في اجتماع للمجلس الأعلى للهيئات القضائية ترأسه السيد / رئيس الجمهورية يوم الأربعاء الماضي الموافق 2 / 6 / 2021 ، صدر عدد من القرارات التي عُدت من النقلات النوعية والمؤثرة في الحركة القضائية في مصر.
بعض النقاط تعد استجابة لمجموعة من المطالبات التاريخية التي من شأنها تحسين وضع مرفق العدالة، والقائمين عليه، ويظهر ذلك بشكلٍ خاص في مسألة وضع المرأة، وتكافؤ الفرص.
وقد صدرت هذه القرارات في اجتماع ترأسه رئيس الجمهورية وبحضور رؤساء جميع الهيئات القضائية المصرية، وبحضور وزير العدل ومساعده، والنائب العام، ورئيس محكمة استئناف القاهرة.
وبشيء من السرد نتعرض لهذه لقرارات الجديرة بالذكر والتعليق عليها:
1 – البدء في تعيين السيدات للعمل كقضيات بمجلس الدولة “القضاء الإداري” اعتباراً من أول أكتوبر المقبل، الموافق بداية العام القضائي، مع اعتبار هذا اليوم هو يوم القضاء المصري.
وفي معرض التعليق على هذه القرارات ومدى مساسها بتطوير العمل القضائي المصري، فإنّ تعيين المرأة في الهيئات القضائية ومجلس الدولة بداية من العام القضائي المقبل، يعد القرار الأبرز، الذي تأخر كثيرًا، فيما يخص مجلس الدولة، التي طالما تشدد قضاتها في المسألة، ومنذ الستينيات.
وكان الرئيس قد سبق قرارته في مارس الماضي بالتوجيه في مسألة تعيين النساء، سواء في مجلس الدولة، أو النيابات، ولكن جاءت الاستجابة محدودة، حيث اتخذ مجلس الدولة وحده بعض الخطوات على استحياء، وذلك بفتح باب التقدم للسيدات عضوات النيابة الإدارية وقضايا الدولة الحاليات للتعيين في درجتين فقط من المجلس، لكن النيابة العامة لم تُعلن شروط التعيين فيها ولم تفتح الباب لذلك، ومن هنا تأتي أهمية القرار وصفته الإلزامية.
والتحاق حواء بسلك القضاء ليس بجديد، إذ سبق أن تم تعيينها في سلك القضاء منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة، وذلك بداية من تعيين السيدة / تهاني الجبالي عضوًا بهيئة المحكمة الدستورية العليا، غير أن المسألة كانت تتم عبر ندب القاضيات أو نقلهن من هيئة النيابة الإدارية، إذ لم يكن ذلك يتم من بداية أولى خطوات التعيين منذ تخرجهن من كليات الحقوق، كما هو الحال مع القضاة الذكور، وهو ما تميز به القرار عن سابقيه، ليشكل مرحلةً فارقة في التاريخ النسوي ككل.
2 – منع تكرار أسماء المقبولين للتعيين في الجهات والهيئات القضائية اعتباراً من خريجي دفعة 2018 بالنسبة لمجلس الدولة والنيابة العامة، ومن خريجي عام 2013 بالنسبة لهيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة.
يحاصر هذا القرار إشكالية المحسوبية التي تتكرر دائمًا في الاتهامات الموجهة إلى سلك القضاء بشكل عام، خاصة أن القرار يمنع حجز أكثر من مكان في هيئتين في ذات الوقت.
ويعني القرار عدم قبول تعيين شخص بهيئة قضايا الدولة إذا كان هذا الشخص سبق تعيينه في أيّ جهة قضائية أخرى، لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من خريجي كليات الحقوق، وهو ما يضمن مبدأ تكافؤ الفرص بين المتقدمين لشغل الوظيفة القضائية، وكذلك شيء من الشفافية.
ومن المقرر أن يجري تنظيم مسألة منع تكرار أسماء المتقدمين عن طريق آلية معينة، يتم تحديدها بين الجهات والهيئات القضائية.
3 – توحيد المستحقات المالية بين الدرجات المناظرة في الجهات والهيئات القضائية الأربعة ( القضاء العادي – مجلس الدولة – النيابة الإدارية – هيئة قضايا الدولة ).
يبعد قرار توحيد المستحقات المالية في الجهات القضائية المختلفة، شبهات التمييز التي طالما اشتكى منها عدد من المنتسبين إلى مرفق العدالة، وهو من الأمور التي تعود بالمنفعة على العمل القضائي ككل.
في الوقت نفسه غاب عن هذا القرار الإيجابي، قضاة المحكمة الدستورية، وهو ما نتمنى تلافيه بقرار مكمل، خاصةً أن قضاة الدستورية طالما رفضوا لسنوات طويلة الكشف عن رواتبهم، رغم أحكام محكمة النقض المتعددة التي ألزمتهم بذلك.
4 – عدم تكرار “ندب” العضو القضائي الواحد في أكثر من جهة عمل – فيما عدا وزارة العدل بحسبها جهة العمل الأصلية -مع وضع مدى زمني محدد لمدة الندب.
وهو من القرارات التي طالما طالب بها الضالعون بمرفق القضاء، ويسير في اتجاه تحسين جودة عمل العدالة، حيث كان في السابق يجوز انتداب العضو في أكثر من جهة في ذات الوقت، مع السماح بتقاضي أكثر من مقابل في كل انتداب، علاوة على الراتب الأصلي، وذلك دون سقف أو مدى زمني محدد، وهو ما يعد تعدياً صارخاً على مبدأ تعارض المصالح.
ندب القضاة مسألة يشوبها مخالفات دستورية، إذ تنص المادة 239 منه بإلغاء الندب الكلي والجزئي للقضاة إلى الوظائف غير القضائية خلال مدة ﻻ تزيد على خمس سنوات كحد أقصى
ومع أهمية القرار وإيجابيته نتطلع إلى إلغاء الندب من الأساس، حفاظًا على استقلالية القضاء، وكذلك توفيرًا لنفقات، يُمكن تلافيها عبر تعيينات من بين المحامين ذوي الخبرة، أو حتى الاستعانة بهم من أول السلم الوظيفي مع العناية بتدريب هذه الكوادر.
وغني عن التعريف أن ندب القضاة مسألة يشوبها مخالفات دستورية، إذ تنص المادة 239 منه بإلغاء الندب الكلي والجزئي للقضاة إلى الوظائف غير القضائية خلال مدة ﻻ تزيد على خمس سنوات كحد أقصى من موعد سريان الدستور ينايرعام 2014.
5 – مد هيئة قضايا الدولة بأسباب عدم قبول طالب التعيين في الوظائف القضائية لتقديمها إلى جهة القضاء في دعاوى الطعن المنظورة، مما يسمح لصاحب الشأن معرفة أسباب رفضه، والاستناد إليها في طعنه ضد قرار عدم قبوله أو رفضه.
يمنح قرار مد هيئة قضايا الدولة بأسباب عدم قبول طالب التعيين، المنظومة القضائية الشفافية المطلوبة، وربما يقضي على أسطورة “ابن الزبال مينفعش يبقى قاضي” مستقبلاً، فالسماح باطلاع صاحب الشأن على أسباب عدم قبوله، يمتعه بالقدرة على الرد على تلك الأسباب أمام الجهة القضائية، وهو ما يصب في خانة تفعيل الرقابة القضائية على مثل تلك القرارات بشكل أكثر فاعلية.
6 – إنشاء مدينة العدالة بالعاصمة الإدارية، وعلى كل جهة أو هيئة قضائية موافاة وزارة العدل بطلباتها التي تتضمن نقل أو استحداث مباني جديدة.
أما عن آخر تلك القرارات وهو القرار المتعلق بإنشاء مدينة العدالة بالعاصمة الإدارية، فينطوي على نقطتي قوة وضعف، أولها يتعلق بتحسين قدرة وجودة العمل القضائي بما يتناسب مع مستجدات العصر ومتابعة التطورات التكنولوجية، والتقنيات العلمية الحديثة، وكذلك الزيادة السكنية.
إلا أنه في الوقت نفسه يخل بمبدأ تسهيل الوصول إلى العدالة، والقدرة على التماس سبل الانتصاف من المظالم والنفاذ إلى هذه السبل، عبر مؤسسة القضاء، في ظل البعد الجغرافي الذي تتسم به المدن الجديدة، والذي يجب الانتباه إليه، والعمل على حله.
ولكن بنظرة أوسع تصب جميع هذه القرارات في خانة تحسين العمل القضائي بشكل عام، وتسعى إلى تطويره بما يتناسب أو يواكب التطورات العالمية، وهو الأمر الذي يعود بالخير على كل المعنييين بالأمر من نظام الدولة، إلى القضاة والمتقاضين، ولكن بشكل فوقي أكبر منه قاعدي.
وعلى سيرة القاعدة، يجدر الإشارة إلى أن مثل هذه الإصلاحات، تتطلب بالتوازي نظامًا تعليميًا قانونيًا متقدمًا يخدم عليها، ويتماشى مع هذه المستجدات، يبدأ من لحظة التحاق الطلبة بالسلك الجامعي، اقتداءً بدول مثل الجزائر التي تنقسم فيها كليات القانون وتتفرع، بحيث تصبح أكثر تحديدًا وقدرة على تخريج كوادر تناسب العصر.
أما نحن كدولة ضاربة في جذور التاريخ القضائي منذ قدماء المصريين، فالأولى بأن نكون نحن القدوة في هذا التعليم، وهناك العديد من الدراسات التي تسعى إلى ذلك ولا ينقصها سوى التطبيق العملي.
ولا يخفى على أحد ما تشهده المحاكم خلال السنوات الأخيرة من ارتفاع ملحوظ في عدد القضايا الواردة إليها، مقابل تدهور ظروف العمل داخلها، مما أدى إلى طول فترة التقاضي، بما من شأنه التأثير سلبًا على حقوق ومصالح المتقاضين والمساهمة في تراجع إيمان المواطنين بمرفق العدالة ككل.
ولكن في نهاية المطاف لا يسعنا إلا تثمين تلك الخطوات الإصلاحية والمطالبة بالمزيد.