يوافق اليوم ذكرى وفاة المحامي نبيل الهلالي، المعروف بـ”قديس اليسار“. هو ابن الأثرياء الذي اختار الانضمام لصفوف العمال والفلاحين، وكرّس حياته للدفاع عن الجميع، بدون تصنيفات.

في طفولتي رأيت أطفال شوارع يلحسون اللوح الزجاجي لمحل حلويات .  فقفز لذهني سؤال: لماذا يعانون وأسرتي غارقة في النعيم؟ (أحمد نبيل الهلالي)

ولد أحمد نبيل الهلالي بمدينة القاهرة عام 1922، وهو نجل نجيب باشا الهلالي آخر رئيس وزراء مصري في العهد الملكي، الذي أصرَّ على استكمال ابنه التعليم في المدارس الحكومية، حتى انضم لجامعة فؤاد الأول “القاهرة” حالياً. وتعرف لأول مرة على التيارات السياسية، والشيوعية منها.

البداية السياسية

جذبته الأفكار الاشتراكية، فانضم في أول الأمر إلى تنظيم إسكرا أو الشرارة، قبيل الاندماج مع الحركة المصرية للتحرر الوطني، وتأسيس الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني “حدتو”.

وعندما بدأ الانقسام في تنظيم “حدتو” انتمى نبيل إلى المنظمة الشيوعية المصرية كمسئول للجنة الرقابة وكان ذلك عام 1948. ثم انضم أخيرًا لمنظمة الحزب الشيوعي الراية عام 1956.

“الشيوعيون يخطئون ويشيخون ويموتون لكن الماركسية حية متجددة (لا باخت ولا خابت ولا شاخت ولا ماتت)” (أحمد نبيل الهلالي)

اعتقل نبيل الهلالي مرتين خلال عهد الرئيس جمال عبدالناصر، الأولى عام 1959 واستمر سجنه خمس سنوات. ثم اعتقل مرة أخرى عام 1965 لمدة أربع سنوات في معتقل الواحات الشهير. ثم اعتقل في عهد أنور السادات لمدة عام بعد مظاهرات الطلبة عام 1972، وكانت آخر مرة ضمن اعتقالات سبتمبر 1981.

محامي الغلابة

خرج الهلالي من معتقل الواحات عام 1964، حيث عاود العمل بمكتبه الذي كان قد أسسه مع الأستاذين بولس لطف الله المحامي عام 1954. وهو المكتب الذي جمع بين كافة الأطياف السياسية منها، أو حتى الطبقية.

لم يفرِّق الهلالي في ممارسة مهنته بين الجميع، فهو محامي الغلابة، حيث دافع عن الشيوعيين، والإسلاميين على السواء. فحرية الفكر والعقيدة هي الأصل في الأشياء لدى نبيل.

وأسس الهلالي لجنة الدفاع عن الحريات بنقابة المحامين مع ذكي مراد، ومحمد فهيم، التي اعتبرت ضربة البداية. أو جذور نشأة المجتمع المدني في مصر، فمنها نشأت العديد من لجان الدفاع عن الحريات، والتي تحولت بعد ذلك إلى مؤسسات ومراكز لحقوق الإنسان في القاهرة والمحافظات المختلفة.

وهي اللجنة التي أقلقت السادات بسبب دعمها لمظاهرات الطلبة. حيث تشكلت اللجنة العليا للطلاب بعد فض الاعتصام الذي دام 24 ساعة في ميدان التحرير.

نبيل الهلالي
نبيل الهلالي

آنذاك تم القبض على عشرات القيادات العمالية والصحفية والطلابية، وكان الهلالي من بينهم، وأودع كل منهم في زنزانة حبس منفردة. وبدأت القيادات في توعية باقي المحبوسين  بضرورة حضور محامِ معهم، وأن محاميهم هو نبيل الهلالي.

من قبيل العلم العام أنه منذ فترة ليست بالبعيدة اعتمدت دولتنا الرشيدة 40 مليون دولار لتغطية تكاليف إذاعة مباريات كأس العالم. يا ترى الـ40 مليون دولار دول كانوا جابو كام طفاية حريق من أحدث طراز؟ (مرافعة الهلالي خلال قضية حريق قطار الصعيد 2002)

وحين جاء الدور عليه ليعرِّف نفسه، فإذا بالطلاب المحبوسين يجدون محاميهم معهم في ذات السجن. وهتف شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم بقصيدته الشهيرة: (والهلالي لما قام.. قلعوه توب المحامي).

الدفاع عن الإنسان المُجرَّد وليس الإنسان المُصنَّف

طوَّع الهلالي فكره الشيوعي لخدمة قضايا الإنسان، ورفض الجمود الذي يميز بعض المنتمين للتيار، فكتب ذات مرة: “إن البعض يريد بطاقة الأممية مثل الوردة الحمراء التي توضع في عروة السترة، ولكن بغرض الزينة فقط على ألا تلقي عليه أية تبعات أو أعباء”.

نادى الهلالي بأن تكون العلاقة مع الأممية علاقة تفاعل متبادلة، وألا يكن الالتزام بالموافقة الأممية قيدًا على أحد في رؤية واقعه المحلي بشكل مستقل. بل نادى بأن انتقاد المواقف الأممية الخاطئة واجب أممي، حتى يمكن تصويب الأخطاء وتدارك المواقف.

ويعد كتاب “حرية الفكر والعقيدة.. تلك هي القضية” من أهم مؤلفات الهلالى. وهو عبارة عن مرافعة قانونية وسياسية في قضية الحزب الشيوعي المصري عام 1981. إذ إنها المرافعة التى كان هو أحد المتهمين فيها. وقتها خرج من قفص الاتهام ليرتدي روب المحاماة على بذلة السجن، ودافع عن نفسه ورفاقه في قضية فارقة بتاريخ اليسار المصري.

وكان موقفه من الدفاع عن التيارات الإسلامية في أروقة المحاكم مثيرًا للجدل، حتى داخل التيار اليساري نفسه. ولكنه وقبل رحيله بقليل وفي عام 2005، دافع عن موقفه هذا قائلاً: “بعض الزملاء اليساريين ـ سامحهم الله ـ اتهموني بأنني بذلك أقدم الدعم القانوني للإرهاب الديني. والقضية في جوهرها أوضح من الاحتياج لأي توضيح، إلا أنني أسلم بأنها في مظهرها قد تثير الحيرة والالتباس عند بعض الناس.. لذلك فأنا التمس العذر لكل من تعجب وتساءل واستهجن”.

واستطرد: “إن موقفي بداية ينطلق من إيماني العميق الذي لا يتزعزع يومًا ولن يتزعزع دومًا بأنه في مجال حقوق الإنسان لا مكان للانتقائية في المواقف والازدواجية في المكاييل”. وأضاف: “هناك فقط موقف مبدئي واحد وأصيل هو الدفاع عن حقوق كل إنسان.. أيّ إنسان.. أيا كانت عقيدته الدينية أو اعتقاده السياسي أو منطلقه الأيديولوجي.. الدفاع عن الإنسان المجرد، وليس الإنسان المُصنَّف الذي يشاركني الانتماء والتوجهات”.

توفى الهلالي في مثل هذا اليوم عام 2006، بعد أن نجح في تأسيس موقف حقوقي مصري خالص، مرتكزه الأساسي يكمن في حق الدفاع مكفول للإنسان.. أي إنسان.