يتم تمويل التنمية في معظم دول العالم عن طريق الضرائب العامة وعوائد الصادرات الزراعية والصناعية وعوائد قطاع الخدمات. وتشكل الديون قيدًا على عملية التنمية حيث تخضع الدولة المدينة لشروط الدول والهيئات المانحة فلا يوجد من يعطي قروض بدون شروط.

اقرأ أيضًا.. سد النهضة| حكايات مما وراء السد (6)

وعادة تغل الديون يد صانع السياسة الاقتصادية وتشكل عبئ على التنمية وليس دعمًا لها. وكانت مصر في خلال الثمانينيات من القرن الماضي تتوسع في القروض الخارجية ولكن بعد مشاركة مبارك في حرب تحرير الكويت ذهبت مصر إلى نادي باريس وطلبت إسقاط جزء من ديونها الخارجية بلغ 43 مليار دولار. بعدها حدث تحول في سياسة الاقتراض بتخفيض الاعتماد على الديون الخارجية وزيادة الاعتماد على الديون المحلية.

بلغ حجم الديون المحلية في يونيو عام 2010 حوالي 808.4 مليار جنيه والديون الخارجية 33.7 مليار دولار وبلغت خدمة الديون المحلية والخارجية 117.3 مليار جنيه.

واستمرت نفس السياسة حتى عزل محمد مرسي في يونيو 2013 حيث بلغت ديون مصر المحلية 1.4 تريليون جنيه وديون مصر الخارجية 43.2 مليار دولار وخدمة الدين 218.3 مليار جنيه. وبذلك ارتفعت ديون مصر ما بين 2010 و2013 خلال حكم المجلس العسكري والإخوان 635.7 مليون جنيه كديون محلية و9.5 مليار جنيه ديون خارجية كما ارتفعت أعباء خدمة الديون بقيمة 101 مليار جنيه.

عند وصول الرئيس السيسي للحكم في يونيو 2014 بعد عام من حكم الرئيس عدلي منصور كانت الديون المحلية وصلت 1.7 تريليون جنيه والديون الخارجية 46 مليار دولار وأعباء خدمة الديون 429.5 مليار جنيه. وبذلك ارتفعت الديون المحلية خلال سنة حكم المستشار عدلي منصور 300 مليار جنيه والديون الخارجية 2.8 مليار دولار وأعباء خدمة الديون 211.2 مليار جنيه.

ثم جاء الرئيس السيسي في يونيو 2014 واعتمد على الديون المحلية والخارجية في تمويل التنمية والمشاريع الكبرى التي بدأ فيها وقفزت الديون بشكل ضخم.

حيث وصلت الديون المحلية في يونيو 2020 إلى 4.3 تريليون جنيه والديون الخارجية إلى 123.5 مليار دولار مع فرق التعويم حيث كانت قيمة الدولار حتى 2016 تتراوح ما بين 6 – 8 جنيهات ووصلت بعد اتفاق الصندوق إلى 18 جنيهًا ثم انخفضت إلى 16 جنيه في عام 2021. وارتفعت أعباء خدمة الديون إلى تريليون جنيه ما بين أقساط وفوائد.

بذلك تكون ديون مصر المحلية خلال سنوات حكم الرئيس السيسي ارتفعت 2.6 تريليون جنيه والديون الخارجية بـ77.5 مليار دولار (1.2 تريليون جنيه على أساس سعر صرف الدولار اليوم 16.6 للجنيه). كذلك ارتفعت أعباء خدمة الديون إلى تريليون جنيه بما يشكل عبئ على التنمية وعلى الاستقلال الاقتصادي وخضوع كامل لشروط المقرضين.

فرق كبير بين الاستدانة لتمويل مشرعات إنتاجية ستدر عائد سريع يمكن منه سداد الديون وبين الاستدانة لتغطية الاحتياجات الاستهلاكية للطعام والدواء. أو الإنفاق على مشروعات الطرق والكباري والأنفاق والقطار المعلق، أو الإنفاق العقاري الذي يعد استثمارًا طويل الأجل وهو لا يسمح بتوفير أعباء خدمة الديون التي تجاوزت 1000 مليار جنيه. لذلك يصبح سداد الأقساط والفوائد عبئ ثقيل على الاقتصاد المصري وقيد على الاستثمار في مختلف المجالات.

لنبحث إذن كيف يتضح ذلك في مشروع الموازنة المعروض علي مجلسي النواب والشيوخ عن العام المالي 2021/2022.

مشروع الموازنة الجديد

قيمة موازنة مصر للعام المالي القادم تبلغ حوالي 2.5 تريليون جنيه تمثل الضرائب والمنح والإيرادات الأخرى 55% من موارد الموازنة. بينما يمثل الاقتراض وإصدار الأوراق المالية من أذون وسندات وغيرها 43% من قيمة الموازنة أي ما يعادل 1068 مليار جنيه. وبذلك يكون ما يقرب من نصف الموازنة الجديدة يمول بالديون المحلية والخارجية. ووفقًا لمشروع الموازنة تبلغ فوائد الديون 579.6 مليار جنيه كما سيتم سداد أقساط ديون 593 مليار جنيه.

إذا تأملنا تفاصيل بند الفوائد نجد الآتي:

– الفوائد الخارجية في 2014/2015 كانت 5.3 مليار جنيه ووصلت في 2021/2022 إلى 59.4 مليار جنيه.
– فوائد سندات البنك المركزي ارتفعت من 34.3 مليار جنيه إلى 61.9 مليار جنيه خلال نفس الفترة.
– ارتفعت فوائد الأذون على الخزانة العامة من 68.5 مليار جنيه إلى 159.2 مليار جنيه.
– كما ارتفعت فوائد سندات الخزانة العامة من 78.2 مليار جنيه إلى 279.1 مليار جنيه.

لذلك أصبحت أعباء خدمة الديون المحلية والخارجية تشكل عبئ كبير علي الموازنة وعلي تخصيص الموارد وبنود الإنفاق.

آخر بيانات متاحة عن المديونية في يونيو 2020 وبالتالي لدينا سنة تقريبًا لم تعلن فيها وزارة المالية من خلال نشرتها الشهرية أي بيانات عن قيمة ارتباط الديون الجديدة محليًا وخارجيًا. كما أن آخر بيانات منشورة قدرت قيمة الديون المحلية بحوالي 4.3 تريليون جنيه والديون الخارجية بلغت 123.5 مليار جنيه (1.9 تريليون جنيه) ليرتفع إجمالي الديون إلى 6.2 تريليون جنيه وهو ما يمثل 87.3% من الناتج المحلي الإجمالي في موازنة 2021/2022 رغم غياب قيمة القروض المحلية والخارجية من يولية 2020 وحتى الآن. لم تقف المشكلة عند الحد.

إعلان وزير المالية مبادلة الديون

نشرت الأهرام في 27/4/2021 خبراً بعنوان “وزير المالية: ديون مصر المحلية مؤهلة لمقاصة أوروبية نوفمبر المقبل”. قال وزير المالية محمد معيط، إن مصر تتوقع أن يكون دينها المحلي مؤهلًا للمقاصة الأوروبية ومفتوحًا أمام عدد أكبر من المستثمرين الأجانب بحلول نوفمبر. ووقعت مصر في 2019 اتفاقًا للربط عبر الحدود مع يورو-كلير، أكبر دور المقاصة الأوروبية لتسوية معاملات الأوراق المالية. وكان مجلس الوزراء وافق العام الماضي على تأسيس شركة المقاصة الجديدة في إطار الجهود المتواصلة لتخفيض تكلفة الدين العام، وستسمح بإدراج الديون المصرية للتداول عبر منصة يوروكلير.

وزير المالية

وقال معيط في كلمة أمام غرفة التجارة الأمريكية إن مصر تتوقع أيضًا الانضمام إلى مؤشر جيه.بي مورجان للسندات، وهو ما قد يدعم سوقها للسندات بالعملة المحلية. وعرض معيط تفاصيل استراتيجية مصر لإدارة الدين، والتي تشمل خفض نسبة مدفوعات الفائدة إلى الناتج المحلي الإجمالي لتصبح 6.9% بحلول 2023-2024، من 8.8 % في السنة المالية الحالية.

بعد إغراق مصر في الديون المحلية التي تجاوزت 4.3 تريليون جنيه تم تأسيس شركة لمبادلة الديون وإعلان بدأ تحويل الديون المحلية إلى السوق الدولية وهو ما يعني تحويلها إلى عملة دولية كالدولار. وبالتالي تدفع مصر الفوائد بالدولار بدلاً من الجنيه بما يزيد الضغوط على الاحتياطي النقدي المصري ويعرض السيادة الاقتصادية للخطر بتحويل الدائن من البنوك المحلية إلى السوق الأجنبي المفتوح ولا نعرف من الذي سيشتري ديون مصر؟!

أعلنت وزارة المالية أنها تستهدف “خفض تكاليف الاقتراض من خلال تمديد متوسط آجال استحقاق ديونها. خاصة بعد أن ارتفعت نسبة صافي إصدارات السندات إلى أكثر من 110% من الطروحات المحلية مع نهاية الشهر الماضي، متجاوزة الهدف البالغ 80% الذي أرادت الدولة بلوغه بحلول يونيو. كما تشير المعلومات إلى أنه من الممكن أن تعاود الحكومة طرح عدد من المساهمات في الشركات العامة في البورصة لجذب المزيد من الاستثمارات.

كما تشير المعلومات إلى أن صندوق مصر السيادي أصبح لديه القدرة على جذب الاستثمارات للعديد من الشركات من خلال الاتفاقيات الثنائية التى أبرمها مع عدد من دول الخليج والصناديق السيادية فيها.‎ وتشير المعلومات إلى أن الحكومة تعمل أيضًا على تسهيل مساهمات المال الأجنبي في أي من الشركات (الأهالي – 3 مارس 2021).

هكذا ربطت المالية بين الديون وبيعها في الأسواق الدولية والخصخصة للشركات المملوكة للدولة والتي بدأت بشركة الحديد والصلب وبذلك يتزايد دور صندوق مصر السيادي في عملية بيع الديون وبيع القطاع العام. وهو ما يعكس مخاطر تحويل ملكية الديون والأصول إلى مستثمرين أجانب أو مبادلة الديون بأصول حكومية عن طريق صندوق مصر السيادي.

وبذلك تكون قضايا تضخم المديونية والخصخة قد دخلوا في منعطف جديد برعاية صندوق مصر السيادي ولتصبح السيادة الاقتصادية لمصر تحت هيمنة المستثمرين الأجانب.