في توقيت حساس ووسط ترقب إقليمي ودولي لرد فعل القاهرة على القرار الإثيوبي المنفرد باستكمال الملء الثاني لسد النهضة. حملت زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي لدولة جيبوتي والتي وصفتها الرئاسة بالتاريخية. عددً من الدلالات السياسية والاستراتيجية في وقت تتسارع فيه القوى الدولية والإقليمية للتنافس وتأمين المصالح في القرن الأفريقي. خاصة الدول المطلة على ساحل البحر الأحمر.
زيارة الرئيس السيسي هي الأولى رسميًا لرئيس مصري إلى جيبوتي، رغم دورها المحوري في المحيط الإقليمي للقرن الأفريقي. ركزت إلى جانب نواحي التعاون الاقتصادي وتبادل الاستثمارات على التعاون الثنائي وفق تصور الشراكة الاستراتيجية. في وقت تواجه فيه منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي ظروف استثنائية من النزاعات والصراعات والتحديات الأمنية. خاصة ما تخلفه النزاعات من تأثيرات أمنية على دول الجوار وتهديد لحالة السلم والأمن في القارة.
وقال الرئيس السيسي في المؤتمر الصحفي إن المباحثات مع نظيره الجيبوتي ركزت على تكثيف التعاون في ملف أمن البحر الأحمر. كذلك المستجدات في قضية سد النهضة، والذي وصفه بأنه يمس المصالح الحيوية للمنطقة بأكملها. حيث تشدد مصر على حتمية الوصول إلى اتفاق عادل ومتوازن حول ملء وتشغيل السد في أقرب فرصة ممكنة. ورفض أي مسعى لفرض الأمر الواقع من خلال إجراءات أحادية لا تراعي مصالح وحقوق دولتي المصب.
زيارة الرئيس السيسي لجيبوتي تأتي ضمن تحركات دبلوماسية مصرية نحو القارة الأفريقية لتأمين المصالح الاستراتيجية خاصة منذ اندلاع أزمة سد النهضة. كما أن الممارسات الإثيوبية باتت تشكل تهديد مباشر للمصالح المصرية سواء في حوض النيل أو منطقة القرن الأفريقي.
الموقف الجيبوتي من سد النهضة
رغم المساعي الدبلوماسية المصرية في المحيط الإقليمي بخاصة دول الشرق أفريقيا والقرن الإفريقي لشرح موقفها بشأن سد النهضة. ظلت مواقف جيبوتي حيادية إلى حد كبير بل أنها كانت تساند الموقف الإثيوبي. وهو ما ظهر في رفض ممثل جيبوتي التوقع على قرار من الجامعة العربية بشأن سد النهضة في يونيو الماضي. حيث كان ينص على اعتبار أمن مصر والسودان المائي جزء من الأمن القومي العربي. بينما رفضت جيبوتي والصومال البند الخامس من القرار الذي ينص على ضرورة امتناع كافة الأطراف عن اتخاذ أي اجراءات أحادية. وهو ما يعني امتناع إثيوبيا عن أي اجراءات تتعلق بتخزين المياه في السد دون التوصل لاتفاق مع دولتي المصب.
كما أعلنت جيبوتي من قبل أنها تقف على الحياد في أزمة سد النهضة والنزاع المائي بين مصر والسودان وإثيوبيا. وهو الموقف الذي ثمنته إثيوبيا. حيث أكد وزير الخارجية الإثيوبي وقتها أن موقف جيبوتي والصومال في رفض أي قرارات من الجامعة العربية ضد إثيوبيا.
سد الأواش.. مصالح جيبوتي مع إثيوبيا
جيبوتي بلد صغير وحار وجاف وتنضب فيه الموارد الطبيعية. كما أنها لم تسلم من الممارسات الإثيوبية بالاستئثار والتحكم في الأنهار العابرة للحدود. حيث بنت إثيوبيا أربعة سدود على نهر الأواش. إذ أنه من الأنهار الرئيسية في إثيوبيا يصب في بحيرة غاغوري المتصلة ببحيرات أخرى التي تنتهي ببحيرة أبي على الحدود مع جيبوتي. حيث يغذي مناطق أمهرة، أوروميا والمنطقة الصومالية وبعض القوى الجيوبتية.
وكان تقرير للمجلس العربي للمياه قد رصد عدد من الآثار السلبية للسدود الإثيوبية على نهر الأواش على مصالح جيبوتي المائية. حيث إن الممارسات التي تتعارض مع الأعراف والقوانين الدولية لإدارة الأنهار الدولية المشتركة وقواعد القانون الدولي. كما تسببت في أثار سلبية مباشرة من ارتباك في نظم استخدام وإدارة المياه نتيجة عدم الإفصاح والتشاور. قبل الشروع في الإنشاء، حول تصميم وحجم هذه السدود وخطط ملء خزانات هذه السدود. كذلك عدم إشراك دول المصب في خطط التشغيل لتحقيق المنفعة المشتركة من هذه السدود.
إثيوبيا تجفف مناب أنهار جيبوتي
ويرى مراقبون أنه يمكن التعويل على الأثار السلبية التي عانت منها جيبوتي جراء الممارسات الإثيوبية والسياسات المائية الأحادية. على دول الجوار بجذب مواقف جيبوتي لمساندة القاهرة في قضية سد النهضة. وهو ما قد يكون أحد كروت الضغط الفاعلة على إثيوبيا بالنظر إلى مصالحها الأخرى مع جيبوتي. خاصة أنه أكثر ما يؤثر على الموقف الإثيوبي وأزمة ملف سد النهضة هو التواصل مع دول حوض النيل. وهو ما ظهر في ردود الفعل الإثيوبية تجاه أي تحرك مصري سوداني في منطقة حوض النيل.
مع الأهمية الجيوسياسية الخاصة لجيبوتي وموقعها على البحر الأحمر كونها المنفذ البحري الوحيد والأقرب لإثيوبيا. إذ تمدها بشكل كامل من خلال طرق وخطوط سكك حديدية. واستطاعت أديس أبابا ربط علاقتها بجيوبتي بعدد من المشروعات الحيوية حيث تم توقيع اتفاق لمد خط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي بتكلفة 4 مليارات دولار. فضلاً عن إمداد جيبوتي بالمياه من قبل إثيوبيا من خلال توصيل المياه العذبة إلى إقليم صبيح في جيبوتي بواقع ألف متر مكعب يوميًا. وهو ما تعتبره جيبوتي مساهمة إثيوبية في تعزيز الأمن المائي لها.
كانت العلاقات بين إثيوبيا وجيوبتي قد مرت بحالة من الفتور مع التقارب الإثيوبي الإريتري منذ تولي آبي أحمد السلطة. وهو ما تعتبره جيبوتي حتى الآن تهديدًا لمصالحها السياسية والاقتصادية وأمنها القومي. حيث كشفت مذكرة مسربة من وزارة الخارجية الجيبوتية في 2018 إلى سفراء جيبوتي حول العالم عن قلق من تقارب إثيوبي مع إريتريا. كذلك وصفت سياسيات آبي أحمد بالمتهورة. كما بدأت تحركات ضد إريتريا في الأمم المتحدة لطلب الوساطة من أجل إنهاء النزاع الحدودي المسلح بينهما.
ورغم محاولات أبي أحمد التقريب بين إريتريا وجيوبي منذ مجيئة للسلطة بعد المصالحة التاريخية لبلاده مع إريتريا. إلا أن هذه المحاولات لم تظهر أي نتائج واضحة حيث ظلت جيبوتي بعيدة عن لقاءات وقمم أسمرة التي ضمت الصومال وإريتريا وإثيوبيا. بينما أصبح تقاربه مع إريتريا مصدرًا لتأجيج النزاع مع التنافس على مدى الاستفادة من الاحتياج الإثيوبي للموانئ التي تمتلكها البلدين على البحر الأحمر.
الأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية لجيبوتي
تتمتع جيبوتي وهي الدولة الإفريقية العربية الإسلامية، بموقع استراتيجي خاص على المدخل الجنوب لحوض البحر الأمن. خاصة عند مضيق باب المندب الذي يمثل موقعًا محوريًا لحركة التجارة العالمية. وهو ما يماثل في أهميته قناة السويس كمدخل شمالي وباب المندب كمدخل جنوبي. وهو ما يعظم من أهمية التعاون مع مصر وفق الترابط الجغرافي وموقع الدولتين الخاصة على أهم ممرات الملاحة العالمية.
وتعوّل القاهرة أيضاً على الأهمية الاقتصادية في التعاون مع جيوبتي بالنظر إلى كونها بوابة القارة الأفريقية الشرقية. ومقر دول مجموعة الإيجاد IGAD، الذي يضم إثيوبيا، والسودان، وجنوب السودان، والصومال، وكينيا، وجيبوتي، وأوغندا. فضلاً على عضويتها في تجمع التبادل التجاري الحر لجنوب شرقي أفريقيا COMESA الذي يضمّ في عضويته 19 دولة منهم مصر.
تعاون عسكري
إلى جانب التعاون العسكري المصري مع السودان الذي بلغ أعلى مستويات التنسيق بعد مناورات حماة النيل التي تشارك فيها أهم وحدات الجيش المصري. وقعت عدة اتفاقيات ثنائية للتعاون العسكري مع دول حوض النيل منها أوغندا وبوروندي. وهي التحركات التي بدأتها مصر بعد تصاعد النزاع حول سد النهضة الإثيوبي. والرسائل الضمنية التي تخللت لغة التهديد التي حملتها عدة خطابات للرئيس السيسي وتحذيره من المساس بالأمن المائي المصري. واعتباره خط أحمر ضد الممارسات الإثيوبية ونيتها فرض الأمر الواقع باتمام الملء الثاني لسد النهضة.
في زيارة السيسي لجيبوتي كان الجانب العسكري حاضرًا أيضًا حيث أشار المتحدث باسم رئاسة الجمهورية السفير بسام راضي. إلى أن المباحثات بين الرئيسين شملت تطوير أشكال التعاون العسكري. كما أشار إلى عدة ملفات تشملها الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين من أجل دعم جهود مكافحة الإرهاب. وجميع أشكال الجريمة المنظمة بمنطقة القرن الأفريقي. وحماية الأمن في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، والتصدي لأي محاولات من أطراف من خارج الإقليم.
وتحظى جيبوتي بأهمية عسكرية خاصة في منطقة القرن الإفريقي بالنظر لموقعها الجغرافي حيث يوجد بها 9 قواعد عسكرية عاملة. تضم 6 قواعد للولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والصين، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا. إضافة إلى 3 قواعد فرنسية، بينها قاعدة بحرية، ومطاران. بينما بدأت قوى فاعلة في الشرق الأوسط على رأسها السعودية والإمارات في محاولات لامتلاك قاعدة عسكرية، في جيبوتي لا تزال قيد المشاورات.
وتبدو التحركات المصرية في مجملها محاولة لكسب أرضية على الساحتين الإفريقية والدولية من خلال حشد مواقف داعمة لها في أزمة سد النهضة. مع استمرار التعنت الإثيوبي وفشل كافة المساعي الدبلوماسية ومحاولات الوساطة الدولية. بشأن الملء الثاني للسد. لكنها قد تكون بداية لشراكة استراتجية حقيقة جديدة تغلب عليها تحقيق المصالح المتبادلة للاستفادة من الأهمية والمزايا الخاصة لدول الجوار الأفريقي.