“لما قالوا ده ولد اتشد ضهري واتسند ولما قالوا دي بنية مالت الحيطة عليا”.. المثل الشعبي واحد من أمثلة عديدة ترى في البنت كارثة وضياع للأسرة، المجتمع الذي يقوم على المرأة يتربى كون المرأة لا تستحق، وبغض النظر عن هذا الولع الذي ظهر لدى كثيرين من الرجال بإنجاب الفتيات، فإن هذا الولع لم يثمر حراكًا متغيرًا نحو تقدير المرأة بأي شكل.

اقرأ أيضًا.. “مش أم أبوها”

الواقع يذكر أن النساء في مصر غير آمنات في أي وسط أو جماعة، سواء كان ذلك بيئة السكن أو العمل أو حتى الهواية، خلال الأيام الماضية كتبت إحدى الفتيات منشورًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي تتهم فيه أحد المشاركين في جروب للقراءة بالتحرش، ووضعت الفتاة في منشورها رسالة صوتية له أقل ما توصف بأنها مقززة، طارت الرسالة الصوتية في كل صوب، ونظرًا لأن الشخص موضوع الاتهام ذو عداءات كثيرة، فإن كثيرين شاركوا في التنكيل به، نحن نتحدث عن جماعة منتقاة إذ تضم مبدعين وقراء على درجة عالية من الوعي، أثارت هذه الواقعة واقعة أخرى لكاتبة أتهمت شخصًا آخر بالتحرش وذهبت للقضاء، لكن الشخص موضع الاتهام تربطه مودة وصداقة بالعديد من المتنفذين ما جعل الأمر لا يُثار بنفس الشكل.

هنا نجدنا أمام تساؤل هل نتعامل مع المشكلات بمبدأ واحد أم أن ثمة محددات أخرى تحرك الجمهور نحو الإدانة أو الدعم.

الملاحظات تكشف أننا مجتمع يُعمل عاطفته، ويولي المقربين الأهمية والدعم بغض النظر عن حقيقة الواقعة، بمنطق انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. وعبر هذا المعيار يمكن النظر للعديد من القضايا التي تُثار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي ينتهي بعض منها لجهات رسمية.

النساء ليست في جانب آمن لأن القوانين بها عوار، والشهود يتفحصون موقعهم من الجاني أولًا قبل التصريح بالدعم أو الانكار. تنسحب تلك المواقف لتأخذ جانب الغرباء، في وقائع التحرش في الطريق العام، والمتطوعون بتخليص الجاني، وردع الضحية واتهامها.

في فيلم “678” والذي كانت قضيته الرئيسية التحرش، لم يتعاطف الضابط مع الضحايا إلا عندما أنجب فتاة، أما في فيلم “محامي خُلع” فإن بدر المحامي حين كان والده يستشيره بشأن واقعة تحرش مراهق بإحدى النساء، فإن بدر ذكر أنها هي المخطئة لأن ملابسها تحرض الصبي على التحرش.

مشهد من فيلم 678

الأفلام تعكس وجهات النظر المعتمدة في المجتمع، حتى وإن جاءت غير مقصودة من صُناع الفيلم، لكنها كاشفة، فهل كل رجل لديه فتاة (ابنة أو اخت أو زوجة أو أم) يمكنه تقدير ما تعانيه النساء؟

التقدير أمر انتقائي يخضع للتنشئة التي يُصيبها الخلل، بداية من المدارس التي تفصل البنات عن الأولاد، وتجبر الفتيات في بعض المدارس على ارتداء الحجاب، والملابس التي يتم وصفها بالحشمة، أو الفجور، ومن ثم تصنيف من ترتديها ووصمها أخلاقيًا، هذا على الرغم أننا في مجتمع ليس به كود للملبس إلا أن التصنيفات جاهزة.

الفتاة التي لجأت للقضاء في قضيتها شاكية شخصًا بالتحرش، جاء الحكم بتبرئة الشخص، وليست هذه هي المشكلة، لكن المشكلة الحقيقية جاءت في حيثيات الحكم: “إن المحكمة تنوه إلى أن الشاكية تمارس تأليف القصص وكتابة الشعر ومن مهاراتها الفذة معرفة رائحة احتراق الحشيش المخدر، ومن ضمن هواياتها التحدث مع آخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيس بوك متخذة من المقاهي العامة مكانًا لمقابلتهم”.

إن هذا المقتطف من حيثيات الحكم يُعيدنا بقوة لتلك الفترة التي لم يكن يُعتد خلالها بشهادة الممثل، ذلك أنه يستطيع تقديم شخصيات متنوعة، الحكم الذي لم يتحرى الدقة في الشكوى محل النزاع، لكنه ذهب للبراءة لمجرد أن الشاكية كاتبة قادرة على تأليف الحكايات، حكم صادم، وليست الصدمة أساسها صحة أو الواقعة أو كذبها، ولكن لأن الحكم استند في التبرئة على صفات للشاكية المفترض أنها صفات تكسبها مكانة اجتماعية أعلى كواحدة من المبدعات، لكن ما حدث كان عكس ذلك، ومن ثم ستواجه كل امرأة تتعرض لمثل هذه الوقعة بأن تجد دليل إدانة ضدها وفقًا لعملها أو هوايتها، ومجددًا أنا لا أتحدث عن مدى صحة الواقعة من عدمها، ولكن الحكم هو ردة كبيرة، لن يشعر بكارثيتها الجميع الآن، لكن مع تكرار الأحكام والتي تستند إلى أحكام سابقة سندفع جميعًا الثمن.

أما موقف كثير من الجماعة الثقافية تجاهلًا للواقعة او انكارًا لها، فهو يأتي تحت راية المصالح، فالدعم سيتوجه صوب الشخص ذو الحظوة والقوة، وهو ما يبرر حاليًا الحرب الضروس المشتعلة ضد شخص لأنه بلا شلة وله كثير من العداوات.

نحن نبحث في ماضينا ونستخرج أسوأ من فيه ونُعيده للحياة، لا نبحث عن قيم احترام الآخر، ولا عن عدم التدخل في شئون الغير، ولا نرى تجارب النساء في التعليم والتميز والسفر، ولا نرى النساء اللواتي يسكنّ وحيدات دون تدخل من الآخرين، لا نرى أي شيء جميل في الماضي، نستخرج فقط ما يزيد الوضع سوءًا وبشاعة وكأنه لا يكفينا ما تُعانيه المرأة في رحلتها الحياتية من مسئوليات العمل والتربية، وما تواجهه من استغلال جنسي وتحرش وعنف منزلي، لا نحن سنرجع لما هو أسوأ من الآن، سيتم انكار أو ثبوت شكواها وفقًا لعملها، وسيتوقف الدعم بناء على موقع المتهم من الجماعة التي ينتمي إليها، فنلتهمها إذا كان المشكو في حقه ذو حظوة ومكانة، وله رفقة يدافعون عنه، سننكر العلاقات ونرفض النسب، وسيجد المشكو في حقه من يشهد لصالحه، المرأة ليست مهمة هي فقط للاستخدام، ولن تجد دعمًا.

هنيئًا لنا تلك الردة التي تستخرج الرديء والسيء وتُعليه، ولا تدعونا نتحدث عن المدنية والتقدم، بل ندعو الله أن يُنجينا من ازدواجية المعايير، ونسأله سبحانه أن يأتي يومًا تكون قوة القانون هي الفيصل في القضايا.