طرحت التغيرات الجديدة في عباءة الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، تساؤلات حول مرحلة فنيّة يجرى الإعداد لتفاصيلها. هل تأتي بصبغة جديدة في المضمون، أم أنها إطار توسعي هروبًا من اتهامات بالاحتكار، وهل الوجوه الجديدة لهيكل الشركة تحمل في حقيبتها رؤية لسياسيات مغايرة، أم أنها نتاج “صراع المناصب”؟
الوسط الفني ينظر إلى “المتحدة” على أنها المتحكم الرئيس في السوق الدرامي، وبسياستها يتحدد شكل الصنعة. وفيما يتهم صنّاع ومنتجون صغار الشركة بممارسة سياسات احتكارية، تنفي الأخيرة ذلك وتقول إنها قائمة على التنوع.
ماذا يعني إدراج “المتحدة” بالبورصة؟ ونوعية المحتوى الدرامي
لهذا الغرض تحديدًا، تضمنت السياسات الجديدة للشركة طرح ما يصل لـ30% من أسهمها في البورصة المصرية بحلول 2024، وهو ما يسمح لها بعقد شراكات مع شركات أخرى، على غرار إعلانها التعاون مع مجموعة “إم بي سي” السعودية.
إدراج الشركة بالبورصة يعني أنها ستخضع لسياسات مالية جديدة لم تكن مضطرة إليها في السابق، خاصة ما يتعلق بالأرباح والخسائر، كما أنها ستخضع لهيئة الرقابة المالية وستكون مُلزَّمة بنشر ميزانيتها وقوائمها المالية للرأي العام، وهذا يعني بضرورة الحال أن تكون أعمالها الفنيّة خاضعة لدرجة عالية من التدقيق المسبق، ويمكن قراءة ذلك على أنه محاولة لتصحيح مسار خسائر باهظة تكبدتها الشركة خلال السنوات الماضية.
لكن هل هذا المسار سيفرض على الشركة تغيير سياستها بشأن المحتوى الفني، باعتبار أن أبرز الأعمال انتشارا خلال الموسمين الأخيرين هما “لعبة نيوتن” و”بـ100 وش”، لا ينتميان لعيّنة “المسلسلات الوطنية” التي أنفقت عليها مئات الملايين، الأول أنتجته شركة السعدي والثاني العدل جروب، وهما أحدث المنضمين لمظلة الشركة حديثًا.
وهل انضمام محمد السعدي لعضوية مجلس إدارة الشركة وليس مجرد متعاون عبر شركته “ميديا هب“، يأتي لهذا الهدف، باعتبار أن مسلسله “لعبة نيوتين” هو “ترمومتر” اختبار السوق لمنتجات جديدة من هذا النوع في الأعوام القادمة.
التوسع الخارجي وملامح المنتجات الجديدة
رغم ذلك فإن، أحد الملامح الواضحة من الوجه الجديد للمتحدة، يتمثل في هدفها التوسعي خارج السوق المصرية، من خلال اتفاق الشراكة مع “إم بي سي”، سواء ما يتعلق بإنتاج أعمال مشتركة أو شراء الشركة السعودية حقوق بعض أعمال “المتحدة” وبثها خارج مصر.
هذا التوسع الخارجي يقتضي بضرورة الحال أن يخرج جزء من الإنتاج الدرامي من محيطه المصري المحلي، ما يعني أن المسلسلات التي تتناول الحالة المصرية سياسيًا أو اجتماعيًا لن تكون مناسبة للمنصات الخارجية، ويشير ذلك إلى أن مساحة الأعمال التي تحمل قصصًا درامية مختلفة على غرار “لعبة نيوتين” أو الكوميدية كـ”بـ100 وش” مرشحة للحصول على مساحة كبيرة في الكعكة الإنتاجية مستقبلاً.
كما أن إعلان الشركة اعتمادها على عدد كبير من شركات الإنتاج يعني أنها ستتخلى عن سياستها السابقة التي تحصر موسمها الإنتاجي في السباق الرمضاني، وتتحول إلى الإنتاج على مدار العام، بشكل متساوٍ في الكثافة، وهو ما قرأه متابعون فنيون على أنه تحوّل إيجابي في سياسة الشركة. كل ما سبق يمكن استنتاجه من مفرادات استخدمتها الشركة في مؤتمرها الصحفي، وهي عبارات: “إعادة ضبط الإنتاج، ضبط الأسعار، توزيع عادل، التعاون مع شركات إنتاجية”.
التنوع والكثافة.. هل يتخلى الصُّناع عن الأفكار التقليدية؟
سواء كان اعترافًا ضمنيًا بوجود خلل في تجاربها السابقة استوجب تصحيح المسار، أو أنها بصدد مرحلة توسعية، فإن الشركة التي تسيطر على السوق الإعلامي والدرامي في مصر، وضعت سيناريو مرحلة جديدة يعتمد فيما يبدو على التنوع والكثافة.
هذا التنوع المتوقع في الإنتاج الدرامي، يفتح الباب لاعتماد الشركة – عبر أذرعها الإنتاجية- على مزيد من الوجوه، وتخليها عن فنانين بأعينهم جرى إعادة تدويرهم في حزمة “أعمال وطنية” خلال السنوات الأخيرة، من بينهم أمير كرارة الذي تقدم أعمالاً تتعلق بـ”تضحيات الجيش والشرطة والحرب على الإرهاب”، عبر أحزاء مسلسل “كلبش”، ثم “الاختيار”، قبل أن يفشل في أحدث وجه عبر “نسل الأغراب”.
غياب التنوع والخيال عن بقية الأعمال حتى وإن حقق بعضها نجاحًا جماهيريًا مثل “البرنس” للفنان محمد رمضان في موسم 2020، جعل الأعمال السابقة تظهر بشكل نمطي حتى أصبحت بعيدة عن التنوع، كونها قدمت اللون والسيناريو الواحد الذي جعلها تكرر الكثير من الأعمال مع الاكتفاء بتغيير الوجوه الفنية، وهو ما كبدها خسائر واسعة خلال عام 2017 قدرت بنحو 450 مليون جنيه، ومن ثم قررت تغيير مسار عملها بفتح المجال التشاركي مع عدد من العاملين في سوق الإنتاج الفني بشكل محدود في الموسم الرمضاني الماضي مما عوض كارثتها المالية في 2017.
لكن على مستوى الأفكار، هل تتخلى الشركة ومؤلفوها عن سيناريوهات “القتل والتدمير والحرق والبلطجة وحواري المخدرات”، مقابل تناول قضايا أخرى أكثر اشتباكًا مع أفكار المجتمع وهمومه، هل يقتنع القائمون على الإنتاج أن تناول المجتمع الصعيدي بات أمرًا مستهلكًا.
آفاق المنافسة في ظل قيادة اقتصادية غير فنية لـ”المتحدة”
الناقدة الفنية، ماجدة خير الله، ترى أن صناع الإنتاج الفني هم الأكثر دراية بطرق وسبل الإبداع، فعندما كان هناك ما يسمى بقطاع الإنتاج واكبه إبداع مثالي نتيجة وجود ممدوح الليثي الذي ينتمي إلى أسرة فنية عريقة على رأسه، والذي قدم ومعه أشقاؤه إنتاجا حقيقيا وإبداعا لا يمكن الخلاف عليه، وفق قولها.
تضيف خير الله أن المنافسة هي نافذة الأمل الوحيدة للإبداع وعادة ما ينتج عنها تقديم الأفضل، وأن توجه الشركة المتحدة نحو التعاون مع شركات متنوعة سيخلق مجالاً لظهور الوجوه الشابة الموهوبة ويفتح المجال أكبر أمام جيوش العاملين خلف الكاميرات بعد زيادة معدل وحجم الإنتاج، معتبرة أن توجيه الرسالة لا يستوجب الاحتكار بل يحتاج إلى مناخ إبداعي ليصل بالشكل اللائق، حتى لا تتكرر أزمة مسلسل “أحمس” الذي ظهر فيه قدر كبير من الفساد الواضح والمحاباة على حساب العمل سواء بتقديم ممثل غير مناسب أو الوقوع في براثن الأخطاء التاريخية التي لا تغتفر.
وبرأيها، فإن المجال الفني يحتاج إلى الدعم الاقتصادي، ولكنه خارج نطاق البيزنس، مشيرة إلى أنها “لا تشكك في قدرات مجلس الإدارة الجديد للشركة المتحدة ولكن لا يمكن اعتبار هذه الأسماء معبرة عن الإنتاج الفني حتى الآن”، ورغم أن أحدهم محمد السعدى صانع “لعبة نيوتن”، وهي من أهم الأعمال الدرامية ولكنه قدم ذلك من خلال شركته الخاصة، وأن توقع أدائه في شركة بها مئات الرموز بأفكار مختلفة صعب في الوقت الراهن.
والتشكيل الجديد لمجلس إدارة الشركة يتمثل في رئاسة حسن عبد الله (أحد الوجوه المصرفية والاستثمارية)، وعضوية: أشرف سالمان (وزير الاستثمار الأسبق)، عمرو الفقي (الخبير الاقتصادي)، محمد سعدي (شركة ميديا هب)، تامر مرسي (الرئيس السابق)، محمد سمير (خبير قانوني).
الموازنة في التناول
ومع ذلك، ترى ماجدة أن الدراما الرمضانية في موسمها الأخير طرحت أعمالاً جيدة، وتنوعت بين ما هو اجتماعي وحركي، مضيفة أن الدراما ليست بالكم؛ فالأهم هو نوع المنتج الذي يتم تقديمه للجمهور، خاصة تلك التي تناقش القضايا السياسية والوطنية، وهنا الأمر يحتاج إلى الموازنة، فالتمثيل عمل فني أساسه الإمتاع، ولا يمكن أن يتحول لدعائي أو توفيقي.
وعن مستقبل الدراما المصرية في ظل التغيرات الأخيرة، ترى أنه يصعب توقعها خاصة أن مجلس إدارة الشركة المتحدة مجموعة من القامات الاقتصادية الكبيرة، والعمل الدرامي أو الإبداعي يحتاج لطرف اقتصادي ومعه المتخصص الفني، كاشفة أن فتح الباب أمام الخبرات الفنية وشركات الإنتاج وفقاً لما تم الإعلان عنه سيفتح بالتالي مساحة تنافس وهي عادة ما تُنتج القدر الكافي من الإبداع.
مراحل تغيير مسار الدراما
بالعودة إلى الوراء قليلاً، سنجد أن الدراما المصرية تميزت في مرحلة ما قبل ثورة 25 بقربها نوعاً من الحياة القائمة بالفعل فهى خافتة ناعمة توحي بأن الحياة على ما يرام، دارت أحداثها حول تسليم الأجيال واختلاف ثقافاتهم وكذلك تكوين الأسرة المصرية والحنين الدائم للماضي، وتمكن أسامة أنور عكاشة من تقديم ذلك النموذج بشكل واقعي ومريح تماما في ذلك الوقت.
وعالجت الدراما الكثير من القضايا الاجتماعية والتي كانت لها الأولوية باستثناءات بسيطة في تلك التي تطرقت بشكل خافت نحو السياسة من خلال ما قدمه محمد فاضل في مسلسليه “سكة الهلالي والعائلة والناس”، إلى أن باتت الثورة وشيكة وملموسة نسبيا فبدأت الدراما تتجه بشكل غير معلن نحو الجانب السياسي في مسلسلي “الجماعة” و”أهل كايرو”.
حماسة ما بعد الثورة ألهمت الكثير من المخرجين وبدأت الدراما هنا في كسر التابوهات التي لم يكن هناك مساحة للمساس بها بأي شكل في الوقت السابق وبرز ذلك بشكل محدد في مسلسلي “ذات” و”موجة حار”.
ومالت الدراما في تلك المرحلة إلى التعبير عن مساحة الحرية المطروحة فناقشت دور رجال الشرطة بل وحولت بعض النماذج للكوميديا الساخرة وهو ما لم يكن مطروحاً من قبل.
مساحة الحرية خلقت مناخًا للإبداع في تلك الفترة وأصبح عام 2013 هو ذروة الإنتاج الفني الدرامي سواء من حيث الكم أو ما تم تقديمه من تحول درامي في التعاطي مع الأحداث المطروحة وطريقة عرضها للجمهور الذي بات متحمساً أيضاً لرؤية الكثير من المشاهد التي عاشها في فترة الثورة وما تلاها من أحداث وتغيرات في موازين القوى.
استمر الحال كذلك لسنوات حتى أحكمت شركة إعلام المصريين قبضتها على السوق ومنها إلى “المتحدة” لتفرد مساحة أكبر للصوت الرسمي من خلال مسلسلات تبرز تضحيات رجال الشرطة والجيش، بداية من كلبش وصولا لمسلسل الاختيار، وهجمة مرتدة وغيرها من الأعمال التي تم تصنيفها فنيا بالدراما التوعوية والتي تم فيها استخدام أدوات التوثيق المختلفة لفتح الملفات المختلف عليها مجتمعياً بين التأييد والمعارضة خاصة تلك التي تتعلق بقضايا الإرهاب والتعامل معه.
“المتحدة” وتقليص “القماشة”
يبرز تقليص “القماشة” في الطريقة التي اختارتها شركة سينرجي للتحكم في السوق، وذلك بدأ رسميا في موسم 2019، بعد خسارة أرقام كبيرة في مواسم سابقة، باجتماع مع 13 مؤلفًا وتوجهيهم إلى تخفيض الميزانية واستبدال مواقع التصوير المصرية بالأجنبية، لتنتج سينيرجي 15 مسلسلًا من أصل 24 مسلسلًا أنتج لهذا العام.
خلال هذه السنوات أيضا خرجت شركات كبرى من المنافسة، بطرق مختلفة، وهو ما حصر المنافسة في مجموعة بعينها، إلى أن قررت فتح أبوابها لتوسيع قاعدة المشاركين في الدراما في ضوء التغيرات لتحقيق عدالة التوزيع داخل السوق الدرامي، واستقطاب المبدعين للارتقاء بمستوى الأعمال المقدمة.
المنتج الفني، جمال العدل يرى أن الأمور تسير في نصابها الصحيح الآن، وأن هناك نظاما جديدا في طور التطبيق، لافتا إلى أن المناخ لم يكن مغلق بشكل كامل بدليل النجاح الكبير لمسلسلي بـ 100 وش وخيانة عهد في موسم رمضان 2020 وغيرها من المسلسلات التي فرضت حضورها بقوة، معتبرا أن التغيير قد يزعج في بدايته ولكن ما يحدث سيعود بالنفع على الجميع وسيغير خارطة توزيع العمل في المجال الفني مستقبلاً.