عند القبض علينا نعترف أم ننكر؟ ليس هناك محامٍ فى قضايا الشأن العام لم يُطرح عليه هذا السؤال، والإجابة تحكمها عدة انحيازات فكرية وسياسية، فضلاً عن الفروق الفردية، لذلك فالاختلاف حولها مشروع ومنطقي، ويجب عدم الاستهانة بحالات الضعف الإنساني، أو الشجاعة الاستثنائية التي قد تصيب البعض في هذه اللحظات، فتكون إجاباته عكس توقعاتنا وتصوراتنا عنه في تلك اللحظة.
فنهاك من يعترف بكل فعل قام به، بل يصحح للمحقق الأخطاء في محاضر التحريات والضبط، ويقدم للمحقق أدلة جديدة على قيامه بهذا الفعل، ربما لم تكن مقدمة فى الأوراق ضده، ويتبنى دفاعاً سياسياً وقانونياً عن كل أفكاره وأفعاله، ولماذا انحاز لها، وقام بتنفيذها مهما كانت تتعارض مع القانون أو يمكن اعتبارها جريمة تقربه من السجن أو حبل المشنقة، وعبر التاريخ القضائي المصري هناك الكثير من النماذج التى سلكت هذه الاستراتيجية من كل التيارات السياسية والفكرية والدينية، فعندما سأل المحقق كمال خليل عن نشر أخبار على صفحته الشخصية أجاب: “وبأنشر كمان آراء ومقالات ومواقف على صفحة تانية” الضابط مش عارفها عشان مش عليها اسمي وصورتي”، ومنح المحقق اسم الصفحة ورابطها الإلكتروني، وعندما سُئلت سناء سيف عن سبب رفضها التحقيق في إحدى القضايا كانت إجابتها أنها لا تثق بالقضاء، وهي تعلم أنه سيصدر ضدها حكم بسبب هذه الإجابة.
هناك من يعترف بالفعل والقول الذي قام به، لكنه ينكر التهمة التي وجهتها له النيابة، على سبيل المثال قد تكون التهمة نشر أخبار وإشاعات كاذبة فينكر هذا الاتهام، ويقول نعم أنا كتبت هذا الكلام ونشرته، لكن هذا مجرد رأى وليس خبرا أو إشاعة
وهناك العشرات المتهمين بالانضمام لداعش والقاعدة والجماعات التكفيرية أصروا على تكفير الحاكم والنيابة والمحامين في أقوالهم بالتحقيقات، وفي المحاكمات، وقدموا دفاعاً دينياً عن أقوالهم ومواقفهم.
وهناك من يعترف بالفعل والقول الذي قام به، لكنه ينكر التهمة التي وجهتها له النيابة، على سبيل المثال قد تكون التهمة نشر أخبار وإشاعات كاذبة فينكر هذا الاتهام، ويقول نعم أنا كتبت هذا الكلام ونشرته، لكن هذا مجرد رأى وليس خبرا أو إشاعة، ويفرق مهنياً بين الرأى والخبر والإشاعة، كما كان فعل الدكتور حازم حسني وخالد داوود وزياد العليمي.
وهناك من ينكر كل ما جاء بمحضر التحريات والضبط، حتى لو كان حقيقيًا، فيعتصم بإجابات معرفش، مشفتش، مش فاكر، مش متذكر، مش أنا، محصلش.. الخ حتى لا يضر نفسه أو غيره، بل هناك من يُغالي في اصطناع الجهل أو تقديم إجابات عكس قناعاته، يرى أنها تساعده على الإفلات مما يحاك ضده.
وهناك من يتمسك بالحق فى الصمت، فالدستور والقانون يتيحان للمتهم الحق في الصمت، ويتبنى هذه الاستراتيجية كل من لا يثق في مجريات التحقيق، أو من لا يريد أن يقدم إجابات تضعف موقفه، أو من يتمسك بالصمت؛ تعبيراً عن رفضه واحتجاجه على الإجراءات التي تتخذ ضده.. الخ.
وأتذكر أنه فى إحدى جلسات المحامين اليساريين مع الأستاذ نبيل الهلالي، والذى حضر جلسات تحقيق ومحاكمة مع متهمين من أطياف سياسية وتيارات فكرية متنوعة عندما تطرقنا للحديث عن الاعترافات والإدلاء بالشهادات، قال هناك مناهج متعددة، أبرزها منهجان رئيسيان:
المنهج الأول: يفضل أن يسلكه أحد قيادات التنظيم إن كانت القضية تضم أعدادا كبيرة منهم، وهو أن يقدم دفاعاً فكرياً وسياسياً عن التنظيم وأفكاره، بمعنى أنه يدخل فى مناظرة مع المحقق أو القاضى بشأن هذا التنظيم بغض النظر عن الآثار القانونية التي قد تترتب على هذه الشهادة. مع الحرص على أن يتكلم عن نفسه فقط والأفكار العامة للتنظيم، ولا يتناول فى شهادته ما يضر مواقف أعضاء التنظيم الآخرين، وألا يعترف على أحد زملائه.
وقال أنه شخصياً لو قبض عليه سيتبع هذا المنهج في شهادته وفي الإدلاء بأقواله.
المنهج الثاني: يفضل أن يتبعه أغلب أعضاء التنظيم، متى توافق مع قناعتهم الشخصية، بأن تكون الإجابات مقتضبة غير تفصيلية لا تحمل اعترافاً على نفسك أو غيرك، فأنت غير معني بأن تقدم للمحقق الدليل الذي فشل ضابط الشرطة في تقديمه ضدك أنت وزملائك، فلا تمنح المحقق الحبل الذى يمكنه من لفه حول رقبتك.. الخ
وأتذكر وقتها تدخل الأستاذ سيف قال “القانون منح حلا عبقريا اسمه الحق في الصمت، ممكن أعضاء التنظيم يتمسكوا بالحق دا، لأن فيه ناس ممكن تكون خايفة من المحاكمة وآثارها لكن مش عايزة تهزم نفسها ولا تهزم أفكارها وتضطر تقول فى التحقيقات ما يخالف قناعاتها، فالتمسك بالصمت لا يمكن تفسيره ضد المتهم”، ومنحنا عنوان بحث قانوني عن الحق في الصمت ووقتها لم يكن الدستور نص على الحق في الصمت صراحة، لكنه أحد أهم المحاور التى اهتم بها فقه الإجراءات الجنائية في شأن التحقيقات والمحاكمات، ثم في دستوري 2012- 2014 تم النص صراحة على الحق في الصمت باعتباره حقاً دستورياً
وسط هذا العدد من الإعدامات، والقضايا التي نشهدها، والحبس الاحتياطي طويل المدة، والتدوير، والمحاكمات الاستثنائية في ظل الطوارئ، يجب أن أتوقع أن هناك بعض الأقوال والشهادات تحمل المراوغة، فلا يحكمها إلا الخوف، وهي لا تعبر عن الحقيقة ولا عن القناعة الراسخة لصاحبها، كما أنها لن تحملني إلى إدانته، أو السخرية منه، بل قد تدفعني للشفقة عليه حتى ولو كان أبرز أعداء الحرية والعقل.