لن ينال المواطن المصري شيئًا من ذهبها ولا مجوهراتها ولا تحفها، وحتى إذا نُزعت ملكيتها من صاحبها بفرض أنه خالف القانون، وهو أمر لم يثبت بعد – فهي ستلف وتدور طبقًا للآليات الرأسمالية المعمول بها – وتذهب إلى نفس الطبقة الاجتماعية التي استولت على ثروات مصر منذ تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1974 وحتى الآن، أي منذ 47 سنة بالتمام والكمال.
الطبقة الاجتماعية هي كلمة السر في فتح باب المغارة، هي باختصار “افتح يا سمسم” التي تفتح باب التبصر والفهم للمواطن المصري البسيط الذكي، ليعرف على الأقل – ما دام لن ينوبه من الحظ جانب – لماذا تكومت مئات الملايين، وربما أكثر من مليار جنيه في شقة مغلقة متربة في حي الزمالك.
لماذا لدينا (عم دهب) وربما المئات من (عم دهب) يكتنزون ثروات طائلة ويخفونها في دهاليز سرية وبيوت مغلقة بإحكام بعيدًا عن الجهاز المصرفي وبنوكه
لن ندخل في جدل -ليس لأحد أن يحسمه سوى القضاء المصري- حول شرعية أو عدم شرعية اكتناز شخص ما لكل تلك المقتنيات، وهل تحتوي الخبيئة على قطع أثرية كانت تقتضي بالقانون الإبلاغ عنها وتسجيلها أم لا، وهل تم تحصيلها بطرق شرعية مثل الوراثة والشراء المثبت بأوراق رسمية، أم أن هناك شبهة جنائية في جمعها على خلاف القانون؟.. ولكن سنحاول الدخول في التفسير الاجتماعي الأشمل “لماذا لدينا (عم دهب) وربما المئات من (عم دهب) يكتنزون ثروات طائلة ويخفونها في دهاليز سرية وبيوت مغلقة بإحكام بعيدًا عن الجهاز المصرفي وبنوكه، وبعيدًا حتى عن وضعها في معارض أو متاحف خاصة أو عامة (مع الاحتفاظ بحق الملكية) تحت أعين الناس، ترقية لثقافتهم البصرية، كما تفعل الطبقات المناظرة في الدول الأخرى؟”.
مالك الشقة، -وهذا أمر لا علاقة له على الإطلاق بما هو متفق عليه أنه من رموز القضاة الأجلاء والمقتدرين- وصهره وخال ابنه صاحب الحكم القضائي الذي تحركت على أساسه قوة تنفيذ الأحكام لاقتحام الشقة -هو رجل أعمال وبرلماني سابق عن الحزب الوطني في عهد مبارك -هما تعبير اجتماعي وليس شخصي، – عن الطبقة التي تم تصنيعها أو تخليقها لكي تنقل إليها قيادة التحول إلى سياسة رأسمالية انفتاح “السداح مداح” على ما قال الأستاذ أحمد بهاء الدين، أو رأسمالية “القطط السمان” بحسب تعبير الدكتور رفعت المحجوب، أو “رأسمالية المحاسيب” كما عنون الدكتور محمود عبد الفضيل كتابه الشهير.
كانت ثورة يوليو 1952 قد قضت بنسبة كبيرة، لكنها ليست حاسمة، على نفوذ الطبقة القديمة في العصر الملكي المكونة من كبار ملاك الأراضي عن طريق “الإصلاح الزراعي”، ومن الرأسماليين المصريين والأجانب -رأسمالية تجارية في الأساس مع محاولات خجولة لرأسمالية صناعية قادها طلعت حرب- عن طريق التأميم، واستبدلتها بقطاع عام صناعي قوي وقطاع زراعي تعاوني.
وعندما جاء الرئيس السادات منقلبًا على الثورة من الداخل، أو حسب الحكمة المصفاة للشعب المصري “مشي على خط عبد الناصر بس بأستيكة”، بسياسة الخضوع للغرب في السياسة الخارجية بالخروج من العالم العربي والصلح مع إسرائيل خارجيًا، وانتهاج الخط الرأسمالي المُتفلت داخليًا، كان لابد له من أن يعيد بناء هذه الطبقة المتآكلة أو المنهارة.
تنتمي عائلة المستشار صاحب ما وُصف صحفيًا بـ”مغارة علي بابا” إلى الطبقة القديمة الموروثة من العصر الملكي من ملاك الأراضي والسياسيين القريبين من القصر
هنا، وبالتنسيق التام مع دوائر الرأسمالية العالمية تم تخليق هذه الطبقة من ثلاثة مصادر، هي بقايا الطبقة القديمة، وطبقة جديدة من أصحاب توكيلات الماركات والعلامات الأجنبية الشهيرة، وطبقة خائنة من بعض تكنوقراط وبيروقراط القطاع العام الذين أرهقهم الطابع “البيورتاني” للقيادة الناصرية وحَدَ من محاولات استفادتهم من مناصبهم في تحصيل الثروة الحرام خارج السقف الحديدي للرواتب والمكافآت وقتئذ.
تنتمي عائلة المستشار صاحب ما وُصف صحفيًا بـ”مغارة علي بابا” إلى الطبقة القديمة الموروثة من العصر الملكي من ملاك الأراضي والسياسيين القريبين من القصر، فجده كان وزيرًا لداخلية الملك فؤاد، وأبوه كان وزير داخلية في عصر فاروق، وينتمي الصهر أو الخال – مع جذور في الطبقة القديمة -إلى طبقة الانفتاح والطبقة السياسية التي خلقها السادات، فوالده تولى عدة وزارات في العهد الساداتي، وهنا كانت أبنة وزير العهد الجمهوري الثاني هي من صنع المصاهرة السياسية مع ابن وزير العهد الملكي وهي صيغة تكررت مئات المرات بين عشرات العائلات المماثلة لتتمكن في النهاية من صنع هذه الطبقة وأبنائها وأحفادها المنتشرين في كل قصور وشقق ومنتجعات الصفوة المعزولة عن الـ90% من الشعب المصري.
عندما خلقت المصاهرة “الوعاء” الذي يستطيع أن يستوعب الثروة ويحول نمط ثورة يوليو لتوزيع الثروة الساعي للعدالة إلى النمط الملكي القديم لتوزيع الثروة، بل وتخطاه في فجاجته، جاء دور “آليات” نقل الثروة على مدى ما يقرب من نصف قرن كامل، والتي تمثلت في خمس آليات أساسية هي:
1- ابتلاع الأراضي: عن طريق منحهم – دون بقية المواطنين- مساحات شاسعة من أراضي الدولة أو بالأصح أراضي الشعب بأسعار مخفضة، وشروط دفع متساهلة لدرجة التواطؤ.
2- الاستحواذ على أموال البنوك العامة والخاصة، في قروض تحيط بها الشكوك، وبدون ضمانات حقيقة، انتهت إلى ديون معدومة، أو تهريبها للخارج، أو أحكام سجن سرعان ما تم تخفيفها أو حتى إلغاؤها لاحقًا بكتائب المحامين باهظي الأتعاب عظيمي الحيل القانونية المشروعة، كما حدث في قضية نواب القروض الشهيرة التي استغرقت نحو عقد من السنوات ولها علاقة مباشرة بأطراف في قضية “مغارة على بابا”.
3- الهيمنة على العقود الحكومية الهائلة في المشتريات والمقاولات وعمليات الاستيراد التي نتج عنها احتكارات لا يكاد يعرفها بلد من البلدان، وصل إلى جعل السلعة الاستراتيجية الواحدة مثل القمح أو الحديد وغيرها في يد أشخاص أو أسر لا تتعدى أحيانًا أصابع اليدين.
4- الخصخصة الفاسدة التي تمكنت بها هذه العائلات المتصاهرة من الاستيلاء على أصول القطاع العام من قوت ودم الشعب المصري وطبقته العاملة بسعر التراب، كما يقول أولاد البلد، وصفة الفساد ليس من عندنا، ولكن سجلتها أحكام قضائية نهائية معلنة ومنشورة ناصعة في سجل القضاء المصري عامة ومجلس الدولة خاصة.
5- نظام ضريبي مختل، يعوق مصر حتى عن توقيع ما هو مطبق في أعتى النظم الرأسمالية من استخدام الضرائب كأداة مركزية في إعادة توزيع الدخل وتقليل الفوارق المزمنة بين الطبقات، قدرت وزارة المالية المنازعات الضريبية التي خسرتها الدولة المصرية العام الماضي بما يفوق (التريليون جنيه) يرجع القسم الأعظم فيها إلى تهرب كبار الممولين المنتمين لهذه الطبقة.
التطور الرئيسي الذي تلى ذلك، هو تطور منطقي، فالسلطة السياسية في عهد السادات التي كانت تقرر توزيع الثروة علي الطبقة المهجنة من العهد الملكي وشريحة رفيعة من عهد القطاع العام وطبقة عهد الانفتاح، تحورت لتصبح سلطة، وهو ما عرف بـ”زواج الثروة بالسلطة” بتعبير الدكتور مصطفي الفقي.
السلطة السياسية في عهد السادات التي كانت تقرر توزيع الثروة علي الطبقة المهجنة من العهد الملكي وشريحة رفيعة من عهد القطاع العام وطبقة عهد الانفتاح، تحورت لتصبح سلطة، وهو ما عرف بـ”زواج الثروة بالسلطة”
وأصبح رجال الأعمال وأنجالهم وزراء وبرلمانيون وصناع سياسة عامة، لاحظ نسبة رجال الأعمال الوزراء في حكومات ما بعد 2001 أيّ بعد سيطرة جناح التوريث بقيادة جمال مبارك على الحزب الوطني، أو لاحظ الدور السياسي المهيمن لملك الحديد وآخر أمين تنظيم للحزب الوطني أحمد عز على توجيه الانتخابات والسياسة، وكانت انتخابات برلمان 2010 التي وصفت بالمزورة التي خطط لها وكانت أحد الأسباب المباشرة في اندلاع ثورة يناير، أو لاحظ العدد الهائل من أعضاء مجلس النواب من طبقة رجال الأعمال بدءًا من سحر طلعت مصطفى إلى محمد أبو العينين، مرورًا بأشرف رشاد عثمان وصولاً إلى المرشدي صاحب أحدث حفل زفاف من مصاهرات تلك الطبقة.
النتيجة الحتمية يثبتها تقرير توزيع الثروة العالمي عن التفاوت الطبقي في مصر قبل عدة سنوات، والذي يقرر أن 10% من السكان استحوذوا على ما يزيد على 75% من الثروة وأن 1% من هذه العشرة في المائة تستحوذ على أقل قليلا من 50% . والـ90% يعيشون على أقل من 25% من الثروة الوطنية.
بعبارة أخرى لم تكن هذه الطبقة غافلة عن إمكانية قيام حدث كثورة يناير أو ألف يناير أخرى، فالثورة هي القدر المحتوم لتكدس الثروة، لكنها هذه المرة استوعبت درس ابن موظف البريد 1952- 1970!!، وحصّنت نفسها في قلب السلطة ومؤسسات التشريع والتنفيذ وأحيانًا القضاء بمحاولة احتكارها لأبنائها، أو كما قال أحد وزراء العدل “ابن عامل النظافة لا يمكن أن يصبح قاضيًا؛ لأن القاضي لابد أن يكون قد نشأ في وسط بيئي واجتماعي مناسب”.
هل هذا الوسط الاجتماعي والبيئي المناسب!
إضافة إلى معدل ونوع جرائم بعض المنتسبين إلى تلك الطبقة، وتعاملهم على أنهم فوق القانون، فإن هذه الطبقة المتحدة التي تعمل كبنيان مرصوص نجحت في جعل الحكومة والتشريع يفصلان القوانين لصالحها، والتي تهب هبة رجل واحد لمنع أي تشريع أو قرار قد يعوق نزحها للثروة. هذه الطبقة تتصارع مع بعضها البعض حتى في داخل العائلة بمنتهى الوحشية والقسوة عندما تتنازع المصالح الفردية أو لكل أسرة على حدة داخل العائلة المتصاهرة.
هل يجيب هذا ربما على سؤال لا ينفك يطرح منذ اكتشاف (المغارة/ الكنز)، وهو لماذا تقوم قوة تنفيذ الأحكام بمداهمة شقة مغلقة منذ سنوات لشخص مقيم في الخارج لتنفيذ حكم ليس عليه ولكن على ابنه؟، هنا وفي الصراع داخل الطبقة على الثروة يصبح كل شيء مباحا على طريقة “عليّ وعلي أعدائي” بما في ذلك المعلومات الداخلية التي لا يعرفها سوى الأهل الأقربون، عن هوايات الاكتناز والاقتناء والتخزين في أماكن بعينها وليس في البيوت المسكونة.
وهل يجيب ما سبق على سؤال آخر، لماذا تدفقت المعلومات بغزارة في هذا الموضوع على إعلام لديه فقر دم في تدفق المعلومات المُدققة والصحيحة؟ بل ولماذا كان سهلا على البعض اكتشاف من خلال مناقشات تليفزيونية بديهية على الهواء مباشرة أن التغطية كانت منحازة لهذا الطرف أو ذاك حسب قوة “دفع” الأحداث؟!.