تضع الرأسمالية العالمية خططًا لمواجهة الأزمات الكبرى، ومنذ الأزمة العقارية والكساد العالمي في 2008 بدأت هيئات أركان النظام العالمي، ومنهم مجموعة السبع الصناعية (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، كندا، إيطاليا، واليابان) البحث عن حلول لمواجهة الأزمات وسد الثغرات التي يواجهها النظام العالمي.

ويُعدُّ إصلاح النظام الضريبي أحد المحاور التي تم التعامل معها، ورغم ما روَّجه البعض بأنَّ أسعار الضرائب المرتفعة تحد من الاستثمار إلا أنَّ التجربة أثبتت عكس ذلك، ولكن ظلت الشركات الدولية النشاط تمارس أنشطتها اعتمادًا على تسجيل مراكزها الرئيسية في الملاذات الضريبية وكانت تعتبر نفسها فوق النظام العالمي. لكن اجتماع الدول السبع الكبار في مطلع يونيو أثبت العكس، حيث جرى الاتفاق على ضرورة إصلاح النظام الضريبي العالمي وفرض ضريبة 15% على أرباح الشركات الدولية. وما كان يعتبره البعض مستحيلاً في ظل رئاسة ترامب أصبح واقعًا وحقيقة في ظل التغير في البيت الأبيض وتولي بايدن الرئاسة الأمريكية.

مجموعة السبع تتوصل إلى اتفاق تاريخي بشأن الإصلاح الضريبي العالمي
مجموعة السبع تتوصل إلى اتفاق تاريخي بشأن الإصلاح الضريبي العالمي

وقال وزير الخزانة البريطاني، ريشي سوناك، إن الاتفاقية تهدف إلى خلق فرص متكافئة للشركات العالمية. وقال: “بعد سنوات من المناقشات، توصل وزراء مالية مجموعة السبع إلى اتفاق تاريخي لإصلاح النظام الضريبي العالمي، لجعله ملائمًا للعصر الرقمي العالمي”. وتعد الشركات الدولية مثل أمازون وفيسبوك وجوجول أكثر الشركات التي ستطبق عليها الضريبة الجديدة.

كانت الشركات الدولية تتهرب من الضرائب بإنشاء فروع محلية في البلدان التي لديها معدلات ضرائب منخفضة نسبيًا على الشركات، وإعلان الأرباح هناك

كانت الشركات الدولية تتهرب من الضرائب بإنشاء فروع محلية في البلدان التي لديها معدلات ضرائب منخفضة نسبيًا على الشركات، وإعلان الأرباح هناك. ويعكس ذلك أنهم يدفعون فقط المعدل المحلي للضريبة، حتى لو كانت الأرباح تأتي بشكل أساسي من المبيعات التي تتم في مكان آخر. لذلك يهدف الاتفاق إلى منع حدوث ذلك بطريقتين:

أولاً: تسهدف مجموعة الدول السبع إلى جعل الشركات تدفع المزيد من الضرائب في البلدان التي تبيع فيها منتجاتها أو خدماتها، بدلا من أي مكان ينتهي فيه الأمر بالإعلان عن أرباحها.

ثانيًا: يريدون حدًا أدنى عالميًا لمعدل الضريبة لتجنب “السباق نحو القاع”، حيث يمكن للبلدان أن تنافس بعضها البعض بمعدلات ضريبية منخفضة لجذب الشركات.

كما وصف باولو جينتيلوني، مفوض الاتحاد الأوروبي للاقتصاد، الاتفاق بأنه “خطوة كبيرة نحو اتفاق عالمي غير مسبوق بشأن الإصلاح الضريبي”، ووعد بأن يسهم الاتحاد الأوروبي “بنشاط في تحقيق ذلك” في البندقية. هكذا تحرك العالم من أجل إصلاح النظام الضريبي ومواجهة نفوذ وتهرب الشركات الدولية. فهل تلحق مصر بسفينة الإصلاح الضريبي؟

مصر والعدالة الضريبية الغائبة

كتب الأستاذ مصطفي عبدالقادر رئيس مصلحة الضرائب الأسبق وخبير الضرائب الدولي منذ سنوات: “واهم من يبحث عن العدالة الاجتماعية في مصر بعيدًا عن إصلاح الإدارة الضريبية وإصلاح النظام الضريبي، مع مراعاة أنني أرى أن الأولوية لزيادة الحصيلة الضريبية في المدى القصير تكون من خلال تحسين أو رفع نسبة الالتزام الضريبي الذي لا يتم إلا بإصلاح الإدارة الضريبية أولاً ثم يتم بعد ذلك إصلاح النظام الضريبي مرحليًا على أن يكون البدء بالتعديلات اللازمة لتحسين الالتزام الضريبي”.

اقرأ أيضًا.. كيف يتم استلاب أموال المصريين عبر التجنب الضريبي؟

كما كتب الأستاذ عبدالفتاح الجبالي خبير المالية العامة والضرائب: “ینبغي أن تكون العدالة الضریبیة مضمونًا لمحتوى النظام الضریبي وغایة یتوخاها، ویتعین تبعًا لذلك أن یكون العدل من منظور اجتماعي مهیمنا علیها بمختلف صورها محددًا الشروط الموضوعیة لاقتضائها، كما أشارت وبحق المحكمة الدستوریة في إحدى أحكامها الأخيرة، مشیرة إلى أنها تعد فریضة مالیة تتحصل علیها الدولة جبراً بما لها من ولایة على إقلیمها لتنمیة مواردها”.

رغم اتخاذ بعض الخطوات على طريق الإصلاح الضريبي بعد ثورة 25 يناير التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية كمستهدف رئيسي للتغيير ، إلا أنّ قوى الثورة المضادة سرعان ما انقضوا على هذه المكتسبات واجهزوا عليها ليعود الخلل وغياب العدالة مرة أخرى

ورغم اتخاذ بعض الخطوات على طريق الإصلاح الضريبي بعد ثورة 25 يناير التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية كمستهدف رئيسي للتغيير ، إلا أنّ قوى الثورة المضادة سرعان ما انقضوا على هذه المكتسبات واجهزوا عليها ليعود الخلل وغياب العدالة مرة أخرى ولتستمر معاناة الدولة المصرية من ضعف الإيرادات الضريبية فتلجأ للاقتراض الخارجي والداخلي لتغطية الإنفاق الضروري، والذي تقلص كثيرًا نتيجة ضعف الموارد إضافة إلى الارتفاع المستمر في عجز الموازنة.

الالتحاق بسفينة الإصلاح الضريبي العالمي التي انطلقت بعد اجتماع السبعة الكبار ضرورة ملحة
الالتحاق بسفينة الإصلاح الضريبي العالمي التي انطلقت بعد اجتماع السبعة الكبار ضرورة ملحة

إذا نظرنا لمشروع موازنة 2021/2022 نجد ضرائب الدخل تمثل 37% فقط من الحصيلة الضريبية والضرائب غير المباشرة 50% من الإيرادات الضريبية وهو تحميل الأعباء للفقراء أكثر . وكذلك إذا تفحصنا مكونات ضرائب الدخل سنجد المزيد من الخلل، وإذا قارنا بين المتوقع في الموازنة وما تم تحصيله نجد أن كاسبي الأجور هم الفئة الأكثر التزامًا، والتي يسهل على الجهاز الضريبي تحصيل المتوقع بل وبنسبة أعلى على عكس باقي أنواع ضرائب الدخل الأخرى.

لقد أصدرت الدولة قانون للضرائب العقارية ولكنه لم يبدأ التطبيق حتي الان وهناك ملايين الشقق المغلقة والشقق تحت التشطيب التي لا يسدد عنها اي ضرائب وكذلك الشاليهات التي يصل سعر الواحد منها لملايين الدولارات دون ان يسدد عنها ضرائب عقارية.

تعاني مصر من ارتفاع نسب التهرب والتجنب الضريبي والذي يرجع إلى أسباب عديدة، منها ما يتعلق بالممول وثقافته وأخرى تتعلق بكفاءة الإدارة الضريبية في التعامل مع التهرب أو التجنب الضريبي الدولي بصفة خاصة

تعاني مصر من ارتفاع نسب التهرب والتجنب الضريبي والذي يرجع إلى أسباب عديدة، منها ما يتعلق بالممول وثقافته وأخرى تتعلق بكفاءة الإدارة الضريبية في التعامل مع التهرب أو التجنب الضريبي الدولي بصفة خاصة. يضاف إلى ذلك التأكيد على أن التجنب الضريبي وإن كان لا يعتبر جريمة قانونية إلا أنه يعتبر جريمة أخلاقية ضد المجتمع، إذ أنه على كل ممول أن يدفع نصيبه العادل من الضريبة وذلك يمثل التزاما أخلاقيا، لأن عدم سداد النصيب العادل من الضريبة يؤدي إلى عدم قدرة الدولة على القيام بواجباتها في توفير الخدمات العامة وكذلك المزايا الاجتماعية. عام 2016 أوضح أشرف العربى، رئيس مصلحة الضرائب الأسبق، أن الخزانة العامة المصرية تفقد نحو 250 مليار جنيه من الإيرادات العامة، تمثل حجم التهرب الضريبى سنويا.

الدراسة التي أعدها الأستاذ مصطفى عبدالقادر للمركز المصري للدراسات الاقتصادية جاء فيها: “مما لا شك فيه أن انخفاض نسبة الضرائب المحصلة إلى الناتج القومي الإجمالى والتي بلغت حوالي 13% بما فيها الحصيلة الضريبية على الإيرادات السيادية، و7% بعد استبعاد الضريبة على الإيرادات السيادية في العام المالي 2015/ 2016، يعد مؤشرا قويا على حاجة الإدارة الضريبية إلى الإصلاح بتحسين الالتزام الضريبي. ومن جانبنا، نرى أن الفساد ظاهرة عالمية، أي أن سمات الفساد ومظاهره واحدة في كافة الدول، تتسم بالتشابه إلى حد كبير، وترتبط بشكل كبير بالبيروقراطية الإدارية، ويمكن بيان أهم الأسباب التي تؤدي إلى البيروقراطية والفساد المالي والإداري في الإدارات الضريبية، بصفة عامة، فيما يلي:

  • انخفاض دخول العاملين في الإدارة الضريبية.
  • الحماية السياسية لكبار رجال الأعمال البارزين في الدولة أو ما يعرف باستغلال النفوذ.
  • عدم وجود رقابة فعالة على العاملين في الإدارة الضريبية.
  • ارتفاع سعر الضريبة أو العبء الضريبي على الممولين.
  • السلطة التقديرية الواسعة لمأموري الضرائب.
  • عدم وجود نظام قوي للمعلومات اللازمة للربط الضريبي.
  • عدم التوسع في استخدام خدمات التكنولوجيا التي تؤدى عبر تكنولوجيا المعلومات.

كما أود التأكيد على أن مكافحة الفساد المالي والإداري وإصلاح الإدارة الضريبية هما شيء واحداً. هكذا وصف خبير الضرائب الدولي ورئيس المصلحة السابق كيف نواجه الفساد في الإدارة الضريبية، ولكن كل هذه المقترحات لم تتحول لقوانين وقرارات وتغيرات على أرض الواقع ليستمر تردي التحصيل الضريبي وانتشار الفساد وحرمان الدولة من إيرادات متوقعة تغطي نفاقاتها وتقلل من الاقتراض وعجز الموازنة.

الكبار والملاذات الضريبية

في مايو 2009 ألقى الرئيس أوباما خطابًا مخصصًا للسياسات الضريبية، أعلنتفيه إجراءات جديدة حازمة لمكافحة التهرب الضريبي في الخارج. ضمن خطابه أشار بصراحة لقصة مبنى أوجلاند هاوس، مبنى من 5 أدور في جزر كايمان مسجل فيه 12 ألف شركة! أوباما قال: “هذا إما أكبر مبنى في العالم، وإما أكبر عملية احتيال ضريبية في العالم. الشعب الأمريكي يعرف ما هو عليه، إنه غش ضريبي نحن بحاجة لأن ننهيه ونغلق واحدة من أكبر الثغرات لدينا”. وأخيراً اتفق السبعة الكبار على اخضاع الشركات الكبري لضريبة لا تقل عن 15% وهو قفزة للأمام علي طريق إصلاح النظام الضريبي العالمي.

تلجأ بعض الشركات الكبري المصرية إلى تأسيس الشركات في بلدان الملاذات الضريبية للتهرب من المحاسبة الضريبية في مصر وعلى رأس هذه الشركات أورسكوم للإنشاءات وجهينة وغيرها

تلجأ بعض الشركات الكبري المصرية إلى تأسيس الشركات في بلدان الملاذات الضريبية للتهرب من المحاسبة الضريبية في مصر وعلى رأس هذه الشركات أورسكوم للإنشاءات وجهينة وغيرها. عام 2013 نشر تقرير هيئة الاستثمار عن الدول المستثمرة في مصر ما بين سنة 1970 و2013، حيث أكد وجود 85 شركة مسجلة في جزر كيمان يبلغ رأس مالها أكثر من 5.8 مليار دولار و112 شركة في الجزر العذراء البريطانية برأسمال قدره 2.7 مليار دولار، بإجمالي 479 شركة باستثمارات بلغت 12.2 مليار دولار.

كما نشر التقرير العربي لمناخ الاستثمار في الدول العربية الصادر عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات لعام 2018 أن المستثمر الرئيسي في مصر ما بين 2013 و2017 هي الدول الأوروبية الناشئة وهي تستثمر 30.8 مليار دولار وتمثل 26.7% من الأقاليم المستثمرة في مصر.

إذن هناك مليارات الدولارات المهدرة من خلال الشركات الكبرى المختبئة خلف عباءة الملاذات الضريبية. لذلك نحن بحاجة إلى:

  • زيادة الاعتماد على ضرائب الدخل وتصاعدية الضريبة وتخفيض الاعتماد على الضرائب غير المباشرة.
  • إصلاح الهیكل الحالي لضریبة المرتبات والأجور وحجم الإعفاء للأعباء العائلية في ظل مستويات الأسعار السائدة بعد 2017 ورفع الدعم.
  • النظر بجدیة تامة فى مكافحة التهرب الضریبي من جانب أصحاب المهن غیر التجاریة عن طریق التعاون بین النقابات المهنیة ومصلحة الضرائب.
  • فرض ضريبة عامة على الثروات التي تزيد على 100 مليون جنيه.
  • عمل تطوير لقانون الضرائب العقارية وإخضاع الشقق الخالية والمغلقة للضريبة.
  • إعادة النظر فى قوانين الإعفاءات الضريبية والجمركية.

الالتحاق بسفينة الإصلاح الضريبي العالمي التي انطلقت بعد اجتماع السبعة الكبار ضرورة ملحة. وإجراء تعديلات حقيقية في النظام الضريبي وتطوير ضرائب الدخل والضرائب العقارية وأسعار الضريبة ونظام محاسبة الشركات الصغيرة ودفعها للاندماج في الاقتصاد الرسمي ضرورة. ولكي نقضي على التهرب الضريبي ونستعيد الموارد الضائعة في الملاذات الضريبية بموارد حقيقية.

لقد انطلقت سفينة الإصلاح الضريبي العالمي، وإذا لم نلتحق بها يجب ألا نلوم إلا أنفسنا.