طويت صفحة الحديد والصلب، وأسقطت القلعة بعد احتضار طويل مارس فيها العمال الدور الأكبر لحماية وجودها ووجودهم. كان لديهم آمل في مرحلة جديدة وميلاد مختلف لشركتهم التى ارتبطوا بها. لا يعلمون أي مصير سيواجهونه بعد موت الأم والانتهاء من دفنها. بل لازالوا حبيسي الأمل في عودتها رغم حسم القرار وتشييع الجثمان.

الحكومة من ناحيتها كشفت أسباب الإغلاق. وقالت إنه المحطة الأخيرة الباقية لإيقاف نزيف الخسائر المستمر. بينما رأى الكثيرون أن القرار المصيري لم يحظ بالقدر الكافي من الدراسة. كما اعتبروه تجاهل للحلول التي كان من الممكن أن تعيد إحياء هذا الصرح العظيم. فيما رأى بعض الاقتصاديين أن الحديد والصلب كيان باق لرمزيته عن زمن الاشتراكية والقومية. لكنه كان من الناحية الاقتصادية ليس له أي تأثير على الإطلاق.

مصر 360 يستطلع رأي عدد من خبراء الاقتصاد في الأمر في التقرير التالي.

قرار متأخر.. والحديد والصلب رمز لزمن عبدالناصر والاشتراكية

الخبير الاقتصادي، وائل النحاس، قال إن الدولة تتحمل خسائر فادحة وأن التمسك ببقاء الحديد والصلب حتى الآن يرجع فقط لكونه رمز للاشتراكية. الجيل الجديد الذي يدير الملف الاقتصادي اليوم بعيدًا عن جميع هذه الأفكار. سبق وأكد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك تلك الرمزية، معتبرًا أن دعم الدولة له يرجع لتلك الأسباب التي اعتبرها واجبة.

كذلك فند النحاس وجهة نظره بأن الحسابات الاقتصادية ترتبط إلى حد كبير بالأرقام وعملية المكسب والخسارة. كما أنه لا مجال فيها للمشاعر أو القداسة. ووفق ما تم التوافق عليه مع صندوق النقد الدولي فالضرورة تقتضي تحويل القطاعات الخاسرة إلى مرحلة القدرة على تحمل التكلفة الفعلية. ومنها يتم الانطلاق إلى الربحية. وهو ما تم بالفعل في قطاع الكهرباء والسكك الحديدية والمترو. وسيتم تنفيذه في باقي المجالات مستقبلًا.

النحاس قال إن المصنع تكبد خسائر فادحة، ومنتجه هو الأسوأ في الأسواق. كذلك أضاف أن دخول البتروكيماويات أثرت عليه سلبًا فبعد احتكاره لصناعة حديد الزهر لم يعد هناك استخدام لهذا النوع من المواسير. وحل بديلاً عنها البروبلين لعمرها الأطول وسعرها الأقل في مختلف الأسواق. معتبرًا أن هذا التحول في استبدال منتجاته والتي منها أيضًا أغطية البلاعات قد أثر على أرباحه. كما أوقعه في قبضة الخسائر والديون التي بلغت نحو الـ7 مليارات جنيه. كذلك أشار إلى أن قطاع الحديد بشكل عام ينزف في مصر ويتكبد خسائر فادحة بداية من عام 2011. وأن القطاع دفع فاتورة بيع الطاقة والحظر التي يعاني منها نحو 26 مصنعًا حتى الآن. كاشفًا أن استغلال أرضه التي تقدر بنحو 2500 فدان سينعكس بتأثير إيجابي على الاقتصاد بعد سداد ديونه وتوفير الدعم الخاص به في موازنة الدولة.

مصنع الحديد والصلب

الحديد والصلب.. رؤيتان لا ثالث لهما

وأضاف النحاس أن هناك رؤيتين في التعامل مع توفير السلع إحدها يعتمد على إتاحة المنتجات سواء في الداخل أو مستوردة. والآخر لا يرغب في الوقوع تحت رحمة السوق العالمي. بالتالي يدعم الصناعة بعيدًا عن حجم الخسائر وتكلفة الإنتاج. وفي قطاع الحديد المتاح يفوق الاحتياج، ولا يوجد صناع حقيقيين. “هناك معلمين ورجال أعمال ونحن بحاجة لرجال صناعة حقيقيين على علم بسبل إدارة هذا القطاع”. كذلك أشار إلى رحيل أغلب الشركات الأجنبية التي كانت تعمل في هذا القطاع ومنها الدنماركية والبلجيكية بسبب الخسائر وزيادة تكلفة الإنتاج التي تعتبر الأعلى عالميًا. كذلك أرجع السبب في وجود أفق استثمار أجنبي بقطاع الأسمنت إلى الهرب من إجراءات الحماية البيئية في أوروبا ولولا ذلك لما استمروا بسبب التكلفة أيضًا.

أما عن الحلول البديلة عن الإغلاق لفت النحاس إلى أن صناعة الحديد تعتمد على الخردة ومخازن الحكومة مليئة بها. والتي يمكن بسهولة تحويلها لخام البليت وهو مالم يتم التعاون في توفيره. وكان في الإمكان استغلال صيانة خطوط السكك الحديدية بشكل دوري في توفير الخردة وفتح باب لضخ إنتاج من المصنع بشكل ثابت. كذلك تطبيق قانون تخريد السيارات الذي يمكنه أن يعالج أزمة ارتفاع سعر الخام أيضًا. والأمر هنا كان سيتطلب تغيير في سياسة الإدارة بشكل كامل لتحجيم الخسائر والعدول عنها. لكنه يحتاج لوقت أطول فضلًا عن الجهد والأموال.

أفران الحديد والصلب

الحل في خصخصة الإدارة وفي القطاع العام “المال السايب يعلم السرقة”

الدكتور شريف الدمرداش، الخبير الاقتصادي، قال إن حل أزمة القطاع العام لا تكمن في الخصخصة أو الإغلاق. الإدارة فاسدة وتحتاج إلى تغيير جذري. والتعامل مع الحديد والصلب وغيرها من الشركات الخاسرة يتطلب خصخصة الإدارة وليست الملكية.

وأضاف الدمرداش أن عملية التوقف أو البيع هي مجرد استسهال وقرارات يشوبها الانحياز لبعض أصحاب النفوذ والمنافسين في المجال. ما قد يفتح المجال للاحتكار المستقبلي. كما اعتبر أن الفساد هو اسم لصيق بالخصخصة وسبق وتمت رؤيته بشكل واضح في أوائل التسعينيات. بقرارات عاطف عبيد الذي أهدر ثروات وأموال البلاد. مؤكدًا أن الحديد والصلب ليس مجرد مصنع وإنما مؤشر لتوجه العام والمسار الاقتصادي التنموي لأن الصناعة والزراعة هم عماد التنمية والإصلاح الاقتصادي الحقيقي. وهما دعائم بناء كل الدول القوية. وليست القطاعات الريعية الخدمية المتمثلة في السياحة وغيرها من وسائل الترفيه.

واعتبر الخبير الاقتصادي، شريف الدمرداش، أن حل الأزمة يمكن تلخيصة في عدد من النقاط في حال توفر الرغبة في تحقيق التنمية. ومنها العمل على ضخ الأموال والاستثمارات في القطاع على غرار ما حدث في طفرة تطوير الطرق والكباري. كذلك إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، بالإضافة إلى هيكلة الإدارة وخصخصتها منعًا للفساد. “لأن المال السايب في القطاع العام علم السرقة”. ومنع الحافز غير المستحق خاصة أن المصنع لا يجني أرباح. وفتح باب مساهمة الشركات لتوفير فرص تمويل تناسب حجم قلعة الحديد والصلب الصناعية.

ولفت الدمرداش إلى أن الإغلاق قرار فيه قدر كبير من الإهدار. فالصناعة أصبحت ضرورة وأهميتها ظهرت جليًا خلال أزمة كورونا. إذ كانت كاشفة لأهمية الإنتاج المحلي بعد التضييق على الاستيراد. فالدول التي تمكنت من الصمود لوقت أطول وواجهت الأزمة دون التعرض لمجاعة أو سقوط. هي تلك التي حققت قدر من الاكتفاء الذاتي في إنتاجها.

مصنع الحديد والصلب

لارابط بين خصخصة الأصول الإنتاجية وفقدان القاعدة التصنيعية الثقيلة

يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية، الدكتور عمرو إسماعيل، إنه لا يوجد ربط بين خصخصة الأصول الإنتاجية وفقدان القاعدة التصنيعية الثقيلة. فالانتقال إلى الخصخصة ارتبط إلى حد كبير بوجود توسع في الإنتاج بما قد يفوق الإنتاج المحلي.

وأضاف إسماعيل في رأيه المنشور عبر حسابه الرسمي في “فيسبوك”. إنه مع التسليم بالأثار التوزيعية للخصخصة سواء من ناحية ما شاب صفقات نقل الأصول المملوكة للدولة إلى المستثمرين الخاصين من فساد أو غياب للشفافية في عهد مبارك. أو تلك الآثار التوزيعية على عمال القطاع العام التي تدهورت ظروف عملهم. فإن ما وصف به إغلاق الحديد والصلب بأنه فقدان أو تصفية للقدرة الإنتاجية في مجال حيوي غير صحيح. لأنه عانى من ضعف الاستثمار فيه لعقود. وتدني نصيبه في السوق إلى 2 أو 3% من الإجمالي. وحل محله منتجين من القطاع الخاص منهم عز وبشاي والمصريين”.

وأضاف أستاذ الاقتصاد أنه مع التحولات النيوليبرالية بات هناك أدلة واضحة على وجود تدفق في الاستثمارات المحلية والأجنبية. لقطاعات الصناعة التحويلية. بينما الأزمة أن نمو قطاع التصنيع التحويلي كان أضعف من تضخم قطاعات خدمية ذات إنتاجية منخفضة. خاصة فيما يسمى بالاقتصاد غير الرسمي. كذلك لم تحدث ظاهرة إغلاق واسع كما حدث في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أو في الأرجنتين أو تشيلي بعد تبني الإصلاحات النيوليبرالية. وفي مصر الصناعات التي تعود لعهد عبدالناصر لم تختف بل توسعت كثيرًا في عهد مبارك ولا تزال. إلا أن أزمة هذا النمط من التصنيع أنه كثيف الطاقة وبالتالي يعتمد على وفرة غير حقيقية للغاز والبترول لينافس عالميًا. بدلًا من خلق قدرات تنافسية لسلع ذات قيمة مضافة أعلى. كما أن أغلب هذه الصناعات التحويلية تغذي قطاع البناء والخدمات العقارية التي تخلق نمو قائم على المضاربة بالأساس في قيمة الأراضي. كذلك وتصب في قطاعات غير تجارية فلا تعود بأية فائدة على الصادرات والواردات وبالتالي لا تؤثر على ميزان المدفوعات.

عامل في الحديد والصلب

هناك حلول لم تتم دراستها والتفكير كان قاصرا على وقف نزيف الخسائر

من ناحية أخرى اعتبر الخبير الاقتصادي، الدكتور خالد الشافعي أن مصنع الحديد والصلب أحد روافد الصناعة المصرية. كذلك قال إن إغلاقه خسارة لن تعوضها إتاحة القطاع الخاص. والأمر كان يتطلب مزيدًا من الجهد لوضع استراتيجية لإرجاعه لعصور قوته. وأيًا كانت أسباب الخسارة كان من الممكن تداركها.

وأكد الشافعي وجود أدوات بديلة عن الإغلاق منها إعادة هيكلة الأجور بشكل عام. والاتفاق مع مستثمرين لتطوير المصنع و اعطاؤه قبلة الحياة مرة أخرى. أو تشكيل إدارة فنية للتعاطي مع الأزمة القائمة، فالأمر كان يتطلب قدر من الإنفاق بدلًا من قرار الإغلاق.

وعلى سبيل المثال شركة النصر التي تم إغلاقها منذ عامين والآن يتم فتحها مجددًا. وهو ما يعنى أن الإمكانية موجودة بالفعل لعمل اللازم من دراسات الجدوى والوقوف على سبل التطوير. كذلك الاستغلال الأمثل للشركات والمصانع الوطنية بالبحث في أسباب الفشل وتفاديه.

وعن استبدال منتجات المصنع بغيرها وتأثيره على قدرته الإنتاجية عقب الشافعي قائلاً: “ما كان ينتجه العالم بالأمس. ليس بالضرورة هو ما يحتاجه اليوم أو غد”. لا غنى عن الحديد لأنه المادة الخام الأساسية في مختلف الصناعات. كذلك أكد أن الإغلاق ليس أفضل الطرق ولكنه أقصرها لوقف نزيف الخسائر.