وصلت مباحثات سد النهضة إلى طريق مسدود، وأصبح السد حقيقة واقعة تهدد مصر وجوديا، وهو ما قد يجعل العامل الخارجي على المستويين الإقليم والدولي أكثر تأثيرا ووزنا في الخيارات المصرية المستقبلية على المستويين السياسي والاستراتيجي. ومع هذا المناخ المأزوم علي صعيد دولتي مصب النهر، من الطبيعي أن تثور الأسئلة حول آليات التعامل مع هذا التحدي الوجودي من حيث القرارات والأدوات.

في هذا السياق تم عقد مؤتمر الهيئة القبطية الإنجيلية في منطقة السخنة على مدى ثلاثة أيام تحت عنوان “بناء الوعي على أسس المواطنة”، وكانت أهم قضايا المؤتمر وأكثرها سخونة تلك المتعلقة بسد النهضة وهي القضية التي حازت على نصف نهار كامل، واهتمام كبير من كافة الحضور الذين جاؤوا من عدد كبير من المحافظات المصرية، وكانوا من رموز الكنيسة والأزهر ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات العامة.

وقد تنوعت مساهمات الحضور لتغطي كافة جوانب القضية، حيث يمكن رصد عدد من نقاط الاتفاق في هذا التنوع أولا مستوى القلق المرتفع بين الجميع، خصوصا في ضوء غياب المعلومات المناسبة من الجانب المصري بشأن التفاعلات الخاصة بسد النهضة، خصوصا مع تعدد الزيارات بهذا الشأن للقاهرة على المستوي الأفريقي والدولي.

 

كما برزت اتجاهات بضرورة أن يكون المجتمع المدني المصري حاضرا وفاعلا وشريكا للدولة في مواجهة هذا التحدي الوجودي، خصوصا وأن الخيار العسكري أصبح مطروحا على المستوى الشعبي المصري بدرجة قد تكون ضاغطة على صانع القرار في قمته في وقت تسعي مصر إلى ممارسة كل أنواع الضغط الدبلوماسي، والتدويل للوصول إلى الحفاظ على المصالح المائية المصرية دون صدامات مؤثرة على الاستقرار الإقليمي أو المسار التنموي المصري.

 

في هذا السياق من المهم رصد حالة الجدل الداخلي بشأن سد النهضة أيضا في كل من السودان وإثيوبيا لنكتشف مستويات الاختلاف أو الاتفاق التي يمكن الاستثمار فيها فيما يخص السودان يمكن رصد مستويين من مستويات التعامل مع مسألة سد النهضة الأول المستوي الرسمي وقت البشير  والذي أضعف الموقف المصري، أما المستوي الثاني فهو المستوي الشعبي الراهن الذي يعادي في تياري عريض إثيوبيا وسد النهضة معا، وذلك بعد فترة كان فيها السودان قد تحول السودان إلي نطاق معاد لمصر بسبب تعارض توجهات نظامي الحكم بين ممثل للإخوان المسلمين في السودان ومعاد لهم في مصر، حيث ركز البشير علي تأمين نظام حكمه، ووظف موضوع سد النهضة لابتزاز مصر سياسيا، إلى حد عقد اتفاقية دفاع مشترك مع إثيوبيا ولم يتح للنخبة الفنية فرصة دراسة سد النهضة على المستوي الفني، واستسلم للمقولات الإثيوبية المبشرة له بالحصول علي الطاقة بمقابل زهيد.

البشير وآبي أحمد

ويمكن القول إن الموقف السوداني من سد النهضة لم يتبلور نهائيا إلا في فبراير ٢٠٢٠ بعد انسحاب إثيوبيا من التوقيع علي اتفاق وواشنطن. وبعد أن تجاوز البناء في سد النهضة حاجز ال٦٠٪ وفي تقديرنا أن عدم الإدراك السوداني في التوقيت المناسب لمخاطر سد النهضة علي السودان، ووقوفه موقف الوسيط ثم المعادي إزاء مصر هو مسئول إلى حد بعيد عن تشجيع إثيوبيا على المضي في البناء، وربما هذا ما يفسر نشاط السودانيين حاليا في العمل لتوضيح مخاطر السد على السودان خصوصا على منصات التواصل الاجتماعي وتكوين مجموعات عمل مصرية سودانية مشتركة من الخبراء المستقلين  للتباحث حول كيفية مواجهة هذا التحدي.

أما على المستوي الإثيوبي فإن مشروعا قوميا إثيوبيا كان قد تبلور في منتصف تسعينيات القرن الماضي بقيادة ملس زيناوي وهو مشروع كان ولايزال محملا بالعداء لمصر، لم يتم ملاحظة توجهاته العدائية على المستوي الرسمي، وذلك رغم إعلان توجهات سياساته الخارجية رسميا عام٢٠٠٢، والتي صنف فيها مصر كمنافس إقليمي يرقي لمرتبة العدو، حيث تم الركون في دوائر الإدارة المصرية أن ضعف الدولة الإثيوبية نتيجة انقساماتها العرقية يحول دون قيامها بمشروعات كبري متجاهلين دراسات مصرية بهذا الصدد، ودون تقدير تأثير الإسناد الغربي والإسرائيلي لإسرائيل وتحولها إلي صديق للاستثمارات الخليجية نتيجة أزمة الأمن الغذائي الخليجي.

 

التوتر مستمر مع إثيوبيا على مدار العقود الماضية

ويمكن القول إنه في الوقت الذي راهنت فيه مصر والسودان على تفاهم مع إثيوبيا، واستقرت مصر على بناء منظومة تنموية شاملة تؤسس لعهد جديد للعلاقات المصرية الإفريقية كانت الإرادة السياسية الإِثيوبية قد تبلورت عند ضرورة التحكم في نهر النيل، وربما تسعير مياه طبقا لمفهوم إثيوبي سائد أن بيع المياه وارد طالما أن العرب يبيعون النفط، إجمالا يبدو أنه في حالة عدم النجاح في التوصل إلى إتفاق له مرجعية قانونية شاملة، يرقي إلى مستوي الإتفاقية الشاملة.

وطبقا لهذا المشهد يكون حوض النيل أمام انقلاب استراتيجي يجعل إثيوبيا صاحبة اليد العليا علي دولتي المصب بما يرهن إرادتهما السياسية، ويؤثر على خططهما التنموية ويشكل عاملا ضاغط بالمعني الشامل على مصر والسودان ليس فقط في نطاق حوض النيل، ولكن أيضا في سياقات أخري كأمن البحر الأحمر خصوصا مع الاتجاه الإثيوبي لبناء قوة بحرية رغم أنها دولة حبيسة.

في هذا السياق أصبح المجتمع المدني المصري يشعر أنه أصبح مدعوا لمواجهة هذا التحدي من هنا جاء مؤتمر الهيئة القبطية الإنجليلية التي قال رئيسها القس د. أندريه زكي أن الهيئة سبق وأن فتحت حوارا بشأن سد لنهضة مع أعضاء مؤثرين في الكونجرس الأمريكي. كما توازي مع عقد المؤتمر تكوين الجبهة الشعبية من الأحزاب المصرية لمواجهة تحدي سد النهضة، كما تجيء مجهودات مؤسسة ماعت التي أطلقت وثيقة للتعاون والسلام بين دول حوض النيل من كينيا بالتعاون مع منظمات أفريقية وماتزال تتواصل مجهوداتها.

وربما يكون من المهم إبداء بعض الملاحظات علي المجهود المدني المصري منها :

أولا: ضرورة أن تستقبل الدولة المصرية مبادرات المجتمع المدني المصري في سياق حشد كل عناصر قوتها الشاملة التي يقع فيها المجتمع المدني موقع الشريك لمواجهة هذا التحدي، من هنا يكون من الضروري التنسيق مع منظمات المجتمع المدني ووضع مخططات المواجهة المشتركة .

ثانيا : ضرورة أن تفصح الدولة المصرية عن طبيعة موقفها من التفاعلات الخاصة من سد النهضة، وممارسة قدرا من شفافية في حدود عدم الإضرار بالمصالح، ولعل نشر الملف المصري المرفوع لممجلس الأمن  بشأن سد النهضة يكون وثيقة عمل لمنظمات المجتمع المصري.

ثالثا: ضرورة بلورة إدراك عام لدى منظمات المجتمع المدني والأحزاب المصرية أن تحدي سد النهضة، هو تحدي وطني لابد وأن تختفي فيه مساحات التباين السياسي سواء مع النظام السياسي، أو بين التكوينات المدنية والحزبية، وأن أداء اقتناص الفرص أو اللقطة لابد وأن يختفي من هذا الملف.

رابعا: أن تكون منظمات المجتمع المدني تملك شبكة موحدة تتوافق على مخططات واحدة.

خامسا: إن خطط العمل تتطلب حوارات غير رسمية بين منظمات المجتمع المدني مع شركائها الدوليين، وذلك بتنسيق مسبق مع الدولة، وتكون هذه الحوارات بشأن طبيعة الأضرار البيئية والاقتصادية المرتبطة بالأمن الإنساني وحقوق الإنسان، وربما يتطور هذا الفعل إلى درجة مقاضاة الشركات العاملة في سد النهضة ، وذلك بهدف استراتيجي هو تخفيض ملاءة بحيرة السد والتأكد من مستويات أمانه الهندسي عبر دراسات من مكاتب دولية مخصصة.

سادسا: أن مجمل هذا المجهود يتطلب تمويلا ربما يقع علي عاتق قطاع الأعمال المصري الخاص، وربما يتم التفكير في فتح الباب أمام الاكتتبات والتبرعات الشعبية.