بينما يحدّق سائق الميكروباص “أحمد” في الطريق ويتجاذب أطراف الحديث مع الراكب بجواره، إذ لفت نظر الأخير كومة جنيهات ورقية بلونها الجملي المعهود ملفوفة على التابلوه، ليسأل: “أنت حاطط الجنيهات فوق بعضها كدة ليه زي ما يكونوا تذكار؟” ليرد السائق: “هاعمل أيه الزبون بيقولك مش شغال”.
صمت سائق الميكروباص برهة، ثم عاد للحديث: “والله الجنيه الورق شغّال بس الناس مش عايزة تاخده”.
عبارة “مش شغال” أصبحت ملازمة للجنيه الورقي في كل مكان. تلك العملة التي بدأت طباعتها قبل قرن ونصف من الزمان. أصبحت سببًا في مشكلات يومية متكررة بين الركاب وبعضهم من ناحية، وبينهم والسائقين من ناحية أخرى. هذا الرفض الشعبي للجنيه الورقي يأتي رغم تأكيدات البنك المركزي المتكررة أن العملة الورقية مازالت سارية. بينما أعلنت الحكومة غرامة على من يرفض التعامل بالجنيه الورقي بواقع 100 جنيه.
مشاحنات بسبب الجنيهات
مازالنا في عالم ميكروباص أحمد، الذي لا يخلو من المشاحنات والاقتباسات التي دفعتنا لكتابة هذه القصة.
تدفع “منال” القاطنة في فيصل بمحافظة الجيزة، الأجرة عبارة عن جنيهات ورقية. وقبل أن تندلع المعركة اليومية تخبر السائق بمعلومة قديمة هو يعرفها جيدًا: “الجنيه لسة شغال”. كذلك قالت: “لما تركب مواصلة كن مستعدًا ومتأهبًا دائمًا للخناقة اليومية بتاعة الجنيه الورق”.
“هدير” إحدى الراكبات تقول: “كل يوم الصبح في المواصلات بفضل مترقبة. ها مين هيطلع الجنيه الورق انهاردة ويبدأ الخناقة”. ويجيبها “مصطفى” متسائلًا: “مين اللي قرر من نفسه أن الجنيه الورق مش شغّال”.
جنيهات الجمل وفاروق وفؤاد
كان أول ظهور للجنيه عندما أصدره البنك الأهلي المصري قبل تأسيس البنك المركزي المصري في عام 1899. إذ ظهر يحمل صورة للجمل لمدة 31 عامًا كاملة. بالإضافة إلى اسم البنك الأهلي المصري كجهة إصدار.
مر الجنيه بعدة مراحل تبدل فيها شكله ولونه. إذ تغير لمرة أخرى في أبريل 1930 بعهد الملك فؤاد الأول. إذ تحول لونه خلال الإصدار الجديد من البرتقالي إلى الأزرق والبني. وحمل صورة لوجه رأس أبي الهول وفي الخلف صورة مسجد باللون الأخضر.
في يوليو 1950 ظهر الإصدار الجديد من الجنيه الورقي. إذ حمل صورة الملك فاروق، وفي الخلفية صورة لمعبد إيزيس في أسوان. لكن سرعان ما تبدل ذلك الشكل بعد عامين، ليظهر إصدارًا جديدًا في مايو 1952 إلى الوجه القديم في عهد الملك فؤاد مع الابقاء على معبد إيزيس في الوجه الآخر للجنيه.
وبعد 11 عامًا في سنة 1963 ظهر بشكل جديد حيث بقي الوجه عليه صورة رأس أبي الهول. لكن جهة الإصدار هذه المرة كانت البنك المركزي المصري. وبدلًا من معبد إيزيس على الوجه الآخر ظهرت زخرفات وكتابة للجنيه المصري بالإنجليزية.
تطور شكل الجنيه في عام 1968، ليحمل أحد وجهيه مسجد السلطان قايتباي، والوجه الآخر معبد أبي سمبل. ثم بعد 11 عامًا جديدة عام 1979 تحول إلى الجنيه الورقي بشكله المعروف اليوم.
دليل توثيق ومنبوذ
حمل الجنيه الورقي جزء كبير من تاريخ مصر. لكن ذلك لم يقدره السائق التي استقلت سيارته “منال”، إذ رفض الأجرة التي دفعتها جنيهات ورقية.
قال مقطبًا جبينه: “مش شغال يا أستاذة.. مش شغال يابيه”. بينما عرض لها ما يملكه من جنيهات لا يستطيع صرفها مرة أخرى أو التخلص منها: “الناس مش بترضى تاخدها”.
كشف استبيان على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” عدم قبول التعامل بالجنيه بين الأفراد. إذ ذكر حوالي 69% من المواطنين أنهم يتعرضون لذلك الرفض لمرة على الأقل يوميًا أو أكثر.
أما بالنسبة لهواة وجامعي العملات، قال أحدهم إن العملة ترتبط باقتصاد الدولة. فحين كان الاقتصاد المصري قوي كان للجنيه أيًا كان ورقي أو معدن قيمة. قائلًا: “حين تنخفض قيمة الاقتصاد تنخفض قيمة العملات”.
“الجنيه زمان كان له قيمة كبيرة جدًا. لدرجة أن القرش كان بيتقسم لـ40 جزء أي ربع عشر القرش وكان يطلق عليه السحتوت. أما الجنيه كان له قيم متضاعفة. إذ كان من الممكن أن يكون دخل أسرة كاملة في الشهر”. يضيف الرجل.
“القيمة الحالية للجنيه تعود إلى قيمة الأرقام الرادارية والتوقيعات عليه. العملات تحتوي على أسرار. الجنيه الذي كان يحمل صورة لجملين قيمته تساوي الآن 100 ألف جنيه. بينما جنيه الفلاح الذي صدر عام 1922 يساوي من 30 ألف إلى 50 ألف جنيه”.
استمرار الطبع
رفض تجار وأصحاب وسائل المواصلات خاصة في المناطق الشعبية، التعامل بالجنيه الورقي، ينفيه البيانات الصادرة عن البنك المركزي. إذ يؤكد أن الجنيه الورقي يتمتع بقوة إبراء كاملة. كذلك يستحق الوفاء بكامل قيمته مقابل السلع والخدمات. كما يحق للمواطنين استخدامه بشكل طبيعي في جميع المعاملات المالية.
ويقول أحد السائقين: “الحكومة بتقدر تتحكم في الجنيه الورق في المترو بس. وسايبة الشعب كله يضرب في بعضه في كل حتة تانية. في التكاتك والميكروباصات وجميع المحلات والمقاهي في المناطق الشعبية”.
التطور طبيعة الأشياء
للاستفادة الكاملة من مزايا النقود البلاستكية، تعتزم الدولة بعد افتتاح المطبعة الجديدة للبنك المركزي المصري بالعاصمة الإدارية. إصدار النقود البلاستيك المصنوعة من مادة البوليمير.
عمرو حسين الألفي، رئيس وحدة الأبحاث بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية مصر، أوضح أن تكلفة العملات النقدية الورقية. أقل من العملات المعدنية. بينما على المدى الطويل ستكون أعلى.
“القيمة التاريخية للعملات متغيرة بطبيعة الحال. لدينا عملات اختفت كالربع جنيه الورقي والمعدن”. مشيرًا إلى أن التطور يدفع إلى استغلال أفضل للموارد. لذلك تتجه الدولة تحويل العملة الورقية إلى البلاستيك لضمان عمر افتراضي أطول. بجانب التحول إلى الاستخدام الإلكتروني في تحويل العملات والتدوال اليومي.