أمَّا.. حرف شرط وتفصيل وتوكيد
في الواقع يصعب خلق تأطير زمني واضح لمشهد البداية، لكن خيوط الأحداث في فلسطين المتشابكة يمكن جمعها تباعًا، والتفاصيل يمكن أن تقودك لما غُيّب عن الأذهان، أما المآلات فبات تداركها ممكنًا.
لنبدأ من نهاية شهر أبريل، حين أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس قرارًا كان متوقعًا بتأجيل الانتخابات التشريعية. والتي كانت في واقعها محاصصة سياسية؛ متذرعًا برفض الاحتلال الإسرائيلي إجراءها في القدس. بينما في واقع الأمر كان تشتت وانقسام حركته “فتح”، وإدراكها خسارة مؤكدة هو الدافع الحقيقي.
آذن ذلك بكبح ووأد أي مسار سياسي يمكن أن يحرك مياه القضية الفلسطينية المنحسرة منذ أمد لعوامل معروفة لا يتسع المجال لذكرها الآن. لكن بالتزامن مع هذا القرار كانت أحداث متسارعة في حي الشيخ جراح المعرض سكانه للتهجير القسري، واستفزازات إسرائيلية متعمدة واشتباكات مع المقدسيين على الحيز المكاني والاجتماعي في منطقة باب العامود خلال شهر رمضان، وعملية فدائية على حاجز زعترة شمال الضفة، تُنبئ بأن هناك شيئًا ما قادم.
رياح العاصفة
العاصفة هبّت رياحها في العاشر من مايو، وتحديدا في ليلة السابع والعشرين من رمضان. حين أفشل المرابطون ببسالة محاولة اقتحام الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين لساحات المسجد الأقصى للاحتفال بيوم “توحيد القدس” (احتلال إسرائيل للقدس الشرقية عام 1967). وذلك بعد اشتباكات دامية أسفرت عن إصابة المئات.
وهنا طل علينا أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب القسام – الجناح العسكري لحركة حماس – بعد غياب. وذلك استجابة لهتاف المقدسيين “واحنا رجال محمد ضيف” (القائد العام لكتائب القسام)، ومنح الاحتلال مهلة لم يظنوها حقيقية ولكنها كانت.
صواريخ المقاومة القادمة من غزة والمتطورة عن سابقتها بشكلٍ مفاجئ وصلت إلى حيث لم يتوقع الاحتلال أن تصل. وتداخلت مع الهبة الشعبية في القدس، والاشتباكات على الحواجز الإسرائيلية في الضفة. تحول المشهد بالكامل بعموم فلسطين لكننا لم نصل لذروته بعد، فذروة التحول تمثلت في هبة فلسطينيي الداخل ليعيدوا صياغة الرواية وهم بالقلب منها ناسفين حل “الدولتين” وفاتحين الباب أمام حل “الدولة الواحدة”، على الأقل في الأذهان حاليًا.
هذا التداخل بين الشكلين الشعبي والعسكري قوة أثبتت ذاتها وفعاليتها رغم الثمن الذي دفعه الفلسطينيون والمأساة التي سببتها إسرائيل، لكن قد ينتج عنه تطور في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية ورؤية الشعب لذاته، وفقًا لما يراه الباحث والكاتب الفلسطيني ماجد كيالي، لكنه يشير إلى أن الكفاح المسلح لا يمكن خوضه في أي مكان وزمان؛ إذ يحتاج إلى بناء سياسي يقدر على حمله للتخفيف من أثمانه وتبعاته، بما يؤدي إلى إضعاف العدو واستنزافه وليس استنزاف المجتمع الفلسطيني.
فلسطينيو 48.. من التهميش إلى قلب المعادلة الوطنية
ويشدد كيالي لـ”مصر 360″ على أن “تحول فلسطينيو 48 من مكانة هامشية في المعادلة الوطنية إلى مكانة القلب يعني التحرر من كل الأوهام التي انبنت على تأبيد الواقع الاستعماري ومن التسليم بتحويل الفلسطينيين إلى شعوب عدة، وهو ما أكده الإضراب العام في كل فلسطين التاريخية يوم 18 مايو، كما يعني استعادة الرواية الأساسية التي تشير لطبيعة إسرائيل كدولة استيطانية وعنصرية كما نشأت في 1948، وليس باعتبارها كذلك بعد احتلال 1967، فإسرائيل ذاتها هي المستوطنة الأكبر والمستوطنة الأساس التي تولد بقية المستوطنات في الضفة”.
وعلى ذكر الإضراب العام، فقد كان الداعي له تنظيمات شبابية وليس أحزاب سياسية تقليدية في فلسطين، صاحبه إصدار بيان “الكرامة والأمل” الذي دعا إلى إعادة توحيد المجتمع الفلسطيني مبرزًا جيلاً جديدًا يتحرك بشكل جماعي وتشاركي قافزًا على تهالك النظام السياسي، ومدركًا أن “هذه انتفاضة طويلة. انتفاضة وعي بالأساس. تنفض قذارة الخنوع والانهزامية. وتربي أجيالاً شجاعة على مبدأ فلسطين الواحدة. وتُعادي كل من يعمّق ويكرّس التقسيم، من نخب اجتماعية وسياسية”.
طارق بقعوني: يتحتم على القيادة الفلسطينية إعادة النظر في استبعاد مختلف الفئات الفلسطينية من التمثيل في الحركة الفلسطينية
بناءً على ذلك يتحتم على القيادة الفلسطينية إعادة النظر في استبعاد مختلف الفئات الفلسطينية من التمثيل في الحركة الفلسطينية، بحسب ما يقول طارق بقعوني، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية والمختص بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويتابع بقعوني لـ “مصر 360”: “الدرس الأكبر من الشهر الماضي هو أنه لا يمكن تهميش المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل من القضية الفلسطينية، وهي محاولة تقع في صميم عملية السلام وحل الدولتين، والتي تقوم على تصور المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل كقضية إسرائيلية داخلية. تم دحض هذا حاليًا وستكون هناك محاولات للعودة إلى الوضع الراهن المتمثل في وضع الفلسطينيين في مناطق مجزأة”.
أوجه المكاسب
ويضيف بقعوني أن دعم حركات التضامن العالمية إلى جانب الضغط الذي اتخذ شكل احتجاجات وتعبئة جماهيرية مع الفلسطينيين محليًا والشتات، أدى إلى إجبار التشققات على الظهور بين دوائر صنع السياسات، “وعلى الأخص في الولايات المتحدة، حيث لم يعد الدعم لإسرائيل من جانب الحزبين دون انتقاد بعد الآن”.
يمكن تعداد المكاسب فمن تعاطف عالمي واسع على مواقع التواصل وفي أروقة الساسة، وإعادة تشكيل وعي أجيال، إلى توحيد القضية مجددًا في غزة والضفة والقدس وأراضي الـ48، وعموم فلسطين، وإظهار تفكك المجتمع الإسرائيلي وضعفه، وفشل الاحتلال في تحقيق “بنك أهدافه” من حيث القضاء على بنية المقاومة التحتية واغتيال قادته، ناهيك عن تحول التحرر في الوجدان من حلم مستحيل إلى حلم يصعب تحقيقه. لكن حذارٍ من يوم أُحد.
بعد.. ظرف مبهم يفهم معناه بالإضافة لما بعده
في العادة، كانت مقاومة الشعب الفلسطيني باسلة وشجاعة ومنتصرة، وقدمت تضحيات غالية، بينما الحصاد السياسي يأتي متواضعًا أو في الاتجاه المعاكس تمامًا؛ نظرًا لحجم المؤامرة والتحديات والمخاطر وقوة وتحالفات العدو وكونه كيانًا وظيفيًا يخدم مشروعًا استعماريًا، هذا من جهة، وبسبب أخطاء القيادة ومختلف أطراف الحركة الوطنية، وعدم التجديد والتغيير، ومن دون الاستفادة من التجارب السابقة، من جهة أخرى.
والدليل على ذلك ما حدث في الانتفاضة الفلسطينية الأولى حين تسببت محاولات استثمارها قبل الأوان وتغليب الاعتراف بمنظمة التحرير على الاعتراف بالحقوق الوطنية إلى مسار اتفاق أوسلو، وما نتج عنه من نبذ المقاومة والتبعية الاقتصادية والتنسيق الأمني. وفي الانتفاضة الثانية التي انتهت جراء السياسة إلى تجديد شرعية السلطة والتزامات أوسلو رغم تخلي الحكومة الإسرائيلية عنها.
إذن، كيف يمكن تجنب أخطاء الماضي، ورسم ملامح المستقبل؟
التوافق الفلسطيني الداخلي على مشروع سياسي محدد بعيدًا عن حالة الإقصاء التي تمارسها السلطة الفلسطينية وحركة فتح، واعتبار أن القضية الفلسطينية حكرا عليها وعلى قراراتها، هي الرؤية التي طرحها عدنان أبو عامر أستاذ العلوم السياسية والمحلل المستقل من غزة.
ويقول أبو عامر في حديثه مع “مصر 360“: “هناك قوى فلسطينية قائمة أثبتت جدارتها في الميدان أمام الاحتلال، وبالتالي من حقها وواجبها أن يكون لها دور في صياغة القرار السياسي الفلسطيني، أما إغلاق منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية على قرار سياسي معين ثبت فشله فهذا بات غير مقبول، خاصة بعد الحرب الأخيرة وانتصار المقاومة، ومن الصعب أن يقبل به الفلسطينيون، ولذلك إن لم يتم توافق السلطة مع باقي الفصائل أعتقد قد نشهد ظهور برامج سياسية وكيانات أخرى تقفز على هذا الوضع السياسي البائس”.
إحياء المجلس الوطني الفلسطيني
ويرى طارق بقعوني أن التركيز على إحياء المجلس الوطني الفلسطيني باعتباره الهيئة التمثيلية التشريعية العليا للشعب الفلسطيني بأسره داخل فلسطين وخارجها والذي يضع سياسات منظمة التحرير الفلسطينية ويرسم برامجها، يمكن أن يحدث تغييرا حقيقيا.
“قضية الانتخابات مهمة بقدر ما تؤدي إلى تجديد فعلي للمؤسسات السياسية الفلسطينية، لمنحها المزيد من الشرعية وتعزيز تمثيلها وليس كوسيلة لتأمين اتفاق تقاسم السلطة بين حماس وفتح. في هذه المرحلة وبالنظر إلى التعبئة الواسعة للفلسطينيين عبر إسرائيل / فلسطين من المهم التفكير في قضايا التمثيل خارج النطاق الضيق لانتخابات المجلس التشريعي والرئاسي، والتركيز على انتخابات من نوع المجلس الوطني الفلسطيني”، يشرح المحلل بمجموعة الأزمات الدولية لـ “مصر 360”.
“ترويض واحتواء” حركة حماس
وبالنظر إلى مجريات السياسة على الأرض، فإنه يجب الالتفات إلى التحالفات الإقليمية والدولية التي بدأت فيما يمكن أن نسميه “ترويض واحتواء” حركة حماس من خلال المحفزات الاقتصادية وإعادة إعمار غزة بما يمثل مواصلة النهج (الأمريكي الأوروبي) قصير النظر المعتمد على تحسين الاقتصاد والمِنح الدولية، وهو ما لم يثمر عن حل حقيقي منذ اتفاقية أوسلو.
إحياء السلطة الفلسطينية
على جانب آخر، ظهرت محاولات إحياء السلطة الفلسطينية، ويمكن فهم ذلك من خلال التحركات الدبلوماسية الأخيرة سواء من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الذي زار رام الله والقدس، أو التفاهمات المصرية مع غزة ورام الله، واستقبال جابي أشكنازي وزير الخارجية الإسرائيلي بالقاهرة، بعد الدور الكبير الذي لعبته الأخيرة في وقف إطلاق النار.
وتواصلت جهودها لحلحلة الوضع السياسي بعدما دعت الفصائل الفلسطينية للاجتماع في القاهرة من أجل “الاتفاق على الخطوات اللازمة لإنهاء الانقسام ووحدة الصف الفلسطيني، ووضع خارطة طريق للمرحلة المقبلة”.
عدنان أبو عامر: المحاولات الدولية لإحياء السلطة وتجديد شرعيتها ستبوء بالفشل لأن “عوامل تراجعها أكثر من عوامل تقدمها
لكن المحاولات الدولية لإحياء السلطة وتجديد شرعيتها بحسب ما يعتقد عدنان أبو عامر ستبوء بالفشل؛ لأن “عوامل تراجعها أكثر من عوامل تقدمها، وهي عوامل ذاتية بالأساس لخلافات داخلية واستقطابات، وفي حال وفاة أبو مازن ستكون (فتح) قبائل شتى، كل ذلك يجعل من إحياء السلطة مهمة بالتأكيد تحظى بالدعم دولي، ولكن عوامل صمودها قد لا تكون قوية وفرص نجاحها منخفضة، وتكاد تكون منعدمة”.
مشروع السلطة الفلسطينية هو مشروع إسرائيلي أمريكي إقليمي عربي، هذه السلطة توفر على الاحتلال كل التكلفة الاقتصادية والأمنية في الضفة الغربية وتوفر الأمان والهدوء والاقتصاد والمال والدعم الدولي. لذلك فإن تراجع السلطة مؤخرا وتقدم حماس على حسابها دفع الجهود لإحيائها خاصة الجهد الأمريكي ومحاولة النفخ في صورتها، ولكن السلطة تعاني من إشكاليات داخلية، وهي ميتة إكلينيكيا، يتابع أبو عامر.
العلاقات الخارجية بين حماس ومنظمة التحرير
بدورها تسعى حماس دائمًا إلى الحفاظ على علاقات دبلوماسية جيدة مع الدول المجاورة، وتأمين الدعم المالي والدبلوماسي والعسكري من مجموعة من الجهات الفاعلة، “ومن المرجح أن يستمر هذا النهج ، حيث تعمل حماس على الحفاظ على استعداد مصر المتزايد للعمل كوسيط في ملف غزة / فلسطين”، وفقا لما ذكره طارق بقعوني.
لكن على الصعيد السياسي، وبحسب أبو عامر، فإن منظمة التحرير وضع عليها فيتو كبير من قبل بعض الدول العربية لعدم دخول حماس ومحاولة إحداث تغير حقيقي في البرنامج السياسي.
ويضيف “حماس في النهاية حركة سياسية وطموحها أن تقود المشروع القومي الفلسطيني وهذا من حقها، والإنجاز العسكري الأخير سيمنحها مزيدا من الطموح في ظل التفاف معظم القوى الفلسطينية حولها، في حين أن السلطة في حالة تراجع غير مسبوقة لذلك تسعى حماس لتقوية علاقاتها الإقليمية مع إيران وقطر وتركيا ومصر التي باتت العلاقة إيجابية إلى حد ما، كذلك يمكن النظر إلى موضوع استعادة العلاقة مع سوريا ولبنان. هذا يمنح الحركة فضاءً إقليميا هي بحاجة إليه حتى تمنح الإنجاز العسكري غطاء سياسيا دبلوماسيا تدافع عنه دول العالم، ويفسح الطريق للحصول على مشروعية إقليمية ودولية وداخلية فلسطينية سواء في الانتخابات أو على صعيد العسكرية المسلحة”.
مرحلة انتقالية
من جانبه، يرى هاني المصري، مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية (مسارات) أن التغيير يمكن أن يبدأ بمرحلة انتقالية، يتم فيها تشكيل قيادة مؤقتة تمثل القيادات القديمة وقيادات جديدة من مختلف التجمعات، كما تمثل فيها المرأة والشباب الذين أبدعوا بالنضالات الأخيرة، كخطوة على طريق تغيير السلطة وإنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات والتحضير لانتخابات على كل المستويات، وفي كل القطاعات، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة من أسفل إلى أعلى.
ويؤكد “لا يمكن إقصاء (فتح) واستبدالها بحماس، ولا إقصاء حماس أو منحها دورًا شكليًا ثانويًا في السلطة والمنظمة، بل مطلوب شراكة حقيقية كاملة تضم مختلف الأطياف، كل حسب وزنه، ولا يمكن الاستغناء عن أحد كون المخاطر جسيمة، على أساس رؤية شاملة، واستراتيجية واحدة، وبرنامج نضالي قادر على توحيد الشعب والقوى والمؤسسات وإحراز النصر. إن شعبنا يستحق النصر وقادر على تحقيقه لو وجد القيادة الجماعية الواعية والمخلصة، التي تعرف ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، من دون التخلي عن الأهداف والأحلام الكبيرة”.