هكذا إذًن حمل أحمد الغندور أو (الدحيح) برنامجه وتفاحته الشهيرة ورحل إلى منصة جديدة تبث من بلد مختلف، وفي اليوم نفسه اشتعلت السوشيال ميديا بالجدل والهجوم الساحق وباتهام هذا الشاب النابه بالتطبيع.
ربما أكون شخصا “قديما”، لكن التطبيع كما أذكره في أيامي، كان يطلق على زيارة إسرائيل أو التعامل مع مؤسسة إسرائيلية أو أفراد إسرائيليين، أما توجيه هذا الاتهام بناء على التعاون مع مؤسسة عربية، بحجة أن تلك المؤسسة تعاملت مع شاب فلسطيني من “عرب 48″، وأن هذا الشاب الفلسطيني تعامل مع إسرائيليين، فإنها “لفة” تذكرني بالسؤال الاستنكاري الشهير “ودنك منين يا جحا؟”، وتذكرني بأن تهمة “التعاون مع العدو” كانت توجه رسميا في دول عربية لمواطنين، لأنهم مثلا عرضوا فيلما تمثل فيه إليزابيث تايلور، بحجة أن الممثلة الشهيرة صديقة لإسرائيل.
تقول النظرية أن المسافة بينك وبين أي إنسان على سطح الأرض، سواء كان في جزر أندونيسيا أو عاصمة البرازيل، لا يمكن أن تزيد عن سلسلة علاقات بشرية من 6 أشخاص، فلابد أن لك قريبا أو صديقا (1) يعرف مسؤولا( 2)، وهذا المسؤول يعرف رئيسا (3 )، وهذا الرئيس يعرف نظيرا (4) الذي بدوره يعرف وزيرا (5) وذلك الوزير في النهاية قد يعرف ليونيل ميسي أو ميريل ستريب ( 6). وطبعا قد تختصر هذه السلسلة في أحيان كثيرة إلى حلقتين أو ثلاثة؛ إذ ربما تعرف أنت شخصا في فريق إعداد برنامج عمرو أديب الذي التقى ميسي مباشرة.
هكذا يمكن التسلّي بهذه اللعبة الاجتماعية الطريفة، لكنها تصبح شديدة الخطورة حين تستخدم لكيل الاتهامات، والاتهامات في بلادنا لا تقنع إلا بالكلمات الكبيرة، بالتطبيع والخيانة وغيرها، حتى لو كان الشخص المعني، كالغندور في حالة برنامج الدحيح، في غير حاجة لأن “يبيع القضية”، بل في واقع الأمر هو مكسب هائل لأي منصة.
https://www.youtube.com/watch?v=KV27JxuR6Qo
لكن من قال إن السوشيال ميديا تحترم المنطق كثيرا، واشتعالها المفاجئ بمجرد إعلان الدحيح عن برنامجه يذكرنا بالتيار الوحيد الذي يمتلك هذه القدرة على صنع التريند في غمضة عين، ولا يزال – للأسف – يقود قطاعا من الرأي العام بوسائل مباشرة وغير مباشرة، ويدير العديد من المنصات والصفحات التي تتخفى وراء أسماء رياضية وفنية وشعبية، للاستخدام في الوقت المناسب، نعرف أن لذلك التيار ثأرا كبيرا مع الدحيح بوصفه انتزع – بمحتواه العلمي الجذاب والععقلاني – ملايين المتابعين ممن كانوا أسرى هراء المشايخ ودجّالي الإعجاز العلمي، ونعلم أن ذلك التيار شن الحملة تلو الأخرى على برنامج الغندور تارة بالتكفير وتارة باتهامه بالسرقة العلمية، وأخيرا من بوابة فلسطين، وبصياغة اتهامات التطبيع على طريقة عادل إمام في مسرحية الزعيم “وواحد واقف جنبه بيكرهه”.
غير أننا ونحن نتابع كل ذلك لابد أن نأسى، لرؤيتنا شابا مصريا نابغا وناجحا تتخاطفه المنصات العربية، دون أن يجد في بلاده من يتبنى برنامجه، ولا يمكن للمرء ألا يتساءل؛ أيعقل أن إمكانات مصر الضخمة في الإنتاج التلفزيوني والإعلامي بأنواعه، تعجز عن استيعاب شباننا النابهين – فالغندور ليس وحده – عبر منصاتنا ومحطاتنا المصرية؟ إن إجابة هذا السؤال ينبغي أن تهمنا أكثر من أن تهمّ الغندور نفسه، فهي تتعلق بواقعنا الإعلامي والعلمي، وبالمستقبل الذي تبحث عنه “الجمهورية الجديدة”.