في إجازة عيد الفطر شاهدت عبر إحدى القنوات فيلما مصريا اسمه “كابتن مصر”، إنتاج عام 2015، وهو من أفضل الأفلام المصرية الكوميدية التي تدعو إلى تطوير التعامل مع السجناء، والبعد عن سياسات الردع والعنف في التعامل مع المسجونين، حيث يرسم لنا الفيلم كيفية تطوير التعامل مع السجناء من خلال بطله الذي يزاول كرة القدم، والذي يستطيع من خلال قالب كوميدي إقناع إدارة السجن بتكوين فريق كرة قدم من السجناء، حتى ينتهي الأمر بهم لملاقاة فريق سجن آخر من ألمانيا، وكم أسعدتني فكرة الفيلم، وكيف أن يكون الفن مفيداً للمجتمع، ومن أهم قنوات الإصلاح.
لكن وعلى صعيد أرض الواقع، فوجئت بتعنت إدارة السجن في تعاملها مع الأستاذ محمد رمضان المشهور بمحامي الغلابة، وذلك بعد أن كشفت نتيجة الكشف الطبي الموقع عليه داخل السجن أنه يعانى من انسداد في الشريان التاجي وتورم في الرجل ما يحتاج لخضوعه إلى فحوصات وأشعة، كما أن إدارة السجن امتنعت عن تحويله إلى متخصص في أمراض القلب للكشف عليه ورفضت نقله إلى المستشفى، كما حمل رمضان إدارة السجن المسؤولية حال تعرض سلامته للخطر.
ومحمد رمضان المحبوس احتياطيًا على ذمة القضية 467 لسنة 2020، في سجن طرة تحقيق، والذي تعرضت حالته الصحية إلى تدهور مستمر منذ بداية حبسه احتياطيًا في عام 2018، وذلك في قضية مغايرة للقضية المذكورة وهي القضية التي اشتهرت بقضية السترات الصفراء، وقد تم إخلاء سبيله بعد أن أمضى ما يقارب العامين محبوسا احتياطيا على ذمتها، قبل أن يتم تدويره من داخل السجن على القضية الجديدة المذكور رقمها، ولم تشفع حالته الصحية المتدهورة والتي تقتضي خضوعه لرعاية طبية فائقة حيث يعاني من مشكلات صحية في القلب وضغط الدم والركبتين.
هذا يحدث في مصر، بينما في فنلندا، ذلك البلد الإسكندنافي، يمضي واحد من أصل ثلاثة سجناء عقوبتهم في «سجن مفتوح» في جزيرة سوومنلينا إحدى الجزر التابعة للعاصمة هلسنكي (جنوب غربي المدينة). هذا المبدأ يُعرف بـ«إعادة التأهيل الذاتي». وهو فعّال.
فثمة قناعة لدى الحكومة الفنلندية بأن اتّباع هذه السياسة قد يسهم في خفض نسبة الجريمة، إذ إن كل سجين لديه مفتاح غرفته (المصممة من الخشب) وليس «زنزانته»، وتوجد الغرفة في منطقة خضراء يفصلها عن الطريق العام أشجار وممرات خشبية لا أكثر. ويخلو المكان من عوائق حديدية وأبراج مراقبة. ويحق للسجناء الدخول والخروج من المجمع – السجن للعمل أو الدراسة في المدينة خلال النهار، وعلى رغم من هذه الحرية المطلقة لم يحاول أحد الهروب منذ إنشاء هذا المشروع.
يقول الروائي الشهير أنطون تشيخوف: «ليس السجناء وحدهم هم الذين يكتسبون خشونة وتشددًا؛ نتيجة العقاب البدني الذي يتعرضون له، ولكن أيضًا كل من شارك في تنفيذ هذا الفعل أو شاهده». هذا يعني أن معظم السجون والمعتقلات في العالم ليست في الواقع سوى قنبلة موقوتة – بمساجينها وسجانيها- جاهزة للانفجار في وجه البشرية، إذ إنه مثلما تتنوَّع الجرائم التي يدخل الناس بسببها إلى السجون، فإن نوع إعادة التأهيل الذي قد يستجيب له النزيل يختلف أيضًا من شخص لآخر.
كما تختلف خيارات إعادة التأهيل حسب طبيعة السجن، ونوع الجريمة، وفترة العقوبة. فيما قد يحتاج بعض السجناء إلى المشاركة في برامج متعددة لتنجح مهمة إعادة تأهيلهم، وقد أثبتت التجارب العملية في العالم مرارًا وتكرارًا، أن البرامج التعليمية في السجون تساعد على منح النزلاء فرصة ثانية، وكانت فرصة عودة النزلاء الذين شاركوا في البرامج التعليمية إلى ارتكاب جرائم العنف والعودة إلى السجن في غضون ثلاث سنوات أقل بنسبة 43%، مقارنة بمن لم يشاركوا في هذه البرامج، كما يؤكد علماء الجريمة أن فصول التثقيف في السجون تقلل بشكل كبير من معدلات العودة إلى الجريمة.
وتطبيقا لذلك، فقد أقامت جامعة أنديرا غاندي 94 مركزاً دراسيا في مختلف السجون لتقدم من خلالها مجموعة كبيرة من الفصول التعليمية المفتوحة والمهنية ، والتي من خلالها يستطيع السجين أن يحصل على شهادة معتمدة مجاناً تؤهله للحاق بسوق العمل، بل إنه في تجربة أكثر تطورا في بولندا حيث تم تطبيق الحد الأدنى للأجور على، مما يميزها عن أماكن أخرى حتى وإن كانت فرصة العمل غير متاحة لكل السجناء في أثناء فترة العقوبة، لكن الفرصة متاحة للقادرين على شغل وظائف من خلال شراكات مع الشركات المحلية، التي توفر فرصًا للعمل داخل السجون.
وهناك العديد من التجارب في مختلف دول العالم، ولكن لم يزل الوضع داخل مجتمع مصلحة السجون المصرية لا يخفى على أحد ما تمثله تجربة السجن من صعوبات ومتاعب سواء على السجين أو أسرته، ولا يجب علينا أن ندفن رؤوسنا في الرمال، أو نغض الطرف عما تتعرض له بلادنا من مشكلات حيوية وضروري النظر إليها والسعي لحلها.
ومشكلة السجون المصرية من أهم المشكلات المجتمعية الواجب على الدولة وضعها نصب أعينها، والسعي لحلها من خلال خبراء في علم الجريمة أو علم الاجتماع، ولدينا العديد من الخبراء في المجالين، ولدينا دراسات قيمة مفيدة في هذه المشكلات، إذا ما سعت الحكومة إلى استخراجها من أدراجها. فما القيمة الحقيقية لما يقوم به المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في هذا المجال إن لم تقم الحكومة بالعمل نحو تحديث برامج التعامل مع المسجونين، وأن يتم الابتعاد عن فلسفة الردع سواء كان ذلك بطول العقوبة، وبما يتعرض له المسجون من معاملات تؤثر بالسلب على حياته المستقبلية وعلى مزاجه العام، وتطور حالته النفسية والعقلية، حيث يمكن أن توفر برامج إعادة تأهيل نزلاء السجون أموالًا للدولة إذا نجحت في خفض معدلات عودة السجناء للجريمة.
ولا يكون ذلك إلا من خلال اتباع السبل العلمية الحديثة في التعامل داخل السجون، والسعي نحو إصلاح ذات السجين، وتنمية قدراته واستغلال مهارته، ومساعدته في الحصول على تعليم مميز سواء كان على المستوى العلمي الأكاديمي أو المستوى المهني التطبيقي، كما ينبغي الإشارة إلى التطورات الحديثة في علم الجريمة والعقاب والتعامل مع المجرمين من خلال نسق إصلاحي تحت رعاية متخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس، وعدم اعتماد فلسفة الزجر كعقوبة إضافية للمسجونين.