تحت شعار “مليونية العدالة” تجددت الاحتجاجات الشعبية في السودان مع الذكرى الثانية لفض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019، للمطالبة بالكشف عن المتورطين عن جريمة فض الاعتصام بالقوة واستهداف المعتصمين المسالمين، حيث بدأت عدة تظاهرات اليوم في شوارع الخرطوم وصولاً إلى مقر القصر الجمهوري والنيابة العامة، فيما منعت قوات الأمن المحتجين من الوصول إلى مكان مقر القيادة العامة للقوات المسحلة ووضع سياجات حديدية.
وركزت مطالب المتظاهرين على محاكمة المتورطين في فض اعتصام القيادة وإصلاح الأجهزة الأمنية في البلاد، حيث طالب تجمع المهنيين السودانين قبيل انطلاق التظاهرات بتحويل التحقيق في جرائم فض الاعتصام للجنة دولية من مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية، إضافة إلى عزل العسكريين في المجلس السيادي واستبدالهم بآخرين ممثلين للقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى، بدعوى أنهم كانوا أعضاء المجلس العسكري الحاكم عند حدوث مجازر فض اعتصام القيادة، والمتهم الأول في تلك الجرائم.
كان مسلحون يرتدون زيا عسكريا أجهزوا على اعتصام المهنيين في 3 يونيو 2019، وفضوا اعتصاما لقوى الثورة يطالب بتسليم السلطة للمدنيين أمام مقر القيادة العامة للجيش، مما تسبب في مقتل 66 شخصا.
حينذاك، حملت قوى إعلان الحرية والتغيير، المجلسَ العسكري مسؤولية فض اعتصام القيادة العامة، بينما أكد المجلس أنه لم يصدر أمرا بذلك، في وقت ترددت اتهامات لقوات الدعم السريع، ونائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو وشقيقه بالتورط في الحادث بينما لم تنته مطالب الجهات المحلية و الدولية عن الإعلان عن أي نتائج التحقيقات أو الكشف عن أسماء المتورطين ومحاسبتهم.
الجنائية الدولية وتحقيق العدالة
مع مطالب القوى الثورية بدخول المحكمة الجنائية الدولية كطرف فاعل لتحقيق العدالة في جريمة فض اعتصام القيادة وملاحقة المتورطين في جرائم استهداف المدنيين، لا تزال جهود المحكمة في التحقيق في جرائم الإبادة في دارفور لم تحقق عدالة ناجزة، حيث لا يزال هناك خلافات في تسليم المتهمين.
المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية كانت قد أكدت في بيان صحفي قبل ثلاثة أيام أن المحكمة مستمرة في مطالبة الحكومة السودانية الانتقالية بتسليم كل المتورطين الذين صدرت بحقهم أوامر قبض مثل الجرائم التي ارتكبت في إقليم دارفور، ليمثلوا أمامها حيث كانت المحكمة الجنائية الدولية وجهت 31 تهمة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
وفتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات حول جرائم السودان في يونيو 2005، بعد إحالة قضايا متعلقة بالإبادة الجماعية من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة انتهت بإصدار أوامر اعتقال أشهرها ضذ الرئيس السابق عمر البشير.
ورغم تعهدات الحكومة السودانية بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية من أجل تحقيق العدالة الناجزة في السودان، إلا أنه لا يزال هناك عقبات من أجل منح محققي المحكمة إمكانية الوصول، دون قيود، لجمع الأدلة اللازمة لإجراء المحاكمة.
اقرأ أيضا:
لماذا تعود الدماء في دارفور إلى الواجهة؟
تعهدات حمدوك
وقبيل انطلاق التظاهرات أصدر رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك بيانا صحفيا تحدث فيه عن جهود حكومته لتحقيق العدالة واصفاً فض اعتصام القيادة بالحدث الإجرامي الذي قدم فيه الشعب السوداني عشرات من الشهداء المدنيين السلميين الذين ظلوا يحافظون على سلمية ثورتهم رغم العنف الذي واجهتهم به السلطة، وهو ما كان صدمة للضمير الانساني تسببت في جرح غائر في نفوس أبناء الشعب.
وأكد حمدوك: “نتفهم الغضب العارم وسط أسر الضحايا وبين شباب المقاومة، ورغبتهم في تسريع عجلة العدالة لكشف المجرمين ومثولهم أمام القضاء العادل، ونحترم حراكهم السلمي للتعبير عن هذه المطالب”، لافتاً أن “استخدام وسائل الحراك السلمي للتعبير عن المطالب المشروعة هو حق أصيل لأبناء شعبنا وليس منحة من أي طرف ونتطلع أن يحرص المنظمون للمواكب أن تتسم بالطابع السلمي، وألا يسمحوا لكائن من كان باستغلالها لحرفها عن المطالب التي خرجت من أجلها وإثارة الفتنة”.
وقال بيان حمدوك إن الحكومة تضع ملف العدالة في مقدمة اهتمامتها حيث شكلت لتحقيق المستقلة تحقيقاً لأحد بنود الوثيقة الدستورية، وحققت في عدد من قضايا الشهداء، وصل بعضها للمحاكم التي تجري الآن في الأبيض وربك وعطبرة والخرطوم والحصاحيصا، وصدر في بعضها أحكام، ولا تزال لجان التحقيق تواصل العمل في بقية الملفات بغرض جمع الأدلة وتقديم قضايا متماسكة للقضاء، حتى لا يهرب المجرمون من المساءلة، مؤكداً أن الحكومة رحبت بمكتب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، وفتحت باب التفاوض معه حيث يتم التدارس مع المحكمة ومع مجتمعات الضحايا في أفضل السبل لمثول المتهمين المطلوبين دوليا” أمام هذه المحكمة.
وتعهد رئيس الوزراء بالكشف عن تفاصيل القضايا المتعلقة بالاعتداء على الناشطين وشباب المقاومة خلال الفترة الماضية، وتقديم مرتكبيها للعدالة.
اتهامات للحكومة والمجلس العسكري بالتستر على المتورطين في الجرائم
وقال تجمع المهنيين السودانيين – الفاعل الرئيسي في الثورة السودانية – في بيان له قبيل انطلاق مليونية العدالة تعقيباً على ذكرى فض اعتصام القيادة العامة إن “هناك إصرار على إفلات المجرمين من العقاب، بينما ما زال مرتكبو تلك الجرائم البشعة يتصيدون ويغتالون الثوار لإجهاض الثورة والمحافظة بل وإعادة نظام الفساد والقمع والإبادة”.
ودعا البيان الشعب السوداني بكل المدن والقرى المشاركة في المواكب والفاعليات الثورية السلمية، مناشداً قوى المقاومة الشعبية بالتنسيق لدعم كافة الجهود من أجل تحقيق العدالة.
وتمثلت مطالب الجهات الثورية في عده بنود شملت رفض أي مخططات تسليم البلاد للإملاءات الخارجية والتبعية السياسية والاقتصادية للمصالح الأجنبية، وإسقاط البرامج المستوردة ومن يمثلونها وانفاذ برامج ثورة ديسمبر المجيدة عبر كل مكوناتها وكياناتها الجماهيرية الثورية والمهنية والسياسية، والقصاص للشهداء وتحقيق العدالة ومحاكمة كل من اجرم أو أفسد في حق الشعب وبناء مؤسسات الحكم الديمقراطي التي ترتضيها وتقررها قوي .
وامتدت المطالب للملف الاقتصادي وتمثلت في المطالبة بحل عاجل للمشكلات الاقتصادية والمعيشية والغلاء وفوضي ارتفاع أسعار السلع الرئيسية وانعدام وتدني الخدمات الصحية والتعليمية البيئية ووضع المعالجات الإسعافية العاجلة لتوفير الوقود والغاز والخبز والدواء والمواصلات وإيقاف تدهور قيمة العملة الوطنية ومحاربة البطالة والفقر.
كانت شبكة الصحفيين السودانين قد أصدرت بيانا عشية ذكرى فض اعتصام القيادة أدانت فيه سياسات النظام الانتقالي وعدم تحقيق مطالب الشارع معلناً مشاركته في مليونية العدالة قائلاً : “لا زلنا نودع شهيدا تلو الشهيد، وتتوزع خارطة الدم المنثور بمساحة البلاد، من الغرب الى الشرق الى الوسط ويقابل بالقمع والبطش كل حراك سلمي لقوى الثورة”.
وأدان البيان تأخر المحاكمات قائلاُ : “تتمدد مساحات الإفلات من العقاب، إذ لا يزال القتلة طلقاء يتجولون بين الناس، حتى استيئس الناس من دولة القانون وتتهرب الحكومة من تطهير أجهزة الدولة والأجهزة الأمنية والشرطية، دون الزام مختلف القوات النظامية بقواعد إحترام القانون وهو ما يرقى لدرجة التواطؤ”.
مع تحرك التظاهرات دعت القوات المسلحة السودانية المواطنين إلى الابتعاد عن حرم قيادتها العامة، مشيرة إلى أنه سيتم إغلاق جميع الطرق المؤدية إليها اعتبارا من صباح غد الخميس.
وقال الإعلام العسكري السوداني في بيان له إن “القوات المسلحة تهيب بجميع المواطنين الكرام الابتعاد عن حرم القيادة العامة للقوات المسلحة، وتعلن عن إغلاق جميع الطرق المؤدية إليها اعتبارا من صباح الخميس الموافق 3 حزيران 2021”.
اقرأ أيضا:
توقيع اتفاق جوبا.. هل انتهت سنوات الحرب والدم في السودان؟
تجدد المظاهرات واستمرار الأزمات
منذ الثورة السودانية وإزاحة نظام عمر البشير لم تغب التظاهرات عن الشارع السوداني، حيث تردد الآلاف من المحتجين على الشوراع الرئيسية في العاصمة الخرطوم محتجين على تردي الأوضاع الاقتصادية وتكرار وتضاعف أزمات الخبز والوقود وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة.
ورغم الإنفراجة السياسية للسودان مع بعض الخطوات للانخراط في المجتمع الدولي ورفع العقوبات الاقتصادية ورفع الديون السودانية وتقديم عدد من المنح والقروض، إلا أن البلاد لا تزال تعاني من مشاكل اقتصادية بالغة حيث يصل معدل التضخم وفق احصائيات رسمية إلى 270% وتراجعت قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي بخاصة مع قرارات تحرير سعر الصرف، فيما حمل اقتصاديون الحكومة مسئولية تردي الوضع الاقتصادي فضلاً عن تحكم المؤسسات الأمنية في أكثر من 80% من الأنشطة الاقتصادية.
وفيما يبدو من انحيازات للحكومة الانتقالية لمطالب القوى الثورية إلا أنه لا يزال هنا فجوة بين المكونين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية، وذلك منذ قرارات لرئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان التي يرى مجلس الوزراء أنها تعد على السلطة التنفيذية، حيث رصدت تقارير إعلامية سودانية تراشق بين العسكر والمدنيين داخل السلطة الانتقالية وخلافات متعددة في عدد من الملفات.