المتابع للسياسة الخارجية المصرية العام الفائت يلحظ تغيرًا في طريقة الآداء؛ الذي انتقل من رد الفعل إلى المبادرة، ومن العمل في إطار تحالفات إقليمية بنيت في مواجهة تداعيات الربيع العربي إلى إعادة صياغة العلاقة في الإقليم بشكل يمكن معه استعادة بعض من الدور المصري.
لا يهدف هذا المقال إلى مناقشة مستفيضة حول السياسات المصرية الجديدة، لكنه يرمي إلى وضع هذه السياسات المستجدة في البيئة الجيواستراتيجية التي تطالعنا الأعوام القادمة وكيف يمكن توليد استجابات استراتيجية للتعامل معها في ظل ملمح ثابت يكاد يكون عليه توافق كبير في العقل الاستراتيجي العالمي- خاصة بعد حقبة كورونا؛ فالتغيير وليس الاستمرارية، هو الديناميكية المهيمنة علي كيفية تطور العالم خلال العقدين المقبلين؛ لذا فإن المرونة والتكيف لمواجهة عدم اليقين بشأن المستقبل من العوامل الرئيسية في الصعود والسقوط النسبي للحكم الديمقراطي والسلطوي على حد سواء. المرونة والتكيف يؤثران في آداء الحكومات- أيًا كانت طبيعتها- بغية مواجهة بيئة تتسم بالسيولة الشديدة التي تنذر بمزيد من التقلبات السياسية، وهنا يصبح بناء المرونة المحلية للتعامل مع للصدمات والتغيرات عنصرًا أكثر أهمية في القوة الوطنية؛ فالعالم بات أكثر ترابطًا، وأصبحت الصدمات النظامية أكثر شيوعًا وشدة، مما أدى إلى ظهور العديد من التأثيرات الممتدة؛ وكورونا مجرد مثال من أمثلة عديدة.
بيئة دولية قيد التحول
انتهى تقرير الاتجاهات والسيناريوهات الاستراتيجية العالمية 2040 الذي أصدره مجتمع الاستخبارات الأمريكي مارس الماضي إلى ملامح خمس لهذه البيئة: تنافس صيني أمريكي مع غياب للإجماع الدولي، وتصاعد دور الفواعل من غير الدول التي تكون قوية ومؤثرة، وتنافس بين القوى الإقليمية التي تسعى لتأثير أكبر تزيد معه احتمالات الصراع، وبروز تحديات جديدة أمام الدول تتأتى من زيادة الاتصال الرقمي وتدفق المعلومات والتطور التكنولوجي وتغير المناخ، كما تنافس مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة بشكل متزايد لتعزيز وصياغة المعايير العالمية المشتركة على نطاق واسع في ظل ضعف المؤسسات الدولية التي حكمت العالم بعد الحرب الثانية.
تنافس أمريكي صيني
سيكون للولايات المتحدة والصين التأثير الأكبر على الديناميكيات العالمية، ودعم الرؤى المتنافسة للنظام الدولي والحوكمة التي تعكس مصالحهما الأساسية وأيديولوجياتهما. سيؤثر هذا التنافس على معظم المجالات، ما يؤدي إلى توتر ، وفي بعض الحالات إعادة تشكيل التحالفات القائمة، والمنظمات الدولية، والمعايير والقواعد التي قام عليها النظام الدولي، إلا أنه من غير المرجح أن يشبه التنافس الصيني الأمريكي صراع الأخيرة مع الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، بسبب التنوع الكبير في الجهات الفاعلة في النظام الدولي التي يمكنها تشكيل النتائج، والاعتماد المتبادل في مختلف المجالات، وقلة خطوط التقسيم الأيديولوجي الحاد؛ فمن غير المرجح أن تظهر نفس الكثافة الأيديولوجية للحرب الباردة برغم أن القيادة الصينية تدرك بالفعل أنها منخرطة في صراع أيديولوجي طويل الأمد مع الولايات المتحدة.
سوف تتنافس القوى المتعارضة في هذه البيئة لتشكيل المعايير والقواعد والمؤسسات العالمية، وسيكون للدول المختلفة، جنبًا إلى جنب مع حلفائها القدامى، والصين التأثير الأكبر على الديناميكيات العالمية، ودعم الرؤى المتنافسة للنظام الدولي والحوكمة التي تعكس مصالحها الأساسية وأيديولوجياتها.
من غير المحتمل أن يتم سيطرة دولة واحدة على جميع المناطق أو المجالات، ما يفتح الباب أمام مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة لتعزيز مصالحهم، ومن المرجح أيضًا أن يكون للاتحاد الأوروبي والهند واليابان وروسيا والمملكة المتحدة دور مهم في تشكيل النتائج الجيوسياسية والاقتصادية.
عدم وجود قوة راجحة أو الإجماع العالمي على بعض المجالات الرئيسية سيوفر فرصًا للجهات الفاعلة الأخرى لقيادة أو متابعة مصالحهم الذاتية، خاصة داخل مناطقهم. يمكن للقوى الكبرى الأخرى، بما في ذلك روسيا، والاتحاد الأوروبي، واليابان، والمملكة المتحدة، وربما الهند، أن يكون لديها مساحة أكبر للمناورة لممارسة نفوذها خلال العقدين المقبلين، ومن المرجح أن يكون لها تأثير في تشكيل الجغرافيا السياسية والاقتصادية.
فواعل من غير الدول قوية ومؤثرة
الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل المنظمات غير الحكومية، والجماعات الدينية، وشركات التكنولوجيا المتميزة، ستمتلك الموارد والانتشار العالمي لبناء وتعزيز شبكات بديلة تتعامل مع الدول أو تتنافس معها أو ربما تتجاوزها. في بعض الحالات، هذه الجهات الفاعلة يمكن أن تشكل أو تقيد إجراءات الدولة من خلال الضغط على القادة وتعبئة المواطنين، ومن المتوقع أن يقدم مزيد من الفاعلين مجموعة أوسع من الخدمات، فمع تزايد الاحتياجات والتوقعات العامة من المرجح أن يكون هناك تحول متزايد نحو نهج تكيفي للحكم يشمل مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة خارج مؤسسات الدولة -التي تقدم الرفاهية والأمن- والجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك شركات القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية وجماعات المجتمع المدني والمنظمات الدينية والشبكات المتمردة، بل والإجرامية.
ومن المحتمل أن تمتد هذه الأدوار إلى نطاق أوسع من الفاعلين والوظائف بسبب مجموعة من العوامل، بما في ذلك فشل الدول في توفير الحوكمة الكافية، وزيادة الموارد المتاحة للقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية والأفراد بسبب التكنولوجيا، والتعقيد المتزايد، وزيادة تحديات السياسة العامة التي تتطلب العديد من أصحاب المصلحة للتصدي لها.
إن توفير الحوكمة خارج مؤسسات الدولة لا يشكل بالضرورة تهديدًا للحكومات المركزية، ولا يقلل من الجودة الشاملة للحوكمة التي تقدم للناس، ولكن النظم التسلطية عادة ما ترتاب في أي أنشطة تقوم بها مؤسسات المجتمع بعيدًا أو مستقلة عنها، كما يعتمد ذلك على أنماط التفاعل بين الطرفين وعلاقة كل منهما بالخارج، بالإضافة إلى صيغ التمويل.
القوى الإقليمية تسعى لتأثير أكبر
من المرجح أن يرتفع خطر الصراع بين الدول بسبب التقدم التكنولوجي وتوسع نطاق الأهداف، وحدود جديدة للصراع وتنوع أكبر من الجهات الفاعلة، كما أن الردع المتبادل سيكون أكثر صعوبة، ومن المرجح أن تنتج ديناميكيات القوة هذه بيئة جيوسياسية أكثر تقلباً وتصادمية، وتعيد تشكيل التعددية، وتوسع الفجوة بين التحديات عبر الوطنية والترتيبات التعاونية لمعالجتها.
في هذه البيئة التنافسية، من المحتمل أن تسعى القوى الإقليمية إلى الاستفادة من الفرص الجديدة وتولي أدوار شغلت في السابق من قبل قوة عظمى لتعزيز الاستقرار الإقليمي أو لكسب النفوذ. ومن المرجح أن يتغير هذا المزيج من القوى الإقليمية التي تسعى إلى أدوار وتأثير أكبر خلال العقدين المقبلين، ما يعكس الفرص وكذلك القدرات المتغيرة وأهداف القيادة لمختلف الدول، ومن المحتمل أن تحاول القوى الإقليمية لعب دور لصالح القوى الكبرى ضد بعضها البعض لتعظيم المكافآت مع محاولة تجنب الانجرار إلى صراعات غير مرغوب فيها. قد يسعون إلى بناء تحالفاتهم الخاصة أو تقوية التكتلات الإقليمية لإبراز نفوذها، وفي بعض الحالات، التعاون في مواجهة التحديات العالمية، ولكن في حالات أخرى قد تتصرف بشكل أكثر عدوانية في النزاعات في منطقتها، وربما سيلعب البعض أدوارًا حاسمة في مواجهة التحديات على المستوى الإقليمي بما في ذلك التهديدات الأمنية للجهات الفاعلة غير الحكومية، والإرهاب، والهجرة الجماعية، والخصوصية الرقمية.
سوف يتنافس اللاعبون الإقليميون، لتعزيز أهدافهم ومصالحهم، ما يؤدي إلى مزيد من التقلب وعدم اليقين، وفي الوقت نفسه، قد تكافح الدول من أجل إرساء رد ثابت مع هذه الأنظمة الجديدة، خاصة إذا استمرت القواعد والمعاهدات التي تحكمها في التآكل أو التأخر.
تحديات جديدة
إن توسيع القوة التكنولوجية والشبكية والمعلوماتية سيكمل الجوانب العسكرية والاقتصادية وجوانب القوة الناعمة التقليدية في النظام الدولي، ومن المحتمل أن تنتج ديناميكيات القوة هذه بيئة جيوسياسية أكثر تقلباً وتصادمية، وتعيد تشكيل التعددية، وتوسع الفجوة بين التحديات عبر الوطنية والترتيبات التعاونية لمواءمتها.
مع هذه التقنيات، ستكون هناك ميزة المحرك الأول، والتي ستمكن الدول والجهات الفاعلة من غير الدول من تشكيل وجهات النظر واتخاذ القرارات للسكان، واكتساب مزايا معلوماتية على المنافسين، والاستعداد بشكل أفضل للصدمات المستقبلية. من المرجح أن يكون للمنافسة المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها المقربين التأثير الأوسع والأعمق على الديناميكيات العالمية، بما في ذلك التجارة العالمية وتدفقات المعلومات، ووتيرة واتجاه التغيير التكنولوجي، ونتائج الصراعات بين الدول، والاستدامة البيئية.
من المرجح أن تكون هذه البيئة الأكثر تنافسية مع التقنيات الناشئة بسرعة أكثر تقلبًا مع زيادة مخاطر الصراع، على الأقل حتى تضع الدول قواعد ومعايير وحدودًا جديدة لمجالات المنافسة الأكثر تخريبًا.
إن النمو في الاتصال الرقمي العالمي، وتكنولوجيا المعلومات، وتقنيات التسويق الرقمي التي يمكن الوصول إليها على نطاق واسع، يفتح الباب أمام إمكانية زيادة أنشطة التأثير على المعلومات ضد جميع المجتمعات تقريبًا. من شبه المؤكد أن كل من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية ستكون قادرة على استخدام هذه الأدوات للتأثير على السكان، بما في ذلك عن طريق التلاعب المعرفي والاستقطاب المجتمعي لتشكيل كيفية تلقي الناس للمعلومات وتفسيرها والتصرف بناءً عليها، في هذه الحالة يمكن للأفكار والروايات المقنعة تشكيل مواقف وأولويات الجهات الفاعلة الأخرى في النظام الدولي، ويمكنها إضفاء الشرعية على ممارسة أنواع أخرى من السلطة. يمكن أن تستحوذ قوة الجذب الناعمة للمجتمع، بما في ذلك ثقافته، وصادراته الترفيهية، والرياضة، وأنماط الحياة، والابتكارات التكنولوجية، على خيال السكان الآخرين، كما يمكن للسياحة والتعليم في الخارج – وخاصة التعليم العالي – زيادة جاذبية المجتمعات.
المعايير الدولية مساحة للصراع
سوف تتنافس مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة بشكل متزايد لتعزيز وصياغة المعايير العالمية المشتركة على نطاق واسع، والتي تتراوح من احترام حقوق الإنسان والمؤسسات الديمقراطية إلى السلوك في الحرب، إلا إنه من الصعب الحفاظ على الالتزام بالعديد من المعايير الراسخة وتطوير معايير جديدة للتحكم في السلوك في مجالات جديدة، بما في ذلك الإنترنت والفضاء والبحار والقطب الشمالي؛ خاصة أن المؤسسات والمعايير الحالية ليست مصممة بشكل جيد لمجالات متطورة مثل التكنولوجيا الحيوية والاستجابة الإلكترونية والبيئية وللعدد المتزايد من الجهات الفاعلة الجديدة العاملة في كل مجال، فالعديد من المنظمات الحكومية الدولية العالمية التي دعمت النظام الدولي بقيادة الغرب لعقود من الزمن، بما في ذلك الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية (WTO)، تعثرت بسبب الجمود السياسي، ما أدى إلى انخفاض قدرتها مقارنة بتفاقم عابر للحدود الوطنية، لذا من المرجح أن تظل معظم هذه المنظمات ساحات معارك دبلوماسية وأن يتم إفراغها أو تهميشها من قبل القوى المتنافسة، ومن المحتمل أن تعمل هذه المؤسسات مع، وفي بعض الحالات بالتوازي معها، المبادرات الإقليمية وترتيبات الحوكمة الأخرى، مثل الاستجابة الوبائية في أفريقيا جنوب الصحراء، وتمويل البنية التحتية في آسيا، والذكاء الاصطناعي (AI) وإدارة التكنولوجيا الحيوية.
ومن المرجح أن يؤدي استمرار ضعف أداء العديد من المؤسسات العالمية المتعددة الأطراف إلى تحويل بعض التركيز إلى ترتيبات بديلة غير رسمية أخرى، فمع استمرار تحول القوة العالمية، من المرجح أن تواجه العديد من العلاقات والمؤسسات والمعايير التي حكمت ووجهت السلوك عبر القضايا منذ نهاية الحرب الباردة إلى حد كبير تحديات متزايدة.
الخلاصة: إن شدة الخلافات حول مهمة وسلوك هذه المؤسسات والتحالفات، ما يزيد من عدم اليقين حول مدى استعدادها للاستجابة للقضايا التقليدية والناشئة.
المرونة الاستراتيجية
إن بناء المرونة الاستراتيجية يعتمد على مرتكزات خمسة: 1-مخزون من الثقة داخل المجتمعات وبين السكان والقادة، ومن المرجح أن يكون حشده أكثر صعوبة حين تصبح المجتمعات أكثر انقسامًا واستقطابا؛ ليس على المستوى السياسي فقط لكن التفاوتات بين المواطنين وتوزيع الثروة أحد تجليات هذا الانقسام، 2-وهو يرتكز علي رأس المال البشري وخصائص السكان المواتية، بما في ذلك السكان في سن العمل، والتعليم الأساسي الشامل، وتركيز العلوم والهندسة والرياضيات ومهارات التفكير النقدي التي ستوفر مزايا كبيرة للابتكار والتقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي، 3-ومؤسسات ذات قدرة على توليد الاستجابة المناسبة للتحديات المستجدة في الزمن المطلوب، 4-علاقات إقليمية ودولية متنوعة؛ ففي هذه البيئة الجيوسياسية الأكثر تنافسية وتقلبًا تفضل العديد من البلدان الحفاظ على علاقات متنوعة، لا سيما في المجال الاقتصادي، 5-وشرط نجاح ذلك كله شراكة حقيقية مع المجتمع صاحب المصلحة الأولي والأخيرة ومتحمل العبء الأكبر.
لكن هل يمكن أن يتحقق ذلك دون حديث عن ملامح الجمهورية الجديدة التي تقوم على أسس ثلاثة سبق وأن فصلناها في مصر 360: (عقد اجتماعي جديد، واحترام تطلعات المصريين، دمج حقيقي لاحتياجات الشباب المصري في أولويات السياسة العامة).