حال طرفي المعركة.

لم تقتصر حسابات المكسب والخسارة في جولة الصراع الأخيرة على طرفي المعركة، فهناك أطراف خرجت من تلك الجولة رابحة رغم عدم اشتباكها عملياتيا، وأطراف أصيبت بخيبة أمل بعد أن كشف الصراع حجمها ووزنها وتأثيرها.

عملية «حارس القدس» أعادت مصر مجددا إلى صدارة القوى الإقليمية، وجنت القاهرة نتيجة لمواقفها المتتابعة منذ بداية التصعيد في حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى وصولا إلى نجاحها في فرض مبادرة وقف إطلاق النار مكاسب سياسية وجيوساسية، وضعتها في مرتبة الرابح الأكبر في جولة الصراع الأخيرة.

ووفقا لما نقلته صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية عن محللين ودبلوماسيين، فإن «المنتصر الوحيد الواضح في الصراع هو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي «استغل الدور الذي لعبته بلاده في الوصول إلى هدنة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، ليؤكد أهميته».

رغم الانتقادات التي وجهها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الرئيس المصري قبل شهور، إثر سجل مصر السيئ في ملف حقوق الإنسان، والتي تسببت في حالة من الجمود في العلاقات المصرية الأمريكية، إلا أن المواجهات الأخيرة ساعدت على ذوبان الجليد بين القاهرة وواشنطن، «استغل السيسي الفرصة.. مصر هي إحدى القوى الإقليمية القليلة التي لديها اتصالات وثيقة مع حماس وإسرائيل، حيث توصل الطرفان إلى اتفاق هدنة يوم الخميس برعاية مصرية»، تقول الصحيفة.

وترى الصحيفة أن الدور الأخير لمصر في هذة الأزمة قد يعدل من موقف بعض النواب الأمريكيين الذين طالبوا بـ«تخفيض المعونة العسكرية التي تحصل عليها مصر وقيمتها 1.3 مليار دولار، في محاولة للضغط على القاهرة من أجل تحسين أوضاع حقوق الإنسان».

وأشارت إلى أنه بعد إعلان وقف إطلاق النار، أعرب بايدن عن «امتنانه الصادق» للسيسي وفريق الوساطة المصري، الذي لعب دورا حاسما في الوصول إلى اتفاق الهدنة، كما اتفق الرئيسان خلال مكالمة هاتفية، على استمرار الاتصال بينهما.

من جانبه، عبر السيسي في سلسلة تغريدات عن سعادته بتلقي اتصال بايدن وشكره على دوره في إنجاح اتفاق وقف إطلاق النار، وأضاف أن هذا الأمر «يؤكد عمق ومتانة العلاقات الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة».

وعقب 4 أيام من الاتصال الأول بين الرئيسين المصري والأمريكي تلقى السيسي اتصالا آخر من بايدن شكر فيه الأخير مصر على «دبلوماسيتها الناجحة وتنسيقها مع الولايات المتحدة لإنهاء الأعمال العدائية الأخيرة في إسرائيل وقطاع غزة وضمان عدم تكرار العنف».

وبحسب بيان البيت الأبيض، تشاور الرئيسان بشأن الحاجة الملحة إلى إيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين إليها في غزة ودعم جهود إعادة الإعمار، وتطرق الاتصال إلى عدد من الملفات الهامة على رأسها سد النهضة الإثيوبي، أقر بايدن بـ«مخاوف مصر لناحية الوصول إلى مياه نهر النيل وشدد على اهتمام الولايات المتحدة بالتوصل إلى حل دبلوماسي يلبي الاحتياجات المشروعة لمصر والسودان وإثيوبيا»،  وشدد على أهمية الحوار البناء  بشأن حقوق الإنسان في مصر، وأعاد الرئيسان التأكيد على التزامهما بالشراكة القوية والمثمرة بين البلدين.

وتُوجت الاتصالات بزيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى القاهرة قبل ساعات، وأكد الوزير الأمريكي في لقائه مع الرئيس السيسي على اهتمام بلاده بتعزيز العلاقات الاستراتيجية مع مصر، وكذا تكثيف التنسيق والتشاور المشترك حول جميع قضايا الشرق الأوسط، وذلك في ضوء الثقل السياسي الفعال الذي تتمتع بها مصر في الشرق الاوسط ومحيطها الإقليمي، ومساهمتها في السعي لتحقيق الاستقرار المنشود لكافة شعوب المنطقة.

تحول موقف الإدارة الأمريكية من السلطة المصرية وإعادة قنوات الاتصال المجمدة منذ رحيل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تعد إحدى النتائج المباشرة للدور المصري الأخير في إنهاء الحرب على غزة، أثبتت القاهرة أنها لاتزال تملك مفتايح القضية الفلسطينية، وأن الملف برمته في يدها، وأن التصعيد والتهدئة لن يتم إلا من خلالها، وتمكنت من إقناع واشنطن والقوى الدولية والإقليمية بـ «الاعتراف بمكانة مصر كقوة استقرار في الشرق الأوسط».

عودة الدفء في العلاقات الأمريكية المصرية، سيخفف الضغوط التي تتعرض لها القاهرة في ملف حقوق الإنسان، وسيعيدها مرة أخرى للعب دور الشريك والحليف الفاعل في أزمات المنطقة، وهو ما يمكن للسلطة المصرية استغلاله في ملفات أخرى وعلى رأسها ملف سد النهضة الضاغط على أعصاب المصريين في الفترة الأخيرة.

اقرأ أيضا:

أبناء القدس بين اقتحام المسجد الأقصى وتهجير الشيخ جراح

اشتباكات المسجد الأقصى أسفرت عن إصابة 200 فلسطيني

القاهرة تستعد ثقلها الإقليمي

استعادت القاهرة ثقلها الإقليمي، بعد سنوات حاول فيها شركاؤها وخصومها الإقليميون من فرض قواعد جديدة، استغلوا فيها أزمات مصر الداخلية، واستخدموا ما قدموه من منح وقروض وسعوا إلى تحويل «الشقيقة الكبرى» إلى تابع لسياساتهم وتوجهاتهم.

بعض العواصم الخليجية التي وقعت اتفاقات تطبيع مع إسرائيل في الشهور الأخيرة ظنت أنها تسطيع سحب ملف القضية الفلسطينية من مصر، كما اعتقدت تل أبيب أن نجاحها في ضم بعض الأنظمة العربية إلى قطار التطبيع قد يمكنها من الاستغناء عن الدور المصري، لتبدد جولة الصراع الأخيرة ودور القاهرة فيها تلك الأوهام.

كسبت مصر من الأزمة الأخيرة ثقة الفصائل الفلسطينية والتي أعلنت على مختلف تنوعاتها السياسية والأيدلوجية امتنانها للقاهرة، وهو ما منحها القدرة على لعب دور أكبر في حل الخلافات البينية بين الأطراف الفلسطينية المتناحرة، وثقل أكبر لدى دولة الاحتلال التي راهنت على أطرف أخرى لا تملك نفس الوزن السياسي.

داخليا، أضاف الموقف الرسمي المصري مما جرى رصيدا شعبيا إلى النظام الحاكم، فالسلطة التي طالما انتقدها معارضيها حصلت على إشادات غير مسبوقة من مخالفيها، وأعلنت العديد من أحزاب المعارضة والمحللين المستقلين الدعم لخطوات مصر بدء من إدانتها الصريحة لما جرى في القدس وصولا إلى إعلان الرئيس السيسي تبرع مصر بـ500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة.

وكما أعادت عملية «حارس القدس» التأكيد على عقيدة الشعوب العربية وفي القلب منها الشعب المصري أن إسرائيل هي عدونا الأول وأن القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية، لتسقط أوهام التطبيع والسلام الدافئ مع دولة الاحتلال، رفعت من أسهم المقاومة لتتوارى كل إدعاءات شيطنتها خلال السنوات القليلة الماضية.

بعد محاولات رسم خريطة جيو سياسية جديدة للشرق الأوسط خلال العقد الأخير، أعادت الحرب الأخيرة مراكز الثقل إلى ما كانت عليه، وأدركت عواصم المنطقة وزنها وحدود دورها، وفاقت القاهرة مجددا من الغفلة التي أدركتها خلال السنوات الأخيرة.