بدأ أهل القرية الصغيرة في سوهاج الخلود إلى النوم. دقات الساعة أعلنت منتصف الليل. كانت لحظات لم يكن يخطر فيها على بال أسرة “سلامة” أنها ستكون الليلة الأخيرة. دخل الذي كان بالأمس ابنًا ومحبًا وكأنه تحول لوحش يحمل في يده ساطور ليكتب بالدماء تفاصيل مذبحة لن تنساها قريته الصغيرة.

جلس الشاب الذي قتل للتو والديه وشقيقته وأطفالها، وأشعل سيجارة نظر في وشوش الناس كأنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا. لا تبدو على وجهه أي معالم. ولا حتى إحساس الندم كأنه متفرج وليس له علاقة بالدماء التي أريقت في تلك الليلة المشؤومة.

تفاصيل مذبحة سوهاج بعد إعادة تمثيل الجريمة

قوات الأمن ألقت القبض على جورج سلامة الذي يبلغ من العمر نحو الـ28 عامًا. بتهمة قتل أبيه وأمه وشقيقته وأولادها. أعاد تجسيد الواقعة مرة أخرى في منزله بقرية “أولاد حمزة” التابعة لمركز “العسيرات” بسوهاج.

المتهم بدى عليه بعض علامات الاضطراب الذهني عندما بدأ في إعادة تصوير المشهد. ليؤكد أنه ذبح والده أولًا ودخلت الأم محاولة منعه فقتلها. وحينما حاولت شقيقته الصراخ قتلها هي الأخرى. أما الأطفال فاعتبر أن قتلهم كان لإراحتهم.

تجول القاتل بسلاح الجريمة في المنزل وسط أسرته وتحرك إلى الشارع وهو غارق في دماءهم. جلس لينهي سيجارته التي سبق أن أشعلها عندما غادر المنزل. ظل حتى تم إلقاء القبض عليه دون مقاومة. بينما أرسل بعض النظرات المضطربة هنا وهناك أظهرت انفصالًا عن المذبحة.

السؤال الذي دار على ألسنة الجميع، ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ كيف تحول ذلك الشاب إلى قاتل وكيف يقتل أهله بتلك الطريقة البشعة؟

مرض وحيد يحول الإنسان لهذا المستوى من العنف

تقول أستاذ علم النفس الإكلينيكي، الدكتورة هناء أبو شهبة، إن هناك مرض واحد يجعل الإنسان يصل إلى هذا المستوى من العنف. ذلك المرض هو ما يسمى بالانفصام العقلي أو الاكتئاب العقلي. إذ يفقد الإنسان ارتباطه بالواقع تمامًا.

واعتبرت هناء أن المصابين بهذا المرض يختلفون عن المرضى النفسيين. فمريض الاكتئاب النفسي يكون متصلًا بالواقع وعدد كبير منهم يعرفون أنهم مرضى اكتئاب. كما يظلون متصلين مع محيطهم ويحملون مشاعر ما تجاهه. إلا أن من ينفصلون عن الواقع بعد إصابتهم بالاكتئاب العقلي يستيقظون من نومهم فجأة ليواجهوا ما قرروه في عقولهم من خيال. ذلك الخيال الذي ليس بالضرورة أن يرتبط بالواقع بما فيه من روايات خوف أو كره. وربما صراعات داخلية تصل إلى حد العداء.

كذلك أكدت أن الجريمة التي نحن بصدد نقاشها أكبر بكثير من حدود العنف الأسري، الذي لا يتجاوز بعض الأفعال المقبولة عقليًا. بينما هذا المستوى من العنف توصيفه الحقيقي “مرض عقلي” وهو أكبر من كل الأزمات النفسية التي قد يمر بها الإنسان.

من ناحيتها أشارت الأخصائية النفسية، دكتورة نهى النجار، إلى أن انفصام الشخص عن واقعه يدفعه لوضع كامل بصيرته في خيال موازي. كما يصاب بعدد من الاضطرابات والهلاوس والأفكار غير الواقعية ويتحول من الواقع إلى عالمه الخيالي. ليبدأ في التفاعل مع ضلالاته التي تتحول مع الوقت لجرائم يصعب استيعابها كما حدث في مذبحة سوهاج.

موقع الجريمة

مذبحة سوهاج.. الأزمة تبدأ من الطفولة وقصص شبيهه تحتاج لتأهيل نفسي

النجار قالت إن الأزمة تحتاج للعودة إلى الطفولة وتحديداً في سن الـ5 سنوات عند تكوين ما يسمى بالضمير. وبعض الأسر تغفل عن تلك المرحلة علمًا بأن عدم تكوين تلك الثوابت في وقتها المناسب من عمر الطفل يضعنا أمام شباب خارقين للقانون، يستمتعون بكسر كل القيود سواء أسرية أو مجتمعية.

واعتبرت أن بعض الاضطرابات التي تظهر في الطفولة وتحتاج إلى إعادة تأهيل هو “اضطراب المسلك”. وهذا المرض يعد أساس التحول المستقبلي في حياتهم ويتسبب عادة في عزوف الطفل عن الاختلاط وكره حالة الونس والاقتراب من الآخرين. والابتعاد التام عن التفاعل الاجتماعي السوي.

وأشارت إلى أنها صادفت عددًا من القصص التي تم تصنيفها كانفصام عقلي ومنها: “فتاة تبلغ من العمر 23 عامًا. استقر بداخلها أن أمها تضع لها السحر الأسود في الطعام. وبدأ الأمر يتطور إلى أن ظهر بداخلها صوت يحدثها من وقت لآخر حول أفعال الأم ويخبرها أنها تلح عليها في تناول الطعام ليس من باب الحرص على صحتها وأدويتها كما تدعي. إنما هي تكيد لها وتضع لها شيئًا في الطعام. كذلك حينما تمنعها من دخول المطبخ فهذا ليس خوفاً عليها من تأثير الأدوية. وإنما هو فقط لمنعها من رؤية ما تضعه لها في الطعام. وهو ما جعلها تمسك بالسكين وتقرر التخلص من الأم. ما أسفر عن بعض الإصابات السطحية والخدوش إلا أن النية الحقيقية كانت التخلص من الأم بقتلها. ومن ثم إنهاء الصراعات التي تجول بخيال الإبنة والهلاوس المرضية”.

منبوذ من المجتمع

وسردت المتخصصة النفسية قصة أخرى لطفل صغير انفصل والديه وأعلنا عدم رغبتهما في بقائه معهما فأخذه الجد لتربيته. وشعر الطفل أنه منبوذ من المجتمع وبدأ بالسرقة لينفق على الأصدقاء. ويشتري قربهم لأنه كان يدرك أنه لا يوجد من يحبه بدون مقابل. إلى أن تطور الأمر وقرر حرق منزل الجد ورتب للأمر حتى يخفي سرقته لـ5 آلاف جنيه. وكادت الجريمة أن تعصف بالأسرة لولا تدارك الأمر ودخوله المستشفى ليخضع للتأهيل النفسي.

وأكدتأن ما حدث في مذبحة سوهاج هو تطور في السلوك والمشاعر ناتج عن فقدان الشخص للاتصال بمشاعره. ما يجعله يبعد عن إنسانيته وتتحول سلوكياته للحيوانية أو ما يتم تصنيفه بالوحشية. فيرتكب جرائم لا يستوعبها العقل الآدمي.