حين تضج السوشيال ميديا بالخلاف حول مشكلات الزواج و”القايمة” و”العرض والمال”، فإنها كثيرًا ما تتعرض إلى الطباع الشخصية، وتسرد قصص المعاناة مع “أشباه الرجال” أو مع “العائلات النصّابة”، والثقة التي لم تكن في غير محلها. صحيح أن ما يصلنا عادة هو المشكلات وليس القصص السعيدة، إلا أن تلك المشكلات في البحث عن أسبابها كثيرًا ما لا تتنبه إلى سبب قد يكون أساسيًا، وهو أن الزواج، بهيئته الحالية، صار ببساطة “قديمًا”، صار نظامًا يبتعد كثيرًا في الزمن عن واقعنا الحالي، إننا لم نعد نركب الجمل أو نحارب بالسيف أو نغزو القبائل المجاورة، لكننا لا زلنا نتزوج بنفس الطريقة التي كان يتزوج بها هؤلاء.
ينتمي الزواج إلى عالم المعاملات لا العبادات (حتى وإن قالت الحكمة الشعبية إنه “نصف الدين“)، وإذا كان يمكن للعبادات ألا تتغير إلى الأبد، من صوم وصلاة وزكاة، فإنّ المعاملات تتغير كل يوم، وقد حلّت البنوك الحديثة محل مبادلات القوافل وحلّت معاهد التكنولوجيا محل أعمدة الأزهر وحلّ البنكنوت – والعملات الإلكترونية – محل أكياس الذهب والفضة، بينما ظل لُبّ الزواج – تقريبًا – كما هو، بداعي أنه ينتمي إلى عالم الشرائع السماوية، على الرغم من أنه أمر تنظمه أيضًا القوانين الوطنية.
الزواج ينتمي إلى عالم المعاملات لا العبادات وإذا كان يمكن للعبادات ألا تتغير إلى الأبد، من صوم وصلاة وزكاة، فإنّ المعاملات تتغير كل يوم
وعلى الرغم من أن المعنيين به، الزوج والزوجة، لم يعودا نفس الشخصين قبل ألف عام، فكلاهما الآن على الأغلب متعلم، ويعمل، ويحمل أوراقه الشخصية الثبوتية، ومساواته المواطناتية أمام القانون، والزواج صار الطريقة الوحيدة للاقتران بين رجل وامرأة، فلم تعد هناك أسواق عبيد، ولا ملك يمين ولا سبايا حروب، ولم يعد الرجل معرضًا لعدم العودة من الغزوة أو رحلة القافلة، ولم يعد للأب مولدّات بخلاف زوجته أو زوجاته ينجبن له البنات والأولاد، ولم يعد ذلك الأب شبه إله يحكم في عائلته بلا قانون، فبناته اليوم هن – غالبًا- أفضل تعليمًا منه، وربما يكنّ أكثر دخلاً، لكنه لا يزال، في وقت الزواج، يمتلك تلك السلطة التاريخية كوليّ لابد من موافقته، على الرغم من أن القانون المصري – المستند إلى المذهب الحنفي- يسمح للبالغ الرشيدة أن تزوّج نفسها، وهو ما يرفضه كثير من المأّذونين، وبينما يعللون رفضهم بحجة تحريم غياب الوليّ، إلا أن السبب الحقيقي وراء رفض المأذون يكمن غالبًا في الخوف من رد فعل أهل الفتاة لو اتضح أنها تتزوج من ورائهم، ولكن هذه قصة أخرى.
والواقع أن أحد أبرز خلافات الزواج، وهي “القايمة” (أو قائمة المنقولات الزوجية)، هي في حد ذاتها تحايلٌ أهليّ على تغيير زمني أطاح بـ”المهر” الذي لم يعد في مقدور الكثير من الشبان تحمّله، تمامًا كما كان تعديل القانون 126 لسنة 2008، الذي رفع سن الزواج ليكون 18 عامًا للجنسين، هو تدخل رسمي لمحاولة القضاء على زواج القصّر الذي تسمح به الشريعة التي تكتفي بسن البلوغ حدًا زمنيًا، وفي الحالين، المهر في الحال الشعبي وسن الزواج في الحال الرسمي، تدخلات لمحاولة رأب الصدع بين الزواج “القديم” والزمن الحالي الذي لم يعد متصورًا فيه أن يتزوج طفلان في الثالثة عشرة أو يدفع رجل مبلغًا من المال لرجل آخر كي “يتمتع” بنكاح ابنته، ولكن لأن “القايمة” هي أقرب إلى “إيصال الأمانة”، وتضع من يوقّعها تحت طائلة الحبس في أي وقت وعند أي خلاف، فمن غير المنتظر أن تنشأ تحت هذا التهديد علاقة سوية، ويبقى الأمر منوطًا بصراع القوى بين الزوجين أو العائلتين، تمامًا كما كان يحدث، مع فارق التشبيه الكبير، حين توقف التاكسي التقليدي عن استخدام عداد الأجرة تمامًا، وصار الأمر في كل رحلة عائدًا إلى “صراع” الراكب مع السائق أو”اتفاقهما”.
قانون موحد حديث للزواج، تسجل فيه الممتلكات قبل عقد القران، ويتم اقتسام ما يستجد بعدها بعد خصم نفقة الأطفال سوف يساوي الجميع ويحسم الأمور
والأمر أن عقد الزواج لم يعد قابلاً للاستمرار بصورته القديمة تلك في عصرنا الحديث، عصر المواطنة وتساوي الأفراد أمام القانون، وكما يحل “عداد الأجرة” تلك المشكلة البسيطة بين السائق والراكب، فإن قانونًا موحدًا حديثًا للزواج، تسجل فيه الممتلكات قبل عقد القران، ويتم اقتسام ما يستجد بعدها بعد خصم نفقة الأطفال، مع رفض توثيق الطلاق أو السماح بالزواج الثاني إلا بعد حل الأمور المالية، سوف يساوي الجميع ويحسم الأمور بين الطرفين من دون أن يتذاكى أو “يتعافى” أحدهما على الآخر، إن عدم التحديث ينشيء دائمًا واقعًا مثيرًا للسخرية، ومنه أن فضّ شركة تجارية أصبح في كثير من الأحيان أقل خطرًا من فض زواج يفترض أن يكون للمودة والرحمة.