لم تكن شهادة الشيخ “السلفي” محمد حسين يعقوب في محاكمة “داعش إمبابة” التي حاول فيها التنصل من أفكاره الدينية الساعى لنشرها على مدار 30 عاما، مجرد ذلة للشيخ أمام أتباعه، إنما كانت تجسيدا  لحالة الانهزام والانكماش التي يعاني منها التيار الإسلامي عموما، والسلفي خصوصا.

يعقوب خرج من قاعة المحاكمة التي استدعي للشهادة فيها بسبب أفكاره، خاسرا الكثير من رصيده، بعد أن حاول المراوغة في إجاباته عن الفكر السلفي وفتاويه المتشددة في مناحي الحياة، التي لا زالت توثقها فيديوهات اليوتيوب، وشرائط الكايست القديمة التي اخترق بها الحالة المصرية في تسعينيات القرن الماضي.

ومثلما حمل على عاتقه نشر هذا  الفكر في البيوت المصرية، يتحمل أيضا أوزار تراجع الدعوة واهتزاز خطابها إلى هذه الدرجة، فكيف كانت الرحلة؟

سلفيون

السلفيون وبداية الازدهار

تعود بداية التيار السلفي في مصر إلى جماعة أنصار السنة المحمدية التي أسست على يد الشيخ محمد حامد الفقي، والتي ظهرت في عام 1926 وجاء سبب ظهورها في الأساس لمواجهة البدع ومساعدة الطبقات الدنيا من المجتمع، وبعد عامين تأسست جماعة الاخوان المسلمين في عام 1928، ليمثلا مساري التيار الإسلامي في العصر الحديث.

على الرغم من تمايز التيار السلفي وعدم وجود كتلة واحدة واضحة المعالم والاتجاهات، حيث يوجد داخل التيار ذاته حركات مختلفة ومتعارضة، إلا أنه مع بداية النشأة كانت التيارات السلفية واحدة ومن منبع واحد.

في السبعينيات من القرن الماضي المرحلة الذهبية للنشاط الطلابي في الجامعات، أعاد التيار الإسلامي اكتشاف نفسه في ظل حالة ساداتية تستعين بممثلي الدين في المجتمع لضرب الفكر الشيوعي، وتحديدا ورثة جمال عبدالناصر، ليجدوا في الجامعات سبيلا لبدء تكوين تيار إسلامي قادرعلى التواجد بشكل أكثر حضورا وتوغلا في شرائح المجتمع المصري المختلفة.

الشيخ المحلاوي كان من أبرز الإسلاميين في السبعينيات

تمخض عن الحالة التي عاشها التيار الإسلامي داخل أسوار الجامعة ثلاث توجهات:

الإخوان وزيادة شعبيتها وحضورها وتمكنها

الجماعة الإسلامية والتي بدورها تحولت إلى تنظيم جهادي فيما بعد

المدرسة السلفية التي لاحقا سوف تتحول إلى الدعوة السلفية

كانت تلك مرحلة ظهور التيار السلفي بشكله العام والجامع، عندما قرر طالب الطب محمد إسماعيل المقدم، إنشاء المدرسة السلفية وبدأ في جمع الأصدقاء الذين يوافقونه المفهوم والمضمون دينيا.

بعد فترة وجيزة يتم إلقاء القبض على “المقدم” وتابعيه، ومن ثم يتم الإفراج عنهم ليعيدوا تدشين الدعوة السلفية وتتخذ من المدينة الساحلية – الاسكندرية – معقلا لها.

خلال تلك المرحلة بدأ التيار السلفي ينتج عنه عددا من مدارس مختلفة ما بين السلفية الجامية، نسبة إلى محمد الجامي، والتقليدية والراديكالية وغيرها من المدارس التي بدأت لكن سرعان ما انتهت.

خلال هذه الفترة لمع نجم العائدين من بلاد النفط، بلحاهم البيضاء الكثيفة، وجلبابهم القصيرة، وأفكارهم التي حملوها معهم على متن الطائرات وأسطح السفن. ربما كانت فترة الثمانينيات محجوزة للشيخ عبد الحميد كشك، المعروف بعلاقاته المتوترة مع عبد الناصر والسادات ورجال الأمن والفنانين، لكن التسيعينات هي الميلاد الحقيقي لرموز التيار السلفي مثل يعقوب ومحمد حسنا وأبو إسحاق الحويني.

التوحش ورفع السلاح

تعد مرحلة السادات هي الشاهدة على مدى توحش تلك التنظيمات واتجاه بعضها إلى العنف وحمل السلاح في محاولتها لتغيير الواقع.

في النصف الثاني من السبعينيات وقّع الرئيس محمد أنور السادات اتفاق السلام مع الإسرائيليين. بينما انقسم المجتمع المصري على نفسه ما بين مؤيد ورافض لتلك المعاهدة.

ومن ثم وقعت أحداث 19 يناير عام 1977، ليبدأ السادات معاداة التيار اليساري وإبعاده عن الساحة وإفساح المجال للتيار الإسلامي أكثر فأكثر.

خلال تلك الفترة بدأت مرحلة توحش التيار الإسلامي. إذ ظهر عدد من الكوادر والقيادات الذين يفضلون الدعوة بالسلاح عن الكلمة اللينة.

قضية التكفير والهجرة

ظهرت جماعة التكفير والهجرة على يد شكري مصطفى، وعمدوا إلى قتل الشيخ محمد الذهبي. ووقعت أحداث الفنية العسكرية بقيادة صالح سرية.

أنذاك بدأت الجماعة الإسلامية السلفية الجهادية في التكوين على يد كرم زهدي وناجح إبراهيم، وارتكبتا كثيرًا من الجرائم في مصر، ووصلت في النهاية إلى اغتيال الرئيس السادات.

في ذلك الوقت كانت الدعوة السلفية ومن شابهها من شيوخ مستقلين بعيدين كل البعد عن تلك الأحداث. خاصة أنهم منذ بداية تأسيسهم أعلنوا أن شعارهم في السياسة ممنوع الاقتراب.

مرحلة الكاسيت وذيوع الصيت

خلال التسعينيات وبداية الألفينات كان فترة توهج التيار السلفي بشكله الحديث معتمدًا على أدوات العصر المستحدثة وعلى رأسها “الكاسيت” لتمثل أشرطة كاسيت الشيوخ محمد حسين يعقوب، ومحمد حسان وأبو إسحاق الحويني منافسا قويا في سوق شرائط الكاسيت مقارنة مع المطربين.

بدا دخول المشايخ عالم الكاسيت فرصة كبير لزيادة الانتشار، واعتمدوا خلال تلك الفترة على دعوات الصلاة والبعد عن المحرمات. مبتعدين تمامًا عن الحديث في السياسة مما سهل من انتشارهم.

عرف يعقوب بحديثه عن الصلاة واعتماده على طريقة شعبوية في الدعوة دون الاعتماد بشكل كبير على الأحاديث والآيات القرآنية. بينما اعتمد على مقتطفات من السيرة ليحظى باهتمام العوام، فيما تخصص محمد حسان في الحديث بأسلوب الترهيب، وعرف عنه حديثه عن عذاب القبر والآخرة ليصنف على كونه موجه للملتزمين في المقام الأول.

ساعد النجاح الباهر للشيوخ في عالم الكاسيت، أن يفسح لهم المجال في الفضائيات وتفتح لهم ساعات الهواء ليطلوا على مريديهم بشكل دوري ويلقوا الخطب.

الشيخ محمد حسان

يمكن القول إن التيار السلفي في تلك المرحلة امتلك أدوات عصره بالكامل. فكان حاضرًا على أشرطة الكاسيت، وكذا عبر الفضائيات. كذلك المساجد والزوايا.

وتعد مشاهد الإغلاق لأكبر الميادين في المحافظات المختلفة فقط لحضور أحد كبار المشايخ ليلقي خطبة ليس بالأمر الغريب. فكانت المحافظة تعلن حالة الطوارئ فقط لاستقباله أحد الشيخ.

مبارك للسلفيين: لكم المنابر ولنا السياسة

خلفًا للرئيس السادات، جاء الرئيس مبارك بنظامه القوي والمسيطر على الشارع المصري بكافة تكويناته. الذي تعامل مع التيار الإسلامي بمجموعه على طريقة العصا والجزرة.

نظر النظام المباركي إلى التيار السلفي بعين من الاهتمام كونه أداة لوقف انتشار جماعة الإخوان ومنع توغلهم في المحافظات والقرى والنجوع البعيدة نسبيا عن سيطرة الأمن، لذا تم فتح الباب على مصراعيه أما التيار السلفي المدجن.

“لكم المنابر والزوايا، ولنا الحكم والسياسة”.. هكذا عقدت الصفقة بين السلفيين مستقلين أو جماعات والنظام الحاكم.

تركت الزوايا والمساجد مرتعا وملعبا للتيارات السلفية، وبدأت الدعوة السلفية ومشتقاتها في توسيع أنشطتها والاهتمام بالجانب الاجتماعي على طريق الإخوان، ونجحت بالفعل في تحقيق ذلك وبدأت مرحلة جديدة للتمكين غير المباشر للتيار السلفي.

استمر الوضع مثاليا بين مبارك والسلفيين، حتى غضب النظام على أصحاب اللحى وأغلق قنواتهم في عام 2010، أي قبل اندلاع الثورة بعام واحد. وتجلى التوتر في قضية تعذيب الشاب السلفي سيد بلال الذي اتهمته أجهزة الأمن بتدبير تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة.

ورغم ذلك، لم يدع شيوخ السلفية شبابهم للنزول في الاحتجاجات ضد مبارك، اتساقا مع تحريهم الخروج عن الحاكم وطاعة أولي الأمر.

الثورة وبداية دخول السلفيين للسياسة

في دراسته المعنونة بـ “مصر: السلفيون البراغماتيون”، يوضح الباحث الفرنسي المتخصص في الإسلام السياسي، ستيفان لاكروا، أن حزب “النور” يقدم نموذجًا نادرًا لحزب شديد البراجماتية في مواقفه السياسية. المتشدد للغاية في آرائه الدينية. وظهر التوازن بين هاتين السمتين في خطاب “النور” عبر التغيرات التي طرأت على قيادته.

حيث وجد التيار الإسلامي ضالتهم في ثورة 25 يناير، التي بدا موقفهم الأولي منها الرفض القاطع وعدم معارضة النظام وإشاعة الفوضى في البلاد. إلا أنه مع انتصار الشباب وظهور ملامح الثورة وانهيار النظام انقض التيار الإسلامي عليها لتقسيم المكاسب.

بدأت العديد من الحركات الإسلامية في تدشين أذرع سياسية لها متمثلة في حزب النور. معبرًا عن الدعوة السلفية، وحزب الوسط للقيادي الإخواني السابق أبو العلا ماضي. وحزب البناء والتنمية عن الجماعة الإسلامية، وحزب الحرية والعدالة عن جماعة الإخوان.

السلفيون في ثورة يناير

غزوة الصناديق

بالتزامن مع ظهور الأحزاب ذات الخلفية الدينية، بدأ الشيوخ المستقلون في التواجد بشكل أكبر على الشاشات الفضائية وفتحت لهم أبواب المساجد الكبرى.

لعل الحديث الأكثر حضورًا في أذهان المصريين عندما خرج الداعية الإسلامي محمد حسين يعقوب يوجه رسالة انتقاد للرافضين للمادة الثانية من الدستور. التي تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع. قائلًا: “اللي مش عاجبه إن الشريعة تحكم الدولة يروح يهاجر كندا، إحنا هنطبق شرع الله”.

وفي ذلك الوقت كان الشيخ محمد حسين يعقوب أحد أكثر المشايخ حضورًا. إذ كان متواجدا عبر القنوات الفضائية المخلفة يدعوا من وصفهم بـ”أنصار الدين” بضرورة المشاركة في استفتاء الدستور والموافقة على المادة الثانية، واصفًا ذلك الاستفتاء بـ”غزوة الصناديق”.

لم يكتف الشيوخ بالدعوة ونشر الدين، بل تزايدت رغبتهم في الحكم والسيطرة، فتواجدوا بأكثرية تحت مجلس النواب، وكذلك مجلس الشورى، كما شاركوا بحضور طاغ في صياغة الدستور. وفجأة تحول التيار الإسلامي إلى قوة سياسية لا يستهان بها، قادرة على حشد الملايين في أيام معدودة.

الخلاف مع الإخوان

سعى السلفيون بكل ما أوتي لهم من قوة لمنع وصول الإخوان إلى الحكم، رغبة وصلت إلى دعمهم للقيادي الإخواني السابق عبدالمنعم أبو الفتوح في الانتخابات الرئاسية 2012 في مواجهة مرشح الجماعة محمد مرسي. ولما فشل دعم السلفيين في ترجيح كفة أبو الفتوح، توجهت الدعوة السلفية إلى المرشح أحمد شفيق الذي كان يشار إليه بأنه “مرشح الفلول”.

ولكن فشلت محاولات السلفيين في إزاحة الجماعة عن سدة الحكم. وكان رد الإخوان عليهم في عدم اختيار أي من كوادرهم ضمن التشكيل الوزاري. وزاد الخلاف عندما انضم التيار السلفي ممثلا في حزب النور إلى جبهة الإنقاذ.

بل زاد الطين بلة ظهور جلال المرة، أحد قيادات الدعوة السلفية ونائب رئيس حزب النور في بيان القوى السياسية المختلفة لتنحية محمد مرسي عن الحكم، على أمل أن يكون لهم دور أكثر حضورا ضمن القوى السياسية المختلفة وأن يكونوا ممثلين التيار الإسلامي لدى الدولة واجهزتها.

مرحلة ما بعد الإخوان والعودة للجحور

بدا واضحا أن التيار الإسلامي لم يعد مرغوبًا فيه، خاصة بعد أن أتيحت له فرصة على طبق من ذهب ولكنهم فشلوا في الاختبار.

في أعقاب ثورة 30 يونيو، تم غلق كافة المنافذ على التيار الإسلامي بكافة أطيافه، وسط تضييق أمني وإعلامي كبير. كذلك منع عدد من كبار الشيوخ في الظهور على التلفزيون. ومن ثم منع عدد كبير منهم في اعتلاء المنابر مرة أخرى. كذلك نجحت وزارة الاوقاف في السيطرة على المساجد الكبرى التي تركت لسنوات مرتعا للسلفيين. فضلًا عن إغلاق آلاف الزوايا ليتقلص التواجد السلفي بشكل كبير.

قبل هذه الأزمة كانت الدعوة السلفية تتحكم في أكثر من 300 مسجد وزاوية، معظمها في معاقلها بغرب الدلتا: بالإسكندرية ومطروح والبحيرة، أما الآن فأبزر شيوخها وهو ياسر برهامي لا يملك تصريحا للخطابة، ولم يظهر في مسجد حاتم بسموحة، الذي اعتاد أن يلقي فيه دروسه الدينية، باستثناء مرات قليلة في السنوات الأخيرة.

سياسيا، لم يعد النور هو الحزب الثاني في البرلمان بنسبة وصلت 22% من إجمالي المقاعد، كما هو حاله في 2021، بل تراجعت كتلته البرلمانية في مجلسي 2015 و2020، وبات يمثله الآن 7 نواب فقط.

حالة النفور وفقدان الشارع دفعت بعض الشيوخ إلى مطالبة النور وقيادات الدعوة بحل الحزب والعودة إلى العمل الدعوي فقط، وهو ما رفضه الحزب للحفاظ على الكتلة السلفية المتبقية، أملا في عقد مزيد من الصفقات مع النظام السياسي تسمح بتغيير المعادلة الحالية.

لا تختلف الشهادة المراوغة ليعقوب كثيرا عن الخطاب المراوغ الذي يستخدمه حزب النور منذ 7 سنوات، حتى أن أحد قياداته صنف حزبه بالنوع الثالث الذي لا يعارض ولا يؤيد، وهو فعلا بات كذلك: بلا هوية أو أو رسالة أو مرجعية.