عادت الكنيسة القبطية مرة أخرى لتضع يدها في أزمة دير وادي الريان، في إطار محاولتها لإيجاد حل لتلك القنبلة الموقوتة التي ورثها البابا تواضروس من سلفه. فحاولت حلها بالشدة تارة وباللين تارة أخرى دون أن تجد حلًا ناجعًا حتى اليوم.

القمص موسى إبراهيم المتحدث الرسمي باسم الكنيسة القبطية أعلن تشكيل لجنة كنسية تتولى حل أزمة الدير مع وزارة البيئة. إذ تتألف من الأنبا دانيال آفا بولا رئيس لجنة شئون الأديرة والأنبا إبرآم مطران الفيوم والمشرف على الدير. بالإضافة إلى المهندس أيوب عدلي أيوب أحد أطراف الاتفاق الأول مع البيئة عام 2017. في أعقاب ما جرى الأسبوع الماضي حين تحركت الشرطة لإلغاء تخصيص مزرعة الدير. التي تقدر بألف فدان وإعادتها لمالكها الأصلي وزارة البيئة بعد تعثر الدير عن سداد مبلغ 4 ملايين ونصف. كقيمة حق انتفاع سنوي لم يدفع مرة واحدة من لحظة توقيع الاتفاق وحتى اليوم. أي لمدة خمس سنوات متوالية.

الأزمة التي تحاول الكنيسة حلها اليوم كانت رفعت يدها عنها الأسبوع الماضي واصفة الدير بالمنطقة. أما الرهبان فوصفهم البيان الكنسي بساكني “المنطقة”، نظرًا للتعقيدات والتشابكات التي يتمتع بها هذا الدير منذ تأسيسه وحتى اليوم.

الأب متى المسكين

كيف تأسس دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان كشوكة في ظهر متى المسكين؟

تأسس الدير على أنقاض الصراع الكنسي الشهير بين تيار البابا شنودة من ناحية وبين تيار متى المسكين من ناحية أخرى. إذ كان الدير أحد المناطق التي خرج إليها المسكين في أعقاب خلافه مع البابا كيرلس في الستينيات. قبل أن يعود فيسكن دير السريان.

يروي كمال زاخر الكاتب المتخصص في الشأن القبطي ما يسميه شجن التأسيس. “حمل الأب إليشع المقاري على عاتقه مهمة إعادة تعمير الدير مرة أخرى. إذ كان تلميذا مقربا من الأب متى المسكين وأحد أبناء مدرسته بدير الأنبا مقار. محاولًا استنساخ التجربة مرة أخرى بدير يحمل نفس اسم القديس (مقار أو مكاريوس). لينجح الأب إليشع في ضم آلاف الأفدنة في تلك الصحراء القاحلة إليه بعد أن أنفق عليها ميراثه عن أسرته الثرية. كذلك استغل وجود منطقة أثرية تحوي منشوبيات كدليل على حياة رهبانية سابقة.

مكائد تدبر في الغرف المغلقة

يسرد زاخر قائلًا: “انطلق الأب إليشع خلف أحلامه دون أن ينتبه إلى المكائد التي تدبر في الغرف المغلقة. ممن حاربوا التيار المتاوي الآبائي طويلًا. إذ أنه لم يدقق في اختيار طالبي الرهبنة وقبلهم دون فحص أو تدقيق. فشكلوا أولى ملامح الأزمة، فكان بينهم العاطلون والهاربون والبسطاء والأمناء والجانحين”.

ويوضح زاخر أن تلك التركيبة السكانية للدير خلقت صراعات مع سكان المنطقة من بدو وأعراب. خاصة فيما يتعلق بما تختزنه الأرض من موارد تاريخية يعرف الطرفين قيمتها. وصارت مصدر دخل بأرقام خرافية تتجاوز ريع الزراعة. ولهذا كان الاستحواذ على الأرض أهم من استصلاحها.

كذلك يلفت زاخر النظر إلى أن رحيل القمص متى المسكين تسبب في ارتباك مدبري المكائد الذين فكروا في اختراق دير الأنبا مقار. بعد رحيل خصمهم التاريخي بدلًا من تأسيس دير أخر يعمل كقنبلة موقوتة.

في تلك الأثناء بحسب زاخر، وجد الأب المؤسس إليشع المقاري نفسه وحيدًا بمشروع دير لم يكتمل. فلم يحصل على الاعتراف الكنسي ولا ينتبه له أحد حتى تسببت وفاة القمص متى المسكين في تغيير الخطة. لتستبدل باختراق دير أبو مقار بعد رحيل الخصم التاريخي. فسحبوا دعمهم للأب إليشع الذي انعزل وترك الدير حتى توفى أثناء رحلة علاج بالخارج.

القمص إليشع المقاري

الأب الراحل باسيليوس المقاري يسرد وقائع تأسيس الدير المرتبكة

بينما يسرد الأب الراحل باسيليوس المقاري في فيديو قديم تفاصيل وكواليس تأسيس دير وادي الريان. حيث يبدأ سرديته من النقطة المركزية وهي الخلاف بين الأب إليشع المقاري وبين القمص متى المسكين. وهو الخلاف الذي استغله المتربصون الذين أشار إليهم زاخر.

يوضح التلميذ المقرب من متى المسكين في هذا الفيديو أن تعمير دير وادي الريان حظى بدعم القيادة الكنسية آنذاك ويقصد البابا شنودة. إذ استغلت تلك القيادات الخلاف بين القمص متى المسكين والأب إليشع المقاري. بمعنى آخر رأى تيار البابا شنودة في إليشع المقاري مبدأ عدو عدوي صديقي. فإذا كان البابا شنودة يعادي متى المسكين فإن العداء بين متى المسكين وبين الأب إليشع أغرى البابا شنودة بدعم الدير.

الأب باسيليوس يؤكد أن دير وادي الريان تحول إلى أكبر تجمع رهباني في مصر. بعدما غاب عنه فكرة التدقيق في اختيار طالبي الرهبنة. فاختلط الحابل بالنابل من طرد من ديره ولم يجد له مستقبلًا خارج عباءة الكنيسة. ومن يرغب في الرهبنة الحقيقية وكثيرين.

يستكمل الأب باسيليوس وصفه لما جرى في هذا الدير، مؤكدًا أن وفاة القمص متى المسكين غيّرت الخطة. وتم سحب الدعم للأب إليشع وأصبح الدير تجمع رهباني كبير لمن لا يصلحون للرهبنة. كان شوكة في قلب الكنيسة.

الرواية التي سردها كمال زاخر وأكدها باسيليوس المقاري تتوافق مع ما جرى في تاريخ الصراع ما بين القمص متى المسكين والبابا شنودة. حيث كان البابا الراحل يرقي من يتركون دير أبو مقار في الرتب الكنسية ويمنحهم ما لم يحصل عليه أحد على طريقة ذهب المعز وسيفه.

البابا شنودة ودير الأنبا مقار

كان البابا شنودة يحارب دير الأنبا مقار في السر والعلن. وقال في أحد عظاته الأسبوعية “عدد الذين خرجوا من هذا الدير وعادوا إلى 52 واحدًا مكتوبين عندي بالاسم. منهم من جاء سليمًا ومنهم من يعالج فى بيهمن ويقصد مصحة الطب النفسى بحلوان. أو لدى الدكتور النفسي رجائي دانيال ومنهم من أصبح مريضًا عقليًا. ومنهم من ترك الرهبنة نهائيًا ومنهم من لا أعرف أين يوجد. وفي منهم من هو عندي فى دير الأنبا بيشوي”. كذلك وجه حديثه لأحد الشباب الذين سألوه عن الرهبنة: “أنت يا ابني وعلى رأى المثل ابحث عن الرفيق قبل الطريق. المسألة ليس بالمكان بل بالحياة”.

في خضم تلك الحرب حلّ الرهبان الذين غادروا دير الأنبا مقار على الكثير من الامتيازات. أبرزهم الأنبا بسنتى أسقف حلوان والمعصرة الذي كان راهبًا بدير الأنبا مقار. إذ دخل الدير عام 1970 وغادره عام 1982 وذهب إلى دير الأنبا بيشوي. ثم تدرج فى المناصب الكنسية فبعد عام واحد من انضمامه لدير الأنبا بيشوي ترقى لدرجة القس التي كانت شبه محرمة فى دير الأنبا مقار. وبعد عامين صار أمينًا لدير الأنبا بيشوي رغم أنه أحدث المنضمين له من الآباء الرهبان. وبعد عام آخر انتدبه البابا شنودة للإشراف على كنيسة بجاردن سيتي. وفي العام الرابع أصبح مشرفًا على الكلية الأكليريكية. أما فى العام الخامس انتدبه لكلية أخرى بالإسكندرية ثم رقاه البابا لدرجة قمص. ومنها إلى سكرتيره الخاص، وانتهى به المطاف إلى منصب أسقف حلوان والمعصرة.


الأنبا أغناطيوس والأنبا مكاري والأنبا بسنتي

المثال الثاني هو الراهب أغابيوس الذي كان يخدم مع الأنبا بسنتي فى مزارع دير الأنبا مقار. ثم غادره إلى دير الأنبا بيشوي ومن هناك صار أسقفًا للسويس باسم الأنبا أغناطيوس وتوفى قبل سنوات. كذلك الأنبا مكاري أسقف سيناء والعريش الذي غادر الدير ليخدم كقس في المنيا. بعدها بسنوات ترقى لدرجة أسقف سيناء بعدما طلب منه البابا شنودة أن يقضي عامًا فى دير الأنبا بيشوي وتوفى عام 2000. والقائمة طويلة لا تنقطع من الرهبان الذين انضم عدد غير قليل منهم إلى المجمع المقدس بعد أن نالوا درجة الأسقفية. عقب ترك دير وادي الريان.

 

وفاة متى المسكين تؤثر على دير وادي الريان

في تلك السنوات، وبعد تعديل دفة الأحداث من محاولة تأسيس دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان كشوكة في ظهر متى المسكين. تغيرت الخطة إلى اختراق دير الأنبا مقار نفسه بدفعة جديدة من الرهبان تغير التركيبة السكانية للدير. وكانت تلك الدفعة الشهيرة التي حصدت امتيازات لم يحصل عليها شيوخ الدير.

ونال الكثير منهم درجة الكهنوت ولعل أبرز الأسماء في هذه الدفعة هو إشعياء المقاري وفلتاؤس المقاري. الذين قتلا الأنبا إبيفانيوس. أما الثالث فهو الراهب يعقوب المقاري الذى تم شلحه بعد أن أسس ديرا واستقر به.

وجد دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان نفسه وحيدًا بين صراعات متغيرة بعد أن تأسس كطلقة في قلب مدرسة متى المسكين الرهبانية. وهو يضم أحد تلاميذه على رأس الدير “إليشع المقاري” ليصبح خنجرًا في أية معارك مستقبلية. إلا أن رحيل المسكين أربك الحسابات وتم اختراق ديره بدلًا من تأسيس شوكة بديلة.

تدفع الكنيسة القبطية حتى اليوم ثمنًا لصراعات التيار التقليدي الذي كان مسيطرًا على الحل والعقد طوال 40 سنة. ومازالت تحاول التعافي من آثار تلك المعارك الضارية. فتنجح تارة وتخطأ تارة أخرى متكئة على تاريخ طويل وعريق يزيد عن الألفي عام.