فى نهاية الثمانينات تمكنت من مشاهدة فيلم (الأسد فى فصل الشتاء) أعجبت حينها بأداء شخصية ريتشارد قلب الأسد، ووقعت فى حب الممثل أنتوني هوبكنز، وبعدها فى النصف الأول من التسعينيات كان فيلم “صمت الحملان” الذى حصل عنه لأول مرة على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل؛ فأصبح أحد أهم الممثلين الذين أبحث عن أعمالهم وأشاهدها مروراً بـ”الرجل الفيل، دراكولا، قناع زورو، الفطرة، أساطير الخريف، بقايا اليوم، ثور، الإسكندر، هيتشكوك، الحافة، التنين الأحمر، هانيبال”، انتهاءً بفيلم “الباباوان”، والذى شاركه فيه البطولة الممثل القدير جوناثان برايس.

وكان يقيني قبل مشاهدة أيّ فيلم منها أنه سيمنحنى حالةً من المتعة الفكرية أو الثقافية أو الإنسانية، وجدلاً داخليًا فى البحث والتفكير حول قضية أو رسائل هذا الفيلم.

وأخيراً شاهدت فيلم “الأب the father

https://www.youtube.com/watch?v=60wDuQMJl2Q

أنتونى هوبكنز حصل للمرة الثانية فى تاريخه على جائزة أوسكار أفضل ممثل عن دوره فى هذا الفيلم، والمأخوذ من نص مسرحية تحمل نفس الاسم (الأب)، وشاركته البطولة فى دور ابنته الممثلة أوليفيا كولمن.

البريطانى كريستوفر هامبتون شارك فى كتابة سيناريو الفيلم، مع مخرجه الفرنسى فلوريان زيلر، والذى سبق له إخراج العديد من المسرحيات منها مسرحية الأب 2012، وحصل حينها على جائزة موليير كأفضل عمل مسرحي، ويعد هذا الفيلم هو أول تجربة إخراج سينمائى لزيلر.

حصل فيلم الأب أيضًا على جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو مقتبس، ولم يكن ذلك مستغرباً؛ فإبداع زيلر وهامبتون فى السيناريو والحوار والإخراج كان استثنائياً، ولولا ما قدماه كان يستحيل على أىِّ مشاهد أن يكون فى هذه الحالة، مهما كان قدر الممثل وقدراته الإبداعية.

كأنك غارقاً معه فى توهان لا تعرف فيه ساعات الليل من ساعات النهار، التشويش يسلب منك كل يقين، ترتجف مع كل نوبات خوفه وقلقه، وتضحك من كل قلبك مع رقصته الساحرة، وتبكى بكل حرقه فى مشاهد ضربه بالقلم

فقد نجحا فى تمهيد الأرض التي تساعد هوبكنز بأدائه العبقري على نقل كل مشاعر الخوف والارتباك والحيرة لعقل وقلب وروح المشاهد، ليصبح جزءًا من هذه الحالة تُسقط عنه كما تُسقط عن الأب/البطل كل الحواجز المكانية والزمنية أثناء المشاهدة، ليجعل الخرف والشيخوخة التى يعاني منهما الأب، سؤلاً يؤرِّق المشاهد ذاته، ويجتهد في البحث عن إجابات داخل عقله، بل ويجتهد فى متابعة الفيلم ويرغب فى استرجاع بعض مقاطع منه ليشاهدها على مهل، فتداخل العوالم، والتناقض السريع والصادم في تتابع مشاهد الفيلم يجعلك تعيش كل أعراض الزهايمر والشيخوخة كأنهما جزء من روحك، وكأنك غارقاً معه فى توهان لا تعرف فيه ساعات الليل من ساعات النهار، التشويش يسلب منك كل يقين، ترتجف مع كل نوبات خوفه وقلقه، وتضحك من كل قلبك مع رقصته الساحرة، وتبكى بكل حرقه فى مشاهد ضربه بالقلم، ولا تتوقف عن طرح التساؤلات:

هل الأب فى شقته أم شقة ابنته أم فى مصحة ودار مسنين؟، هل ابنته متزوجه أم لا؟، هل اعتدى زوجها عليه بالضرب أم لا؟ هل تعيش ابنته فى لندن أم باريس؟، هل تسعى لدعمه أم للتخلص من عبء مرضه وشيخوخته؟، هل يخاف من ابنته لأنها تطمع فى شقته كما يظن أم لا يشعر إلا بالطمأنينة فى وجودها، ويبكى فى انتظارها كبكاء الطفل فى انتظار أمه؟.

أنتونى هوبكنز في فيلم the father
أنتونى هوبكنز في فيلم the father

انتهيت من مشاهدة الفيلم، وكنتُ أتمنى ألا أنتهى، فلم تتملكني بعدها إلا مشاعر الخوف والقلق، وربما الغضب والعجز من مصير محتوم قد تفرضه الأيام على أرواحنا وأرواح من نحبهم.

أبدع هوبكنز فى أداء الدور كعادته، لكن السيناريو نازعه البطولة عن جدارة واستحقاق، وفضلاً على أن السيناريو علم، لكنه أيضاً فن يحتاج إلى موهبة تعكس التوصيف الدقيق والتفصيلي للمشاهد الموجودة بقصة الفيلم، وما يحمله من نص أدبى يشكل الحوار بين فريق العمل.

الفن ليس ترفيهًا ولا تسلية -مع كل التقدير لهما- لكنه ضرورة إنسانية ربما تساعدنا فى كشف ذواتنا، ومحاولة فهم هذا العالم.