تحوّل حلم آلاف الأسر في حياة خالية من ضغوط المدينة وزخمها عبر المدن الجديدة إلى “كابوس”؛ خوفاً من انتقال أمراض العشوائية إلى المدن الهادئة. فتتحطم الوعود بسكن ملائم على صخرة عشوائية التخصيص.
عمارات تتجاوز العشرين طابقًا، وشادر للسمك، ومنفذ لبيع اللحوم، وأرصفة لا تصلح للراجلين، لانشغالها بحركة تجارية في غير محلها. تلك مشاهد تصادفك في حال كنت من سكان بعض المدن الجديدة، خاصة “الشيخ زايد، و6 أكتوبر، أو حتى قلب القاهرة الجديدة”.
تلك المدن التي طالما وعدت أجهزتها المستقلة باشتراطات معينة للسكن وتخطيط ملائم، يتناسب مع الكثافة العددية. لكن مع مرور الوقت لم توفي بوعدها، وأصبح البحث عنها عبر الشبكة العنكبوتية مرتبط باستغاثة السكان، ومحاولاتهم لإنقاذها.
“لو احنا بندفع كهربا ومياه وغاز في شرائح عالية وضرائب عقارية عالية لأن المناطق اللي فيها كومباوندات تعتبر مميزة يبقي احنا بندفع ثمن لبقاء هذه المناطق مميزة، من حقنا أن نعترض ونوصل صوتنا لأعلى مسؤول يا إما ندفع كهربا ومياه وغاز زي اللي ساكن في العشوائيا” (أحد سكان مدينة الشيخ زايد)
الإطار القانوني
على المستوى القانوني تمتلك مصر منظومة تعد الأقدم في المنطقة فيما يخص قوانين البناء واشتراطتها. بدءًا من القانون رقم 51 لسنة 1940، وهو أول قانون يتناول أعمال البناء، وارتبط باللائحة التنظيمية الصادرة في عام 1889. وتتعلق الشروط الواردة بهذه اللائحة بالطرق العامة وخطوات التنظيم، أما القانون فقد تناول تنظيم المبنى ذاته وارتباطه بالبيئة العمرانية المحيطة. فاشترط عدم إنشاء أي مبنى أو تعديله إلا مع مراعاة بعض القواعد، منها الحد الأقصى للارتفاع وعلاقته بعرض الطريق. إلى جانب أبعاده الفنية الداخلية الخاصة بمسألة التهوية، والمرافق. كذلك العوامل الأمنية، التي تتعلق بالحرائق، ووسائل إطفائها، وكلها بنود تهدف إلى الوصول إلى مسكن صحي-آمن.
وفي منظومة البناء الجديدة التي وضعتها الحكومة خلال 2021، حددت الارتفاع المسموح به، ووضعت شروطًا تخص الأمن، والسلامة في البناء. لكنها استثنت مشاريعها، وكذلك الأراضي الخاضعة لولاية هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وأراضي القوات المسلحة، والمحاور الرئيسية بالمدن، من هذه الاشتراطات. فكانت الثغرة التي مر منها فيل العشوائية في التخصيص والتخطيط.
الأمر نفسه أكده المحامي ياسر سعد، الذي لفت إلى أن اشتراطات البناء وقوانينها الأخيرة لا تنطبق سوى على المواطن العادي. أما “ما دون ذلك فالباب مفتوح على مصراعيه”، على حد قوله.
أضرار الأبنية الضخمة
لعقود كافح المهندسون لبناء أطول ناطحات سحاب في العالم، ووصل الأمر إلى حد الهوس حتى منتصف القرن العشرين. وفي المقابل تراجعت مباني الأرت ديكو لصالح النمط الزجاجي، والمباني التي تشبه الصناديق ذات الإطار الفولاذي، الموجودة بعواصم العالم اليوم.
ولكن عاد أصحاب الفكرة ذاتها يحذرون من مغبة الاستمرار في ذلك النمط العمراني، بعدما أقروا بأن أضرارها فادحة، نظرًا لتأثيراتها المناخية، في ظل تدميرها مساحات لا حصر لها من الأراضي الطبيعية من أجل الأساسات العميقة. بالإضافة لكل مضارها البيئية مع انتشار فيروس كورونا، حيث تعتبر بيئة غير آمنة وغير مناسبة للعمل؛ لأنها تعتمد على مكيفات الهواء التي تعتبر أحد أسباب نقل الفيروس أثناء دورة الهواء.
ويؤكد خبراء البيئة أن محاولات تبريد تلك الأبنية الضخمة، يستهلك طاقة مضاعفة، ويسهم بشكل كبير في أزمة المناخ. وهو ما يزيد درجة حرارة الكوكب.
أبراج ساويرس.. من حديقة مركزية للبناء ذي العشرين طابقًا
ومنذ الإعلان عن مشروع “زايد بيزنس بارك“، في مدينة الشيخ زايد بمحافظة الجيزة المصرية، (غرب القاهرة)، أعلن سكان المدينة غضبهم ورفضهم، خاصة أن المشروع يتضمن بناء أبراج يصل ارتفاعها إلى 20 طابقاً، في مدينة التي لا تتجاوز ارتفاعات المباني بها منذ إنشائها الأربعة طوابق.
وبدأت حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لرفض إقامة المشروع، واشترك في الحملة عدد من الكتاب والصحفيين والفنانين، وغيرهم من سكان المدينة.
في سياق متصل، يروي أحد سكان حي الشيخ زايد، رفض الكشف عن هويته، قصة أبراج ساويرس، قائلاً: “القصة بدأت بالإعلان عن إنشاء حديقة مركزية، بل وتحديد موعد افتتاحها، وهو ما استبشر به أهل زايد، حتى فوجئنا ذات صباح باستبدال لافتة الحديقة، ببناء شاهق وصل عدد أدواره اليوم إلى 20 طابقا”. وأشار إلى أنها سابقة في تاريخ المدينة، حيث رفض جهاز المدينة طلبًا سابقًا بتعلية المستشفى التخصصي دورًا واحدًا فقط.
وتابع المواطن: “لم يهتم أحد بأخبارنا نحن السكان. لماذا هدمت الحديقة بعد إنشائها، أو حتى لماذا تم استبدالها بالأبنية الضخمة، التي لا تناسب التخطيط العمراني للمدينة”. وتابع: “لجأنا إلى جهاز المدينة، وأطلقنا الاستغاثات، ولم يعيرنا أحد اهتمام، بل تسارعت وتيرة البناء لفرض الأمر الواقع”. وأردف: “كل هذا يحدث تحت عين الجهات التنفيذية، فعلى بعد كيلو يقيم رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، ولا يحرك ساكنا”.
والشهر الماضي، تقدم أربعة برلمانيين بطلبات إحاطة لرئيس الوزراء، ووزير الإسكان، بسبب ارتفاعات مشروع ساويرس “زد” بمدينة الشيخ زايد
طلبات إحاطة
وقال النواب في طلبات الإحاطة إن المشروع العقاري يشمل ارتفاعات 20 دورًا، وهو ما يوازي 90 مترًا. وهو ما اعتبروه إهدارا للمال العام لتأثيره السلبي على البنية التحتية بالمدينة. كما يزعمون أن المشروع، الذي يقام على مساحة 165 فدانًا، مخالف لقانون البناء رقم 119 لعام 2008.
وخلال العام الماضي كتبت الفنانة إنعام سالوسة على “فيس بوك” استغاثة إلى رئيس الجمهورية، تشتكي فيها من ارتفاعات مباني زايد. وتقول: “إلى رئيس الجمهورية، أنا مواطنة مصرية أشكو إليك وقضيتي لا تخصني وحدي بل تخص آلاف الأسر ممن يسكنون في مدينة الشيخ زايد والتي ستصبح مدينة نصر ببناء أبراج من عشرين دور بالمخالفة للقانون”.
وتقول الفنانة إن المحكمة رفضت الدعوى شكلاً لكونها رُفعت “ممن ليس له صفة أي إننا ليس لنا الحق في الشكوى”. وتشير إلى أن تصميم المدينة جرى على بدروم وأربعة أدوار فقط، والآن تقوم إحدى الشركات ببناء أبراج من عشرين دورًا.
ويشرح الروائي عمر طاهر أزمة أبراج ساويرس في منشور على “فيسبوك” بقوله: “أنا عايش في الشيخ زايد من حوالي 6 سنين، أول 4 كانوا آية في الجمال والعزلة الهادية اللي تستحق البعد والمشوار وعلقة الوقفة في ميدان لبنان، لكن آخر سنتين المدينة اتلبست وابتدى طريقها يتعرف، وابتدى أهلها يتعرضوا لعمليات منظمة من الخداع”.
واستعرض طاهر تلك التعديات التي بدأت بأبراج ساويرس، مرورًا بالإعلان عن ممشى على جانب وصلة دهشور معقبًا: “حطوا صورة رئيس الجمهورية وهو راكب العجلة ويرتدي ملابس رياضية اللي ابتدت كمشروع ممشى، تعدي عليها دلوقتي ليلا تشوف غمامة من دخان المعسل وشوي الضاني”.
9 محطات بنزين في مدينه فيها مركز لقاح واحد ومستشفى حكومي واحدة، واتنشل منها الحديقة العامة، طيب هل ده استثمار مفيد للدولة؟ مش عارف فرع قطونيل وكبابجي فرحات ممكن يفيدوا في إيه الحقيقة؟.. (الكاتب عمر طاهر)
استثناءات للمستثمرين.. “المرشدي” نموذجًا
على المستوى القانوني، فإن المحامي محمد فاروق يشير إلى أن الدولة تمنح المستثمرين تسهيلات، لكونها المانحة للأرض. وضرب مثالاً بأبراج المرشدي التي يستلزم بناؤها تصريحات من هيئة الطيران المدني، التي ترفض في العادة البناء المرتفع. لكنها منحته للمرشدي كمطور عقاري.
عقود الإذعان التفصيلة التي يكمن فيها الشيطان كما يرى المحامي ياسر سعد. والتي هي بمثابة إجراء أحادي الجانب تتخذه هيئة المجتمعات العمرانية تجاه المواطنين، ولا تمنحهم منه نسخة، والتي بموجبها تجري تعديلات على المخططات العمرانية كيفما تشاء.
يجسد ياسر الوضع بمعادلة من ثلاثة أطراف، هي: الدولة التي تتعامل مع المرافق كملكية، ومع نفسها كشخص من أشخاص القانون، والمشترون أو المأجرون لهذه المرافق، وأخيرًا المواطنون المتضررون من هذه السياسات.
ويؤكد سعد أنه حتى مع وجود عقود الإذعان، يجب على الدولة إخطار المواطنين بالتغييرات التي ستدخلها على تخطيط المدينة. وذلك على اعتبار أنهم أصحاب المصلحة الرئيسية، وهو ما لا يحدث.
قانونا أيضًا يرتبط أي قرار حكومي بالمصلحة العامة، والتي تنبع بدورها من شعور المواطن بالرضا من تلك القرارات، فبحسب سعد لا يمكن أن تتعدى تلك القرارات على كرامة المواطن وحقه في المرور بالشارع. وتابع: “القول الفصل هنا يكون لمجلس الدولة، والذي يجب عليه تعويض هؤلاء الأفراد عما أصابهم من ضر”..
ويرجع سعد تفصيلة عقد الإذعان إلى تصميم الأجهزة التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية على رفض تسجيل ملكية العقارات عبر المحكمة. وذلك بهدف الحفاظ على سير العقود، ومن ثم العبث بمخططات المدن في أي وقت، وحسبما ترى.
المنافذ والأكشاك في مداخل “زايد وأكتوبر” تُثير غضب السكان
وبالنسبة للأكشاك والمنافذ التي ترجع ملكيتها إلى جهات سيادية، والتي تعد أحد مسببات هذه العشوائية في التخصيص بمداخل مدينتي الشيخ زايد و6 أكتوبر، يؤكد ياسر أنها يجب أن تعامل نفس معاملة المحلات أو المنافذ ذات الأنشطة التجارية، كما يجب ألا تمنح أيّ امتيازات بعينها، وذلك بحسب نصوص القانون.
أما المحامي محمد فاروق فيقول إن الدولة تتعامل مع تلك المرافق كـ”ملكية خاصة”، لها حرية التصرف فيها كما تشاء، وتفسر الأمر بضرورات المنفعة العامة، وزيادة دخل الدولة.
وعلى سيرة الدخل القومي يشير المتخصص في العمران عمر نجاتي إلى أن استغلال بعض المساحات العامة في أنشطة تجارية لخدمة ميزانية الدولة أو المحليات، هو أمر شائع في دول العالم، في سياق السياسات الليبرالية الجديدة وخصخصة الفراغ العام، ولكن في على أساس رؤية وسياسة عامة.
نجاتي أيضًا شدد على أن الأمر يجب أن يتم في إطار من النقاش المجتمعي، وتقديم مصلحة الأغلبية، على الفرد، ولفت إلى أن “مصطلح الحوار العام” أيضًا مصطلح مطاط يجب تعريفه وتحديده آلياته.
التوزان بين المصلحة العامة والخاصة
وفي ظل غياب المجالس المحلية المعطلة منذ ثورة يناير، يؤكد نجاتي ضرورة استبدال الحوار المجتمعي بآليات منهجية، تتضمن أصحاب المصلحة، وهو ما يستلزم تقديمهم على ما سواهم، بالتوازي مع المصلحة العامة، وبمعرفة الدولة التي يجب أن يكون دورها إيجاد التوازن اللازم لكافة الأطراف.
ولا يمانع نجاتي في تخصيص جزء من الأرصفة في بعض الأنشطة، ولكن بشرط ألا تتعدى على المساحة المخصصة للمشاة، وأخذًا في الاعتبار البنى التحتية، والكثافة السكانية، وبمشاركة أهالي المنطقة أيضًا عبر إقامة جلسات استماع على سبيل المثال.
بينما شدد على ضرورة مراعاة مخطط استخدام الأراضي بما فيها الاشتراطات البنائية من كثافات سكانية، وبنى تحتية، ودفاع مدني، في حال تم إقرار تغيير أي جزء يخص مخطط المدينة، كالحال مع تحويل حديقة عامة إلى مبنى سكني، أو مبنى سكني إلى إداري.
وحتى بحال تخصيص الحدائق، أو المساحات العامة للمصلحة العامة، كالطرق والمرافق مثلا، وإن كان الأمر ضروريا، فلابد من تعويض تلك المساحات بشكل أو بآخر، “فالحل يكمن في التخطيط السليم، والحوار قبل أي شيء”، وفق قوله.