ضاعفت جائحة كورونا حجم الآلام التي تعانيها منظومة الصحة في مصر، في ظل تدني المخصصات المالية بالموازنة العامة للدولة. مع زيادة أعباء الأطقم والكوادر الطبية المهاجرة للخارج؛ بسبب تدني الأجور والخدمات الحكومية.

مخالفة دستورية

تخالف مخصصات وزارة الصحة في الموازنة الاستحقاق الدستوري، الذي يشترط بلوغها 3% من الناتج القومي الإجمالي، البالغ 6.859 تريليون جنيه.

وتنص المادة 18 من الدستور على “التزام الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية”.

وحددت موازنة العام المالي الجديد 2021/2022، مبلغ 108.8 مليار جنيه لقطاع الصحة، تمثل حوالي 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

ورغم أن مخصصات القطاع لم تتوافق مع النص الدستوري، لكنها شهدت زيادة عن العام المالي الماضي بواقع 15.2 مليار جنيه. كما زاد الإنفاق الحكومي على الصحة من 10.6 مليار جنيه في العام المالي 2007/2008 إلى 108.8 مليار جنيه عام 2021/2022.

حملات ناجحة

وخلال السنوات الأخيرة نجحت حملات صحية أطلقتها الحكومة، منها “100 مليون صحة“، التي أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسي عام 2018، للقضاء على ” فيروس سي”، والأمراض غير السارية.

والأمراض غير السارية، أو الأمراض غير المعدية، وهي أمراض القلب، والأوعية الدموية، والسرطان، والسكر، وأمراض الصدر المزمنة. فهي تعد السبب الأساسي للوفاة المبكرة والإعاقات المزمنة.

نفذت الحكومة الحملة على 3 مراحل غطت كافة محافظات الجمهورية، بتكلفة 7 مليارات جنيه، ما دفع مدير منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم، للإشادة بالإنجاز الذي حققته مصر في مواجهة الالتهاب الكبدي من خلال المبادرة.

ودعم البنك الدولي الحملة في إطار مشروع تطوير نظام الرعاية الصحية في مصر بحوالي 530 مليون دولار. والذي أطلق عام 2018 لدعم الجهود الجارية لتحسين منظومة الرعاية الصحية المصرية.

وتشير النتائج إلى حصول 70 مليون مواطن مصري على الخدمات الطبية التي تقدمها المبادرة. بواقع 50 مليون مصري أجرى مسحًا طبيًا للكشف المبكر عن الأمراض غير السارية. وتلقى 1.8 مليون مواطن على علاج لمرض سكر، و10 ملايين مواطن من مرضى ضغط. ومعها تراجع معدل انتشار فيروس سي من 7% عام 2018 إلى 2% في عام 2020.

والأمراض غير السارية مسؤولة عن أكثر من 80% من إجمالي الوفيات في مصر، طبقًا لآخر مسح صحي عام 2017. كما أن 15.5% من المصريين يعانون من ارتفاع السكر بالدم، 29.5% يعانون من ارتفاع ضغط الدم، وأكثر من 65% يعانون من زيادة الوزن.

كما أطلقت الدولة حملات تتعلق بصحة المرأة، منها مبادرة “الست المصرية هي صحة مصر“. والتي تستهدف 28 مليون سيدة على مستوى الجمهورية، للكشف المبكر عن الأورام سرطان الثدي. بالإضافة إلى الكشف عن الأمراض غير السارية (السكر والضغط والسمنة)، وأمراض القلب وهشاشة العظام.

ومبادرة “نور حياة” التي تستهدف الكشف المبكر عن مسببات ضعف وفقدان الإبصار بين تلاميذ المرحلة الابتدائية. بالإضافة إلى الحملة القومية للتطعيم ضد شلل الأطفال، مستهدفة تطعيم 16.7 مليون طفل بجميع المحافظات.

مخصصات غير متوازنة

غير أن تلك الحملات، لم تكن مشجعة لإحداث طفرة في القطاع المتداعي بطبيعته منذ سنوات، بالنظر إلى أن مخصصات الصحة لم يتم توجييها إلى أبواب تتعلق بأجور الأطباء، من أجل وقف الهجرات الجماعية للأطباء المصريين.

وخلال السنوات الماضية استقال آلاف الأطباء، مع تزايد هجرة الكوادر الطبية لدول الخليج وأوروبا، بحثًا عن دخل يوفر لهم حياة كريمة، بسبب تدني أجورهم في مصر. وقدر عدد الأطباء المستقلين بنحو 7 آلاف طبيب.

وإبان تخصيص الرئيس السيسي حوالي 100 مليار جنيه لمعالجة تداعيات فيروس كورونا، تساءلت نقابة الأطباء عن نصيب العاملين في تلك المخصصات.

وتظهر الأرقام الواردة في موازنة الصحة عدم توجيه المخصصات في الأبوابة الأكثر أهمية أو الأولى بالدعم المالي، ومنها بدل العدوى الذي كافح الأطباء لرفعه، لكنه شهد زيادة طفيفة بحوالي 300 ألف جنيه فقط ليصبح إجمالي مخصصاته في الموازنة 79 مليون جنيه، مقارنة بـ78.7 مليون جنيه العام المالي الماضي.

أما بدل العدوى والوقاية من الأشعة وبدل المهن الطبية، فهي مخصصات لا تذكر في ميزانية وزارة الصحة، إذ يبلغ الأخير مثلاً 5 ملايين جنيه فقط، رغم التحديات التي تواجه الأطباء في ظل انتشار فيروس كورونا الذي حصد أرواح 500 طبيبًا.

وتشير دراسات حديثة إلى أنّ 62% من الأطباء البشريين إما يعملون خارج مصر أو استقالوا من العمل الحكومي أو حصلوا على إجازة. كما أن معدل الأطباء مقارنة بعدد السكان يبلغ طبيبًا واحدًا لكل 1162 مواطنًا، في حين أن المعدل العالمي، طبيب لكل 434 فردًا.

ورغم جائحة كورونا، فقد شهد باب دعم التأمين الصحي والأدوية زيادة بقيمة 100 ألف جنيه فقط مقارنة بالعام الماضي.

هجرة الكوادر الطبية

والعمالة الطبية أصبحت مثار استقطاب عالمي حاليًا، في ظل جائحة كورونا، بالنظر إلى أن دولاً أوروبية أعلنت عن تسهيلات للطواقم الطبية الراغبة في الهجرة، لكنّ الدولة لم تهتم بإعادة هيكلة الأجور لمكافحة الإغراءات الخارجية.

في هذا الإطار يعترف الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الصحية، بالهجرة الجماعية للأطباء.  ويقول في حوار تلفزيوني إن تلك الهجرة ترجع إلى 3 عوامل هي ضعف الإمكانات وضعف المقابل المادي وقلة فرص التعليم والتدريب الجيد.

أطباء غاضبون من تدني أجورهم
أطباء غاضبون من تدني أجورهم

لذلك يقول تاج الدين إن إصلاح هذه النقاط في منتهى الأهمية؛ لأن الطبيب المصري يسعى بكل الوسائل إلى التدريب والتعليم المستمر. ولفت إلى أن تحسين دخول الأطباء والكوادر البشرية والعمل المؤسسي أمر مهم للغاية. واختتم: “أتوقع انفراجة كبيرة جدا والسنوات القادمة ستكون مضيئة على القطاع الطبي بإذن الله”.

تقلص الأجور.. وطفرة في الاستثمارات الإنشائية

لذلك يطالب إلهامي الميرغني، المحلل الاقتصادي، بإصلاح هيكل الأجور، نظرًا لتدني أجورهم وبدلاتهم التي تتقلص ولا تزيد في الموازنة. ولفت إلى أن ثمة طفرة في بند الاستثمارات، وهي نقطة إيجابية، مستدركًا: “إذا كانت تلك الاستثمارات في المباني فقط بالجرانيت والرخام ومافيهاش أطباء ولا ممرضين ولا أدوية ولا مستلزمات طبية يبقى خطأ”.

أطباء في العزل
أطباء في العزل

وتشير الأرقام إلى أن الأزمة الواضحة في الأجور، خاصة أن حوالي 30% من الأطباء والتمريض في إجازات دراسية وإجازات عمل. وفي الوقت نفسه يتراجع عدد الأسّرة في القطاع الطبي الحكومي مقابل زيادته في القطاع الخاص. وذلك يعني أن الكوادر الطبية تتحول إلى المستشفيات الخاصة.

مشاركة مدنية في إعداد الموازنة

وشدد الميرغني في تصريحات لـ”مصر 360″ على ضرورة وجود توازن بين أبواب الموازنة المختلفة الخاصة بالمصروفات. كما دعا إلى ضرورة “مشاركة المجتمع المدني، خاصة نقابة الأطباء في مناقشة وإعداد موازنة الصحة، ولا تكون قاصرة في إعدادها على وزارة الصحة فقط. نريد مزيدًا من الحوار المجتمعي حول البنود”.

وتطرق إلى نقطة أخرى تتعلق بأنّ “الموازنة تقف في تقديراتها عند مديريات الصحة في المحافظات، وهو آخر مستوى وأرقام”، داعيًا إلى ضرورة توسعة ذلك لتصل الأرقام التفصيلية إلى المستشفيات والقرى “حتى يستطيع أي فلاح في قرية مناقشة موازنة الصحة ومعرفة إيجابياتها وقصورها”.

حيلة حكومية

الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار يلفت الانتباه إلى نقطة مهمة فيما يتعلق بمخالفة المخصصات المالية لنص الدستور. يشير النجار إلى أن الحكومة لتجأ لحيلة يصفها بـ”الملفقة” للهروب من المساءلة القانونية بشأن دستورية مخصصات الصحة.

الحيلة التي يصفها النجار بـ”غير البريئة”، في رؤية نشرها عبر صفحته على “فيسبوك”، تتمثل في وضع وزارة المالية الإنفاق على خدمات مياه الشرب والصرف وهو إنفاق على المرافق العامة، ضمن الإنفاق العام على الصحة، كما تُدرج حصة من فوائد خدمة الدين العام ضمن الإنفاق العام على الصحة.

ويرى النجار أن تدني الإنفاق العام على الصحة يأتي في إطار إفساح المجال أمام سيطرة القطاع الخاص على “بيزنيس” والصحة في مصر.