15 عاما مرت على وفاة القمص متى المسكين، لم يتوقف فيها أثره، وكأن الزمن يعمل عكسيًا بعد رحيله فكلما مرت مدة أطول تكشفت حقائق أكثر. وكلما ابتعدنا عن لحظة الرحيل طفا على السطح ما كان مدفونا في العمق.

ورغم حركة الزمن، إلا أن السنوات الأخيرة الظلماء افتقد فيها الأقباط البدر، بعد أن لعبت العواصف بدير الأنبا مقار وكل ما أحاط أزمته مع القيادة الكنيسة السابقة وأتباعها من الإكيروس وحتى من آمن بها من الشعب.

إذا كان المعلم يعرف بتلاميذه فإن متى المسكين يُعرف من قبره. صليب خشبي في منتصف الصحراء يخلو من بهرجة المزارات ومن الأضرحة الفارهة.

صليب يقف صامدًا في قلب صحراء النطرون كصمود من تنام عظامه تحته لا يحتاج إلى رخام الأغنياء أو علامات الثراء تصحبه إلى قبره.

كان المسكين راهبًا حقيقيًا نام نومة الرهبان في الحياة ورقد كالمتقشفين ينتظر الآخرة، مكتفيا بورد يسكبه الزوار فوق قبره. زواره القلائل ممن يحبون العلم ويقدرون المعرفة ويركلون بعقولهم لاهوت الغيبيات الذى يلتف حوله الناس فيصير الميكروفون فتنة.

رحلة متى المسكين مع الرهبنة

لقد آمن متى المسكين وتلاميذه بالرهبنة الحقة فهجر الدنيا ورأى في كتابه “الكنيسة والدولة” أن ما لله لله وما لقيصر لقيصر تلك تعاليم المسيح لا تزحزحها صراعات ولا يداعبها الهوى بينما جاء المسكين في الزمن الخطأ. صاح بدعوته تلك أمام البابا شنودة بطريرك يحب السياسة يكتب للصحافة ويرى في نفسه زعيما للأقباط ومتحدثا باسمهم مدافعا عن حقوقهم غافلا عن أن زعامته تلك تسلب الأقباط حقوق مواطنتهم وتضعهم تحت عباءة الكنيسة كرعايا لا أحرار في الدولة كمواطنين.

لقد جاء البابا شنودة في زمن شديد الخطورة تحاصره ذئاب الإسلام السياسي من ناحية وطبول الحرب مع إسرائيل تدق من ناحية أخرى، هذا زمن السياسة إذن.

وجد البابا شنودة نفسه مندفعا خلف رغباته تلك وخلف أمواج السياسة العاتية يجر كنيسته خلفه حتى وصل الصدام إلى أوجه فوضعه الرئيس السادات قيد الإقامة الجبرية، كواقعة لم يسبقه إليها حاكم.

لقد كان عصرا لاستعراض القوة والجنون لاقى فيها البطريرك ما لا يستحق بينما وجد السادات في متى المسكين ضالته. راهب صحراوي من شيوخ البرية لا يؤمن بالسياسة ولا يجد فيها طريقا ولا غاية فالتقاه يعرض عليه اعتلاء سدة كرسي مارمرقس.

سنوات الشقاق بين شنودة والمسكين

لقاء عاصف وعرض مغر رفضه المسكين مفضلا حل الخلافات بين السادات والبابا شنودة وعاد إلى ديره يعلم تلاميذه، يكتب في اللاهوت ويترجم عن علوم الآباء، يصل بالكنيسة القبطية إلى أبعد من موقعها فصار ديره رمزا وعلامة أو جامعة للعلوم اللاهوتية.

في سنوات الشقاق تلك، اتسعت الفجوة بين متى المسكين والبابا شنودة حتى إذا عاد الأخير إلى كرسيه في الكاتدرائية كان قد تحفز للمسكين وتلاميذه ممن اعتبرهم لم يؤازروه في محنته وقد بدأت سنوات الصدام العاصف بين البطريرك والعلامة. صدامات لم تضع أوزارها حتى اليوم فمازالت الكنيسة تجني ثمار ما جرى بين الكبيرين.

كان دير الأنبا مقار مزعجا للقيادة الكنسية فهو الدير الذى يبدو فريدا في كل شيء، فلا رهبانه يضعون على رؤوسهم قلنسوة الأنبا انطونيوس الرهبانية ولا مجلته مرقس تضع صورة البابا شنودة على صفحتها الأولى كإعلان للإذعان وعدم التبعية.

لقد فضل القمص متى المسكين أن يلبس تلاميذه قلنصوة الراهب القبطي الصماء تلك وأن يضع صورة المسيح على إصدارات ديره فهو الرئيس الأعلى لكل شيء.

متى وبابا شنودة

استمر المسكين في حركته العلمية تلك، يرى في التقارب بين الكنائس والطوائف الأخرى فرض عين على كنيسة الإسكندرية العريقة بينما تعاليم التيار التقليدي تحرم ما يقول حتى وصل الأمر بالأنبا بيشوي يحرق كتب المسكين ويمنعها في الكنائس، ويرد عليها تحت شعار “الرد على الهرطقات”.

لقد أصبح العلامة مهرطقا في عيون الأقباط، خارجا عن القيادة الكنسية وعن التعليم الأرثوذكسي القويم بينما تفضله الصفوة وترى فيه خليفة حقيقي لمدرسة الإسكندرية القديمة.

كان دير أبو مقار مزعجا للقيادة الكنسية تحاربه الباباوية في السر وفي العلن، البابا شنودة يصف رهبانه بالمرضى النفسيين في أحد العظات الأسبوعية التي يجيب فيها على أسئلة الأقباط، ويعد الخارجين من الدير بالكثير من المناصب الكنسية أبرزها الأسقفية بينما تلمذة متى المسكين القاسية تعلم الراهب حياة التقشف والاستغناء فلا وجود للمناصب الكهنوتية بين رهبانه ومن لم يستطع احتمال حياة شيوخ البرية تلك فليتركها إلى من هو أهل لها.

مارس البابا شنودة مبدأ العصا والجزرة فالعصا لدير الأنبا مقار ورهبانه والجزرة لمن يخرج عليه إلى دير الأنبا بيشوي حيث يقيم البابا البطريرك، فمن يأتي إليه يصبح أسقفا ومن يبقى مع أستاذه المسكين لا ينال أكثر من علمه ورهبنته.

تمر سنوات الشقاق تلك، ينتج متى المسكين الكتب ويبدع تلاميذه في الموسوعات الكنسية. يترجمون عن القبطية وينقلون عن اليونانية ويوجدون معاني جديدة للعبرية بينما يعمل المتربصون على إفشال التجربة فيبحثون عمن يختلف مع المسكين وقد كان من بين تلاميذه ليظهر إليشع المقاري كهدف جديد.

دير الأنبا مقار

راهب مقاري يرغب في استنساخ تجربة دير الأنبا مقار، فيخرج إلى وادي الريان ويعيش مع رهبانه في صحراء قاحلة ويؤسس ديرا يحمل اسم الأنبا مكاريوس.

في تلك الصحراء يستعيد عزلة متى المسكين في الستينات ويفتح قلبه لكل من يريد أن يصحبه فلا يدقق في اختيار ولا يعنيه تأهيل ليصبح ديره مقرا للخارجين من الرهبنة والمبعدين من الأديرة وكذلك الراغبين بصدق في حياة الشركة.

دير الأنبا مقار

يلقى إليشع الدعم من القيادة الكنسية حتى يموت المسكين فتتغير الخطة ويسحب الدعم وتبدأ رحلة اختراق دير الأنبا مقار بدفعة جديدة من الرهبان الشباب ليسوا من متى المسكين في شيء.

تلك الدفعة التي خرج من بينها إشعياء وفلتاؤس المقاري قاتلا الأنبا ابيفانيوس، بينما ترث صحراء الفيوم أزمة دير آخر بوادي الريان تأسس في أثناء الشقاق هذا. أزمات تحملها الكنيسة المعاصرة كنتاج لصراع بين الفرقاء ولكنه الماضي لا يترك الحاضر حتى وإن أراد المعاصرون تركه هناك في الصحاري.

تظل الصحراء بطنا للأفاعي كما كانت أرضا لرحلات الباحثين عن الله في البرية.