على الرغم من أن المظاهرات التي انطلقت في العاصمة السودانية الخرطوم وعددٍ من المدن الأخرى قبيل ساعات لم تكن بضخامة وزخم مواكب الثورة السودانية، لكنها كانت حاشدة بالدلالات السياسية، وعاكسة لطبيعة التفاعلات الداخلية الراهنة في السودان. كما كشفت أيضًا طبيعة التوجهات الأمريكية تجاه أحد عناصر المكون العسكري السوداني راهنًا.

وقبل الولوج في تفاصيل التضاغط الجاري بين أطراف المعادلة السياسية السودانية، والذي يعطل فيما يبدو لنا إقرار العدالة بشأن شهداء الثورة السودانية، نشير إلى أن فض اعتصام القيادة العامة للجيش السوداني يوم 3 يونيو 2019، الموافق 29 رمضان، أسفر عن وقوع حوالي 100 شهيد، منهم أربعين ألقيت جثثهم في مياه النيل بدم بارد.

اقرأ أيضًا.. لماذا تعود الدماء في دارفور إلى الواجهة؟

وتكونت لجنة تحقيق مستقلة في أكتوبر 2019 للتحقيق في وقائع فض الاعتصام، وتحديد المسئول عن وقوع ضحايا، لكن هذه اللجنة لم تبلور موقفًا بشأن تحديد المسئولية حتى هذه اللحظة وقالت على لسان رئيسها إنه تحتاج 3 أشهر إضافية لإصدار تقريرها النهائي.

ولعل السؤال المشروع هنا هو لماذا لم تحسم اللجنة موقفًا رغم مرور عام ونصف على تكوينها، بل أنها لم تشرع حتى في طمأنة الرأي العام عن مسارات أو اتجاهات التحقيق؟

الإجابات المعلنة من جانب اللجنة على لسان رئيسها نبيل أديب المحامي المعروف عنه مواقفه الوطنية وقت الرئيس المخلوع عمر البشير، أنه يحتاج 3 أشهر إضافية لتحديد المسئولية، بينما قالت أميمة مصطفى الناطق باسم اللجنة، على فضائية الحدث إن قدرات اللجنة الفنية للتحقق من صحة الفيديوهات الواردة إليها غير موجودة، وأن اللجنة أرسلت للاتحاد الأفريقي طلبًا لمساعدتها على المستوى الفني ولكنه رد على خطاب اللجنة بالقول إنه لا يملك القدرات اللوجستية المطلوبة، مشيرة لعدم قدرة اللجنة على اللجوء لجهات أخرى دون إخطار مجلس الوزراء، في مفارقة غير منطقية كونها لجنة تحقيق مستقلة!!.

مجزرة الخرطوم

في هذا السياق من المرجح أن يكون لتأخر أعمال اللجنة أسبابًا سياسية متعلقة بالطرف المسئول عن فض الاعتصام وكانت التخمينات بهذا الشأن معلقة في السماء حتى تسريب فيديو مؤخرًا لعبدالرحيم دقلو في أحداث فض الاعتصام وهو شقيق محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، حيث كشفت خلفيات تسريب هذا الفيديو نوعًا من التضاغط الخشن بين عناصر المكون العسكري السوداني في المجلس الانتقالي وهما المؤسسة العسكرية الرسمية، وقوات الدعم السريع التي انقلبت على البشير، وساهمت بشكل أو بآخر ف نجاح إجراءات عزل البشير ونجاح الثورة السودانية.

ويمكن القول إن حالة التضاغط بين عناصر المكون العسكري في السودان، والتي أشار لها رئيس الوزراء السوداني عبدلله حمدوك كسبب لتأخر أعمال لجنة التحقيق، ليست بجديدة. وقد برزت بعد استقواء قوات الدعم السريع على المؤسسة العسكرية السودانية في أعقاب الثورة مباشرة بدعم من قوى الحرية والتغيير سواء كانت أحزابًا سياسية أو منظمات مجتمع مدني، وهى القوى المتخوفة من سيطرة القوات المسلحة السودانية على الحكم، خصوصًا أن عناصر المكون العسكري الرسمي هي منتمية بالأساس للجنة أمنية، كانت معنية بما أطلق عليه سياسيًا “الهبوط الناعم” أي إزاحة البشير مع استمرار نظامه.

قوات الدعم السريع

هذه التوازنات السياسية دفعت أن يكون حميدتي نائبًا لرئيس المجلس الانتقالي عبدالفتاح البرهان، وأن يتم الحديث عن إدماج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية. وأن تكون قوات حفظ السلام في دارفور المعنية بتنفيذ اتفاق سلام جوبا هي قوى أمنية مشتركة من الجانبين.

وسمحت هذه الوضعية لحميدتي بوجود سياسي في كافة الملفات الداخلية السودانية خصوصًا ملفات السلام السوداني، وكذلك وجود اقتصادي مؤسس على امتلاكه مؤسسات اقتصادية توسعت بعد الثورة كثيرًا خصوصًا في القطاع العقاري بالعاصمة الخرطوم، كذلك لعلاقات إقليمية، ووسائل إعلام سودانية.

في هذا السياق شكلت هذه الحالة استفزازًا للمؤسسة العسكرية السودانية والرأي العام السوداني معًا، لعدد من الاعتبارات، الأول أن قوات الدعم السريع نزحت ثروات معدنية سودانية لحسابها الخاص، وأن عناصرها غير مؤهلين عسكريًا طبقًا لمعطيات المؤسسات العسكرية المعروفة على المستوى الأكاديمي والفني، كما أن قوات الدعم السريع التي قد تصل لعشرين ألف عنصر استقوت بدولة الإمارات بسبب مساهمة هذه القوات في حرب اليمن.

تصاعد التوتر بين كل من البرهان وحميدتي، بدا ملحوظًا لدى الرأي العام السوداني والمراقبين الخارجيين في ضوء خطوتين، الأولى الإفراج عن عم حميدتي موسى هلال، الذي كان مسجونًا بأوامر من البشير، ولم يفرج عنه بعد الثورة، وهو أحد أهم قيادات القبائل العربية في دارفور ويملك نفوذًا عليها ينافس به حميدتي نفسه، أما الخطوة الثانية فهي إصدار عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي الحاكم في السودان أمرًا بعدم سفر أيًا من أعضاء المجلس خارج البلاد دون إذن، وهو ما أقدم عليه حميدتي بالسفر إلى تركيا، وعقد اتفاقات اقتصادية مع أنقرة، وهو ما تم الرد عليه بتسريب فيديو مشاركة شقيق حميدتي في فض الاعتصام.

هذه الحالة قد تنذر باحتكاك مسلح بين طرفي المكون العسكري السوداني، خصوصًا أن البرهان ومن خلفه القوات المسلحة السودانية باتا مدعومين من كل من القاهرة وواشنطن، ذلك أن المناورات العسكرية المتكررة والمشتركة بين كل من القوات المسلحة في مصر والسودان من شأنها دعم القدرات الفنية والعسكرية للسودان، أما واشنطن فقد أصدرت بيانًا عن الخارجية الأمريكية، عشية المظاهرات الداعمة لحق شهداء فض الاعتصام ومشيرة من طرف خفي لقوات الدعم السريع بشكل سلبي.

هذا الموقف الأمريكي ينعكس بالضرورة على وزن حميدتي الإقليمي، حيث من الطبيعي أن تأخذه أبوظبي بعين الاعتبار، بينما لم يعد حميدتي مقبولًا لدى الرياض في ضوء شروعها في تسوية ملف حرب اليمن، فضلًا عن اتجاهات الجيش المصري المعروفة في عدم الاعتراف أو التعاون مع الميليشيات المسلحة.

حمديتي

هذا المشهد السوداني يبدو مفتوحًا علي توازنات بالغة الدقة إذ أن مزيدًا من الضغط على حميدتي، من قناة لجنة التحقيق في حوداث فض الاعتصام، قد يسفر عن نزاع مسلح، ربما يكون من المخطط له أن يتم في إطار محسوب بين طرفي زعامة القبائل العربية موسى هلال وحميدتي، وقد يخرج عن هندسة أطرافه فينفجر على نطاق أوسع ليكون بين القوات الرسمية وغير الرسمية في المؤسسة العسكرية السودانية، وهي حالة تعد حربًا أهلية، لايحتاج لها لا السودان ولا الإقليم بالتأكيد.

أما على مستوى القوى السياسية يبدو أن الإسلامويين، ورموز حزب المؤتمر الوطني الذي كان يقوده البشير هم أكبر المستفيدين من حالة التضاغط الداخلي، أو حتى انفجار الموقف، حيث من المتوقع في هذه الحالة، إنهاء الفترة الانتقالية بشكل متعسف، واستيلاء المؤسسة العسكرية على الحكم، وهو هدف يسعون إليه بدأب يلاحظه المراقبون، وذلك بحسبان أن قطاع كبير من هذه المؤسسة العسكرية محسوب تاريخيًا على الحركة الإسلامية، كما أن هذا الانفجار من شأنه أن ينهي المعادلة السياسية الراهنة التي يبدو فيها المكون اليساري وازنًا فيها، خصوصًا الحزب الشيوعي الذي لديه قدرات لابأس بها في تحريك الشارع، وأيضًا لديه عداوات تاريخية مع الإسلامويين، والحزبين الكبيرين الأمة والاتحادي، حيث شهد التاريخ السياسي السوداني تحالفات بين الحركة القومية الإسلامية وحزب الأمة أسفرت عن طرد نواب برلمانيين من الحزب الشيوعي من البرلمان في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وهو ماترتب عليه ذهنية ثأرية بين الطرفين مازالت تشكل ملامح التفاعل السياسي على مدى عقود في السودان.