لم تعرف مصر أرقامًا تفصيلية عن حجم التهرب الضريبي، لكنه قدّر بنحو 68 مليار جنيه سنويًا خلال حكومة إبراهيم محلب. كما أن ثبات النسبة عند 14% من الدخل القومي في أعلى تقدير لها، يطرح سؤال مفاده كيف يتم استلاب أموال المصريين عبر التجنب الضريبي؟
واتفقت دول مجموعة السبع مؤخرًا على الالتزام بحد أدنى من الضريبة العالمية على الشركات بنسبة 15%، وفقما تحدد كل دولة. وهو القرار الذي يهدف إلى وضع حد للمنافسة الضريبية بين الدول، التي خلقت ملاذات آمنة وجنات ضريبية للعديد من الشركات.
ويُعرف الملاذ الضريبي عمومًا بأنه بلد أو ولاية مثلا كحال بعض الولايات الأمريكية، يقدم للأفراد والمنشآت التجارية الأجنبية التزامات ضريبية قليلة أو معدومة، على أن تشارك هذه الملاذات معلومات مالية محدودة أو معدومة مع السلطات الضريبية الأجنبية. كما لا تتطلب الدول التي توفر هذه الخدمات الإقامة الفعلية أو الوجود التجاري للأفراد أو المنشآت للاستفادة من سياساتها الضريبية.
أما تعريف الازدواج الضريبي، وفق منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية “هو تحصيل نفس الضريبة أو ضريبة مشابهة في دولتين مختلفتين أو في دولة معينة”.
وفي الظاهر يعتبر تجنب الازدواج الضريبي فرصة لنمو بيئة الأعمال، وازدهارها بين الدول. ولكن مع وجود بلاد الملاذات الضريبية تصبح المعادلة شديدة التعقيد، إذ تتهرب الشركات التي يملكها المليارديرات من دفع الضرائب. بينما يزداد العبء الضريبي على الطبقات الوسطى والفقيرة، والاقتصاديات الصغيرة التي لا تملك ملاذًا في دبي، أو جزر الكاريبي.
ووفق دراسة لعبد الفتاح الجبالي عن العدالة الضريبية، فإن شركات الأشخاص التي يقل حجم أعمالها عن مليوني جنيه دفعت 28% من أرباحها كضرائب. أما الشركات التي زاد حجم أعمالها على مليار جنيه فدفعت فقط 3.5% فقط من أرباحها كضرائب.
تعثر النظام الضريبي.. عصر مبارك
خلال حقبة مبارك عرف المستثمرون أكبر قدر من التسهيلات والإعفاءات الضريبية، التي تصل إلى عشرين عامًا. وعرف أيضًا نظام الأرض مقابل المشروعات بحسب الباحث محمد جاد، حيث كان يراهن على نجاح سياسة الإعفاءات كأداة لجذب الاستثمار.
لم تنجح سياسة الحوافز في تحقيق الأهداف المأمولة، يستكمل جاد، ومعها زادت تعقيدات الموقف الضريبي. فاضطر الحرس الجديد الذي برز مع بداية الألفية، بقيادة بطرس غالي لاختلاق سياسة نيوليبرالية في مضمونها، تقوم على تخفيض ضريبة الشركات، وتوحيدها في الوقت نفسه لتصل إلى 20%، في حين عمل على إلغاء الإعفاءات السابقة.
وعن تلك الفترة يقول الخبير المحاسبي هاني الحسيني، إن سياسة غالي تميزت بالتدقيق. فعلى سبيل المثال لم تعد تعترف بالمصاريف غير المستندية أو الإكراميات في عرف الشركات، والتي قدرت قبلها بـ 3%. والتي كانت أيضًا بابًا خلفيًا للتحنب الضريبي، كما أن الإقرار أصبح يقدم في ملف مفصل، بعد أن كان ورقة واحدة.
وفي المقابل، وضع غالي عقوبات رادعة في مواجهة التهرب الضريبي، يضف الحسيني، إذ كان الوضع من قبل غير منضبط. ووصل إلى الدرجة التي كان يفضل فيها دفع غرامات التهرب، عن الضرائب نفسها، ومع ذلك لم تراوح حصيلة الضرائب مكانها.
وعن هذا يقول الكاتب الصحفي وائل جمال في مقاله المعنون بـ”الأساطير المؤسسة للسياسة الاقتصادية في عصر نظيف 2″: “تكشف الأرقام الرسمية عن الحساب الختامي للعام المالي 2009-2010 أن صاحب أكبر إجمالي من الضرائب على الأرباح والمكاسب هو هيئتا البترول وقناة السويس، بينما بلغ نصيب العاملين بأجر 13 مليار جنيه، في حين لم تتعدى شركات مثل عز، وموبينيل، وغيرها من الشركات التي تحقق المليارات، مبلغ 22.9 مليار فقط”.
كيف تجنب القطاع الخاص الضرائب لسنوات دون محاسبة؟
تتعدد طرق التجنب الضريبي، والتي تختلف عن التهرب؛ إذ إنها رغم تسببها في خسارة المليارات، لكنها غير مجرمة قانونيًا. ولا يتم المحاسبة عليها، وهي التي تأسس لها علم محاسبي مستقل يدعى “المحاسبة الخلاقة”.
ويشير هاني الحسيني إلى التخطيط الضريبي الذي اخترع طريقة “الشركات الشقيقة”، وهي شركات ترجع ملكيتها لنفس الأفراد. إلا أنها ظاهريًا تبدو كيانين منفصلين، فتحاول إحداهما إقراض الثانية، وهو القرض الذي في حقيقته تحويل للأرباح، فتصبح الشركة مدينة بدلاً من رابحة.
إلى جانب اختلاق تكاليف وهمية، أو حتى إضافة الربح على تكلفة الإنتاج، فتصبح النتيجة صفرية. وهو ما تحاول القوانين الجديدة محاصرته، وأظهرت نجاحًا نسبيًا على هذا الصعيد، مثل بند الأجور الذي شهد أجورًا وهمية. فأصبح يعتمد على بطاقات الرقم القومي، وفقا للحسيني.
أو كما هو الحال مع الصفقة الشهيرة لأوراسكوم للإنشاء، التي ترجع لناصف ساويرس، والتي استغلت إعفاء المعاملات المالية في البورصة من الضرائب، لتبيع أسهمها في أوراسكوم “بلدينج ماتريالز” لصالح شركة لافارج الفرنسية.
وهي الصفقة التي قال عنها الرئيس الراحل محمد مرسي، إن إحدى الشركات متهربة من ضرائب تصل إلى 14 مليار جنيه. وأن الدولة ماضية للحصول على مستحقاتها، ثم تقلص المبلغ إلى 7 مليارات فقط. ولكن نجحت أوراسكوم في عام 2014 في حسم الصراع لصالحها.
ولعائلة ساويرس تاريخ في نقل الأصول المحلية لكيانات أجنبية. ففي عام 2008 نقل سميح ساويرس إدارة شركته التي تعمل في مجال السياحة والفنادق من مركزها الرئيس في مصر إلى شركة أخرى أسسها في سويسرا تحت اسم “أوراسكوم القابضة للتنمية”.
ثم باع نجيب ساويرس، الذي يعمل في مجال الاتصالات، أغلب أصول شركته “أوراسكوم تيليكوم” بداية 2011 إلى شركة “فيمبلكوم” الروسية. مع حصوله على حصة في أسهم الشركة الروسية، في صفقة بلغت قيمتها 6.6 مليار دولار.
وباع نجيب كذلك أسهم شركة “موبينيل” إلى شركة “فرانس تيليكوم”. فيما باع القنوات التلفزيونية التابعة له “أون تي في” لأحد المستثمرين الفرنسيين من أصل تونسي.
“الأوفشور” جواز مرور المليارات
الملاذات الآمنة أو “الأوفشور” الثغرة الأكبر التي ضيعت على المصريين أموال عائلة مبارك ورجاله. وكلفت العالم أيضًا 427 مليار دولار، وفقما كشفت منظمة “شبكة العدالة الضريبية” غير الحكومية. وبحسبة أخرى تفقد أمريكا اللاتينية وأفريقيا ما بين 20.4 و52.5% من ميزانيتهما المخصصة للصحة، وسط تفشي وباء كورونا.
وقبل سنوات أفصح الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، عن قاعدة البيانات الكاملة للأشخاص والشركات الذين يمتلكون شركات مسجلة في الملاذات الضريبية. والتي جرى جمعها من محتويات 11.5 مليون وثيقة سرية لشركة موساك فونسيكا للمحاماة في بنما.
وكان نصيب مصر فيها، بحسب الباحث أسامة دياب، 38 شركة “أوفشور” مرتبطة بنحو 300 شخصية مصرية.
وكانت أبرز الأسماء الواردة في قاعدة البيانات حينها علاء وجمال مبارك، ورجال الأعمال نجيب ساويرس، صلاح دياب، حسن هيكل، حازم بركات، بدر صيدناوي، ممدوح عباس، وعدد من أفراد عائلته. فضلاً عن أفراد عائلات منصور وغبور ونصير. بالإضافة إلى رجال أعمال مرتبطين بشخصيات سياسية مثل نجلي الرئيسين السابقين جمال أنور السادات، وعلاء حسني مبارك، ومنير ثابت شقيق زوجة مبارك سوزان.
إلى جانب أسماء أطباء ومهندسين مصريين، وإعلاميين من بينهم عمرو أديب. والذي ورد اسمه كأحد المساهمين في شركة كوينزجيت، والتي لا يعرف مجال نشاطها بالتحديد.
وللمبادرة المصرية دراسة بعنوان “السياحة الضريبية”، كشفت فيها عن أن الاستثمارات الأجنبية في كثير منها ترجع إلى تلك الملاذات. التي قد يكون ملاك شركاتها الحقيقيون مصريون أو أجانب، وتتعامل معها الحكومة المصرية كاستثمارات عادية. ومنها الإمارات، وهولندا، وجزر كايمن، والعذراء البريطانية.
وبحسب الدراسة، تسعى بلدان كثيرة، من بينها مصر، إلى سد هذه الثغرات الضريبية لتقليل الأضرار الناجمة عن هذه الممارسات إلى أقل حد ممكن. وبرغم ذلك، ففي كل مرة تسد فيها ثغرة، تظهر أخرى جديدة بفعل طرق المحاسبة “الخلاقة”.
الإمارات من “الأوفشور” إلى الاتفاقات الضريبية
وأظهرت دراسة لشبكة العدالة الضريبية أن أكثر من 200 مليار دولار من أموال الشركات الباحثة عن ملاذات ضريبية تدفقت للإمارات. وقالت الشبكة إن الإمارات أصبحت واحدة من أكبر 10 ملاذات، تشمل دولا أخرى من بينها سويسرا، وهولندا، وجزر كايمان وبرمودا.
رئيس مصلحة الضرائب المصرية الأسبق ومستشار هيئة الأمم المتحدة للضرائب الدكتور مصطفى عبدالقادر اعتبر، في تصريحات خاصة، أن أحد المحاور الواردة بمشروع مكافحة تآكل الوعاء الضريبي وتحويل الأرباح الملزمة لكافة دول العالم بما فيها مصر، حتى لو لم يكن لديها نظام ضريبي، وهو المحور الخامس بشأن شرط الجوهر، الذي يطلب من كافة الدول عدم السماح بإنشاء شركات تعتمد على الوجود القانوني فقط، ولكن يجب التحقق من الوجود الاقتصادي لها، عبر مجموعة من العناصر. والتي منها وجود قدر من العمالة الدائمة وبوقت كامل، علاوة على قيمة معينة لمصروفات التشغيل.
أما المحور الثاني، بحسب عبدالقادر فهو ضرورة تبادل المعلومات بشكل ملزم بما فيها الآراء الصادرة عن السلطات الضريبية في بعض الموضوعات ذات الطابع الدولي. مثل المنشأة الدائمة كما هو الحال في الرأي المسبق، وكذلك “اتفاقيات التسعير المسبق” التي تبرمها مصلحة الضرائب مع الممولين.
ولكن بالعودة لدراسة المبادرة المصرية، فإن الاتجاه الآن هو التحول من “دول الأوفشور” أو الملاذات إلى “دول الاتفاقيات الضريبية“. وكنتيجة لذلك انتقلت الكثير من الشركات إلى البلدان التي لديها اتفاقيات منع ازدواج ضريبي ملائمة لتقليل الضريبة.
وهو ما يُصعِّب الأمر بعض الشيء؛ لأن “دول الاتفاقات” ليست واضحة وضوح “دول الأوفشور” التقليدية. وربما تبدو شرعية تمامًا؛ إذ تعتبر مخاطر السمعة المرتبطة بتأسيس شركة أوفشور في دبي أو هولندا (دول اتفاقات ازدواج ضريبي)، أقل كثيرا من المخاطر المرتبطة بذلك في الجزرالعذراء البريطانية، أو بنما (دول أوفشور تقليدية).
وسبق أن وقعت مصر اتفاقية لتجنب الازدواج الضريبي مع الإمارات، وهي الاتفاقية التي سجل النائب طلعت خليل حينها اعتراضه عليها. وذلك خلال كلمته باجتماع لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب. وقال: “إن مصر ستُظلم من تلك الاتفاقية وسيضيع على الخزانة العامة مبالغ ضخمة وتفتح باب التهرب الضريبي، بزعم منع الازدواج”.
وبعدما احتلت الاستثمارات الإماراتية في مصر المرتبة الثالثة عام 2013، تصدرت العام الماضي الاستثمارات الأجنبية في البلاد. بإجمالي 55.2 مليار درهم (أي 15 مليار دولار).
كيف تستفيد مصر من اتفاق السبع؟
يمثل اتفاق مجموعة السبع القاضي بوضع حد أدنى للضريبة على الشركات العالمية، خاصة الرقمية، خطوة للتخلص من مدن الملاذات. ولكنها في الوقت نفسه، تواجه تحدي إقناع دول بَنَت اقتصاداتها على نسب ضريبية منخفضة على الشركات.
يقول النائب في البرلمان الأوروبي، بيلي كليهر: “علينا أن نكون مدركين تمامًا لحقيقة أنه يوجد دول متقدمة، ودول نامية وأخرى كبيرة أو صغيرة”. مضيفًا: “نحن بحاجة إلى قبول أن ما تقترحه مجموعة الدول الصناعية السبع قد لا يكون بالضرورة مناسبًا لكثير من الدول. ولكنني أرحب بحقيقة أننا نريد التوصل إلى مرحلة يكون لدينا فيها ضرائب دولية لتحقيق التنمية المستدامة”.
ووفق الدكتور مصطفى عبدالقادر، فإن الجهود الدولية بدأت بشكل مكثف في مكافحة التخطيط الضريبي الدولي، بعد الأزمة المالية عام 2008. بعدما تبين أن من أسباب هذه الأزمة ما يعرف بالجنات أو الملاذات الضريبية، علاوة على ضعف الرقابة على المؤسسات المصرفية.
اتفاق السبع والضريبة الموحدة
وحول اتفاق السبع والضريبة الموحدة على الشركات الكبرى، يلفت عبدالقادر النظر إلى أن المنهجية التي يقوم عليها هذا النظام تعتمد في هذه الحالة على مقر إقامة الشركات دولية النشاط. وليست على السلطات الضريبية في الدول المضيفة للاستثمار. والسبب في ذلك أنه يشترط أن تكون الشركات الخاضعة لهذا النظام عالية الرقمنة ولا يقل حجم الأعمال عن المعيار المبدئي هو 750 مليون يورو. وهناك اقتراح بزيادته في البداية لتقليل تكاليف الالتزام والتعرف على الآثار المترتبة على التطبيق.
وبحسب عبدالقادرن يمكن القول إن هذه الاتفاقية تقوم على ما يعرف بالقواعد الجديدة للرابطة وتخصيص الأرباح. والتي تعتمد على أن يكون فرض الضريبة في المكان الذي يتم فيه مزاولة النشاط وخلق القيمة دون الحاجة للوجود المادي. إلى جانب مكافحة تآكل الوعاء العالمي من خلال الحد الأدنى للضريبة الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية، على اعتبار أن معظم الشركات العاملة في مجال الاقتصاد الرقمي مقيمة هناك.
أما نسبة الـ 15%، فهو إذا كان سعر الضريبة في الدولة المضيفة للاستثمار أقل من هذا السعر تعود الضريبة في هذه الحالة إلي دولة الإقامة، وهي في أغلب الأحوال الولايات المتحدة الأمريكية، وفقا لمنهجية جرى تحديدها في التقارير. ويقول عبد القادر: “تمت الموافقة على هذا المقترح لضمان الدعم السياسي من قبل واشنطن”.
يؤكد الدكتور عبد القادر أن الاتفاقية ستحقق الاستفادة لكل الدول التي يتم فيها مزاولة النشاط وخلق القيمة، ومن بينها مصر. خاصة في ظل كبر حجم المستهلكين مما يعطي لها ميزة تنافسية، لاسيما أن تطبيق هذا النظام على دول المصدر يشترط أن تزيد المبيعات فيها عن مستوى معين من رقم الأعمال .
من ناحية أخرى، أشار عبدالقادر إلى أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقوم بتعديل الاتفاقيات الثنائية من خلال معاهدة جديدة متعددة الأطراف؛ حتى تعطي لتلك الدول الحق في فرض الضريبة مع قيام الدول المضيفة بما فيها مصر بتعديل نصوص فرض الضريبة في تشريعاتها الداخلية لتتوافق مع النظام ذاته.