لفتت التحركات السياسية لمصر في محيطها الإقليمي في الفترة الأخيرة الأنظار في داخل مصر وخارجها. تقاطع بعض هذه التحركات مع قضايا ذات ثقل عاطفي كبير كالقضية الفلسطينية، أو مع تهديدات تثير مخاوف وقلقًا كبيرًا لدى الشعب المصري، كسد النهضة الإثيوبي، الذي استعاد للسياسة الخارجية قدرًا كبيرًا من الاهتمام الإيجابي في الداخل المصري، وهو ما افتقدته لسنوات طويلة، إنكفأ فيها المصريون في معظمهم على الشأن الداخلي، إن لم يكن على الشأن الشخصي دون العام.

أثبت ذلك مجددا أن مصر وسيط لا غنى عنه في الشرق الأوسط، وهو أمر كانت القيادة السياسية المصرية في أمس الحاجة إليه في التوقيت الحالي

بعض تحركات السياسة الخارجية المصرية كان بالطبع أكثر بروزًا من غيره. المثال الأوضح هو تمكن مصر من التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وبين حركة المقاومة الإسلامية حماس، لتضع بذلك حدًا لعدوان دولة الاحتلال على قطاع غزة الذي حصد أرواح أكثر من 250 شهيدا فلسطينيا. أثبت ذلك مجددا أن مصر وسيط لا غنى عنه في الشرق الأوسط، وهو أمر كانت القيادة السياسية المصرية في أمس الحاجة إليه في التوقيت الحالي. ففي المقام الأول أرغم الدور المصري، في الوساطة بين إسرائيل وحماس، إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على التعاطي مع حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي بشكل أكثر انفتاحًا، وتلقى الأخير من نظيره الأمريكي مكالمة هاتفية هي الأولى من نوعها منذ دخول بايدن إلى البيت الأبيض، قبل ساعات من إعلان إسرائيل رسميًا موافقتها على وقف إطلاق النار حسب الترتيبات التي توصل إليها المفاوضون المصريون.

جولة من مفاوضات سد النهضة
جولة من مفاوضات سد النهضة

على جانب آخر، استثمرت القيادة المصرية هذا الدور داخليًا من خلال تغيير لهجة الخطاب الرسمي حول القضية الفلسطينية، وبصفة خاصة حرص ذلك الخطاب على إظهار انحياز مصري كامل إلى جانب الشعب الفلسطيني، في غزة أولاً، وفي الضفة الغربية والقدس أيضًا، في مواجهة العدوان الإسرائيلي. تبع ذلك الإعلان عن فتح معبر رفح للسماح للمصابين في القطاع، جراء القصف الإسرائيلي، بتلقي العلاج في المستشفيات المصرية، وإرسال معونات عاجلة إلى القطاع، وكذلك الإعلان عن منحة قدرها 500 مليون دولار، للإسهام في إعادة إعمار غزة، ورفع آثار العدوان. وإضافة إلى أن هذا الموقف المنحاز للشعب الفلسطيني قد تلاقى مع الشعور الشعبي السائد في مصر، فأهمية الدور المصري وفعاليته استعادت للمصريين شعورًا افتقدوه لوقت طويل بمكانة مصر وثقلها في المنطقة، وربما أسهم ذلك أيضًا في التقليل من مشاعر الإحباط لدى المصريين تجاه الفشل في التوصل إلى حل حاسم لأزمة سد النهضة.

الرسالة التي وصلت إلى الداخل المصري هي أن القيادة السياسية تعمل بنشاط وعزم واضحين لإثبات جدية استعدادها للجوء لأي بديل متاح للتعامل مع عناد إثيوبيا ورفضها التعاون في التوصل إلى اتفاق حول ترتيبات ملء خزان سد النهضة

على اتصال مباشر بأزمة سد النهضة الإثيوبي كان تحرك آخر بارز للسياسة الخارجية المصرية وهو قيام الرئيس عبد الفتاح السيسي بزيارة رسمية إلى جيبوتي، هي الأولى التي يقوم بها رئيس مصري في تاريخ الدولة الإفريقية العربية ذات الموقع الاستراتيجي بالغ الأهمية على مضيق باب المندب، وعند خاصرة إثيوبيا. الرسالة التي وصلت إلى الداخل المصري هي أن القيادة السياسية تعمل بنشاط وعزم واضحين لإثبات جدية استعدادها للجوء لأي بديل متاح للتعامل مع عناد إثيوبيا ورفضها التعاون في التوصل إلى اتفاق حول ترتيبات ملء خزان سد النهضة يضمن عدم تضرر مصر جراء نقص فادح في نصيبها من مياه النيل.

ولكن على أهمية هذين المثالين البارزين لتحركات السياسة الخارجية المصرية الأخيرة إلا أنهما لا يمثلان أكثر من قمة جبل الجليد الظاهرة فوق السطح، فالحقيقة أن الفترة الحالية تشهد نشاطا لمصر في محيطها الإقليمي، يعد استثنائيًا في كثافته واتساع نطاقه، مقارنة بما كان عليه الحال طيلة عقود عديدة مضت. وعلى عكس ما توحي به التطورات الأخيرة للتحرك المصري على محاور مختلفة وفي ملفات رئيسية من أن تلك التطورات تمثل تحولاً مفاجئًا أو سريعًا لتوجهات السياسة الخارجية المصرية، فالحقيقة أن جميعها يأتي في سياق مسارات عمل أنجزت مراحل مختلفة منها خلال السنوات الماضية، ومن ثم فملامح الصورة الكاملة لتحرك مصر على الصعيدين الإقليمي والدولي لا يمكن تبينها بوضوح دون الأخذ في الاعتبار بعديد من التفاصيل التي لم تسترع انتباه غير المتخصصين أو المعنيين بمتابعة شؤون العلاقات الخارجية.

حتى يمكن فهم السياق الذي تطور فيه الحراك الحالي للسياسة الخارجية المصرية، علينا الالتفات إلى مفهوم أساسي يحكم عمل السياسة الخارجية للدول هو مفهوم الاستثمار في الأزمة

الملاحظة الأولى التي ينبغى الالتفات إليها عند محاولتنا فهم وتقييم تحركات السياسة الخارجية المصرية في الفترة الأخيرة هي أن هذه التحركات لا تتم في فراغ، وإن كانت السياسة الخارجية لمصر تعمل بنشاط كبير في هذه الفترة فذلك يواكب، أو في الواقع يأتي متأخرًا زمنيًا عن نشاط كبير للدول الرئيسية في الإقليم خلال السنوات الأخيرة؛ استجابة لما أنتجته الثورات العربية قبل عشر سنوات من سيولة للأوضاع في المنطقة. وحتى يمكن فهم السياق الذي تطور فيه الحراك الحالي للسياسة الخارجية المصرية، علينا الالتفات إلى مفهوم أساسي يحكم عمل السياسة الخارجية للدول هو مفهوم الاستثمار في الأزمة.

يمثل تفكك أو اهتزاز وضع كان مستقرًا لوقت طويل في إحدى الدول أزمة لها عواقبها التي قد تكون كارثية بالنسبة للأفراد العاديين الذين تعتمد مصالحهم اليومية وربما أمنهم وحياتهم ذاتها على حد أدنى من الاستقرار. ولكن الأزمة نفسها وإن كانت تخلق تحديات ومخاطر بالنسبة لدول الجوار أو الإقليم أو القوى الدولية ذات المصالح المختلفة في هذه الدولة، إلا أنها أيضا تخلق فرصًا وإمكانيات جديدة. فثمة دائمًا فرص لأن يكون الوضع الجديد الذي تؤول إليه الأمور مواتيًا أكثر لمصالح هذه الدول، كما أن ثمة إمكانيات للتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في تطور الأمور للوصول بها إلى الوضع الأكثر ملاءمة لهذه المصالح. ربما تكون الأسباب المباشرة لتدخل دولة ما في شؤون أخرى تمر بأزمة داخلية هو تجنب مخاطر وتهديدات حقيقية نشأت عن اضطراب أحوال الأخيرة، ولكن هذا التدخل سيتحول بالضرورة إلى محاولة للتأثير على الشكل الذي سيتخذه الوضع الجديد.

السيسي وماكرون والملك عبدالله يبحثون الملف الفلسطيني
السيسي وماكرون والملك عبدالله يبحثون الملف الفلسطيني

تحركات دول المنطقة في السنوات العشر الأخيرة يمكن تفسيرها من خلال مفهوم الاستثمار في الأزمة، حتى وإن كان ما تعلنه أي دولة منها في أي وقت هو أن تدخلها يهدف إلى احتواء وإنهاء الأزمة. ذلك يفسر بشكل مبسط لكنه صحيح إلى حد كبير، لماذا يؤدي التدخل الخارجي في الأزمات إلى إطالتها وتعقيدها، ولماذا يصادر حق الشعب الذي يمر بالأزمة في اختيار الطريقة التي ينهيها بها، والوضع الذي يرتضي أن تؤول إليه الأمور. تختلف بالطبع حدود التدخل الخارجي المتاحة في كل حالة، ففي الحالات التي تصل إلى حد النزاع المسلح والحرب الأهلية، تتسع حدود التدخل الخارجي لتصل إلى التدخل العسكري المباشر، بينما في أحوال أخرى قد يقتصر التدخل على الدعم المالي للأطراف الداخلية التي يحقق اتساع أو استقرار نفوذها أو سيطرتها الكاملة على الحكم أو مشاركتها فيه، مصالح الدول التي تقدم هذا الدعم. ويمكننا أن نرى صورا متنوعة للتدخل الخارجي في تطور أزمات دول الثورات العربية، وما آلت إليه كل منها، بداية بتونس وحتى اليمن، مرورا بمصر وسوريا وليبيا والبحرين.

ما يفسر إذن حقيقة أن نشاط السياسة الخارجية للقاهرة قد أتى متأخرًا عن غيرها من العواصم الرئيسية في المنطقة، هو أن مصر نفسها طوال عدة سنوات كانت موضوعًا لنشاط السياسة الخارجية لهذه العواصم. التحول من موضوع لفعل الآخرين إلى فاعل مؤثر في محيطها الإقليمي هو إذن المتغير الرئيسي الذي يمكننا ملاحظة تطوراته في السنوات القليلة الماضية. لم يتم هذا التحول دفعة واحدة وإنما على عدة مراحل، بدا في بعضها أن مصر قد اشتبكت في صراعات صفرية تحكمها مخاوف داخلية أكثر مما توجهها مصالحها الخارجية. ذلك بالطبع صحيح جزئيًا ولكنه ينطبق على إدارة دول المنطقة جميعها لملفات الأزمات الحادة خلال مرحلة بعينها. فطالما كانت الأزمة في أي دولة في حال السيولة سيدفع أصحاب المصالح بكل قوة نحو تعظيم مكاسبهم، ومن ثم يكون صراع أصحاب المصالح المتعارضة صفريًا، لأن كل طرف لا يزال يأمل في تحقيق أهدافه كاملة، أو بعبارة أخرى طالما كان كل طرف يعمل وفق قاعدة “كل شيء أو لا شيء”.

عندما أصبح من المؤكد أن ترامب لن يفوز بأربع سنوات أخرى في البيت الأبيض كان ذلك إيذانا بانتهاء مرحلة السيولة التي أطالها وجوده على الساحة. وبدأت مرحلة جني الثمار. أصبح واضحا ما أمكن لكل طرف تجميعه من نقاط في كل ملف، ومدى إمكانية أن يبادلها بنقاط أخرى في ملف آخر

ساهم وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض في إطالة عمر مرحلة المواجهات الصفرية في المنطقة. وفر ترامب لعديد من الأطراف الإقليمية فرصة نادرة لإدارة أمريكية تعمل خارج المألوف لسياسات المؤسسة الحاكمة الأمريكية، التي سواء كانت الإدارة جمهورية أو ديموقراطية تظل لها ثوابتها وحدودها التي لا تخرج عنها. مع ترامب بدا أن الثوابت أكثر مرونة والحدود قابلة للتمديد بخلاف أي وقت آخر. لا عجب إذن أن سنوات ترامب الأربع في البيت الأبيض قد شهدت بعضًا من أعلى نقاط التصعيد للمواجهات الصفرية في المنطقة. المقاطعة الرباعية لمصر والسعودية والإمارات والبحرين ضد قطر ومحاولة ضرب حصار كامل حولها؛ تصعيد الحملة العسكرية للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن؛ وحملة الجنرال حفتر الكارثية طوال أكثر من سنة في محاولة للاستيلاء على العاصمة الليبية طرابلس. عندما أصبح من المؤكد أن ترامب لن يفوز بأربع سنوات أخرى في البيت الأبيض كان ذلك إيذانا بانتهاء مرحلة السيولة التي أطالها وجوده على الساحة. وبذلك بدأت مرحلة جني الثمار. أصبح واضحا ما أمكن لكل طرف تجميعه من نقاط في كل ملف، ومدى إمكانية أن يبادلها بنقاط أخرى في ملف آخر، ومن ثم حان وقت أن يبدأ الجميع في التلاقي والتفاوض.

أنهت مصر وحلفاؤها الخليجيون مقاطعتهم لفطر، واستعادت مصر وقطر علاقاتهما الدبلوماسية في بداية هذا العام. تلى ذلك زيارة لوزير خارجية قطر إلى القاهرة التقى فيها السيسي وسلمه دعوة لزيارة قطر وجهها إليه أميرها الذي سبق أن اتصل هاتفيا بالسيسي لتهنئته بشهر رمضان. على جانب آخر تحدث وزير خارجية تركيا في منتصف إبريل الماضي عن موافقة كل من تركيا ومصر على رفع مستوى قناة التواصل التي فتحتها أجهزة مخابرات الدولتين بينهما إلى مستوى وزارة الخارجية، ثم زار وفد تركي القاهرة في الشهر الماضي لعقد مباحثات وصفت بأنها “صريحة ومعمقة”. الملفات الرئيسية بين البلدين بالطبع هي الحدود البحرية في شرق المتوسط والتي تعني تقاسم ثروات الغاز الطبيعي في المنطقة، وترتيبات الحل السلمي للأزمة في ليبيا. ربما يتحدث الطرفان عن الإخوان، ولكن ليس طويلا كما قد يتوقع أو يأمل البعض. بالتوازي بدأت مصر في الانفتاح على التعامل مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وباركت مع بقية دول المنطقة تشكيل حكومة جديدة تمثل المناطق الثلاث لليبيا.

ربما يكون الأثر المباشر في المدى القصير للتحركات المصرية في حوض النيل والقرن الإفريقي هو فرض قدر من العزلة على نظام رئيس الوزراء آبي أحمد

الملف الأكثر خطورة في اللحظة الحالية هو بالطبع ملف سد النهضة الإثيوبي. وعلى الرغم من أن جهود مصر والسودان الساعية إلى الضغط على إثيوبيا لتكون أكثر جدية في التفاوض حول إجراءات ملء خزان السد، لم تفلح حتى اليوم في تحقيق أهدافها، إلا أن العمل المصري على هذا الملف لا يزال هو الأبرز في تحركات السياسة الخارجية المصرية الأخيرة. فيمكننا تبين ملامح سياسة مصرية جديدة تجاه إفريقيا أو بمعنى أصح استعادة لملامح مميزة لهذه السياسة كانت قد غابت عنها لعقود مضت. التحرك المصري للتقارب مع دول حوض النيل والقرن الإفريقي قد اتخذ في الآونة الأخيرة طابعًا شموليًا لفتح مسارات تعاون في مجالات مختلفة. وفي حين أن التركيز الإعلامي ينصب على الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الأمنية والعسكرية، وكذلك على إعلان تفهم الدول الإفريقية لموقف مصر فيما يخص سد النهضة، فبموازاة ذلك شملت التحركات المصرية عقد اتفاقات اقتصادية وتقديم دعم وعون تقني في مشروعات حيوية في عدة دول إفريقية منها تنزانيا والكونغو. ربما يكون الأثر المباشر في المدى القصير للتحركات المصرية في حوض النيل والقرن الإفريقي، إضافة إلى حرص مصر على استبعاد إثيوبيا من عضوية مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، هو فرض قدر من العزلة على نظام رئيس الوزراء آبي أحمد، ولكن لجميع هذه التحركات آثار بعيدة المدى قد تكون أكثر أهمية إذا حرصت مصر على استمرارها وتطويرها.

سد النهضة
سد النهضة

بالرغم من النشاط الملحوظ للسياسة الخارجية المصرية مؤخرًا وما حققته من نجاح ملحوظ في ملفات متعددة، إلا أن ثمة حدودا لحركتها لن يكون بإمكانها تخطيها إلا إذا أمكن للدولة المصرية التعامل مع ملفين داخليين أساسيين، الأول هو الملف الاقتصادي، فلن تكون حركة مصر حرة بشكل كامل وتتمتع باستقلالية تامة إلا إذا خرج اقتصادها من أزمته التي لا زالت مستمرة. الملف الثاني هو سجل حقوق الإنسان المتراجع إلى أدنى مستوى في تاريخ مصر المعاصر، ومهما أمكن للقيادة السياسية أن تستغل الدور المصري في ملفات خارجية هامة حتى تجبر شركاءها الأوربيين أو الإدارة الأمريكية على التغاضي عن ذلك الملف، فهي تعلم يقينا أن ثمة حدودًا للتغاضي، وثمة أيضا تاريخ صلاحية للدور الذي تلعبه مصر في ملفات الهجرة غير المشروعة والإرهاب، يحدده تطورات حلحلة أوضاع المنطقة في المرحلة القادمة. وفي النهاية، تجنب الضغوط الخارجية في ملف حقوق الإنسان سيكون بالضرورة أكثر سهولة إن أمكن تحقيق انفراجة حقيقية في أوضاعها. ثمة الكثير على المحك فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لمصر في المرحلة القادمة، فلفترة طويلة لم تكن المصالح الحيوية للشعب المصري معلقة بنجاح هذه السياسة بقدر ما هي معلقة بها اليوم. لدينا جميعا أسبابا للتطلع لأن يستمر الحراك المصري على المسارات المختلفة وأن يتطور محققًا مزيدا من النجاحات، على أمل أن تنعكس تلك النجاحات في صورة تأمين فرصا لحياة أفضل لكل المصريين.