هناك فرضية إجرائية في محاولة فهم الكيفية التي يمكن أن يتعامل بها الفنان مع قانون الرقابة ومنطقه، وهي أن هناك عازف عود متجول اصطدم بواقع أن نص المادة الأولى من قانون رقم 430 لسنة 1955، تضعه في مواجهة مباشرة مع مصالح الدولة العليا؛ فنص المادة هو: “تخضع للرقابة المصنفات السمعية والسمعية البصرية، سواء كان أداؤها مباشراً، أو كانت مثبتة، أو مسجلة على أشرطة، أو أسطوانات، أو أي وسيلة من وسائل التقنية الأخرى، وذلك بقصد حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا”.
فإلى أين يذهب، وممن أو من أي نص، أو نصوص، سيطلب المساعدة؟. وللتذكير، مرة أخرى فالتطرق للمصالح العليا للدولة متعلق، فقط، بالمصنفات الفنية، وبالتحديد القطعي، فإننا لن نقارب تلك المصالح إلا فيما يتعلق بالنصوص الدستورية والقوانين التي تنظم عملية إنتاج وعرض المصنفات السمعية والسمعية البصرية.
مفهوم مصالح الدولة العليا شديد التعقيد، وبه الكثير من وجهات النظر، فقد يعتبر البعض أنه لم يتحقق بالكامل، في الواقع المصري إلا قبل أشهر قليلة من إصدار قانون الرقابة
في الواقع أن مفهوم مصالح الدولة العليا شديد التعقيد، وبه الكثير من وجهات النظر، فقد يعتبر البعض أنه لم يتحقق بالكامل، في الواقع المصري إلا قبل أشهر قليلة من إصدار قانون الرقابة، وذلك بتوقيع اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن مصر في 19 أكتوبر 1954، وربما يرى آخرون أنه لم يتحقق إلا بجلاء آخر فوج من القوات البريطانية عن أرض مصر يوم 13 يونيه 1956، ذلك أن كل النظريات والأطروحات التي تسعى لتحديد ما هي مصالح الدولة العليا، وكيف تتحقق، تؤكد أنها متعلقة أساسًا بالدول ذات السيادة الكاملة. وبذلك يكون التعريف الأبسط لمصالح الدولة العليا هو: الحاجات والرغبات التي تدركها دولة ذات سيادة، وعلاقة ذلك بدول أخرى ذات سيادة تشكل المجال الخارجي لهذه الدولة.
ولمفهوم مصالح الدولة العليا تاريخ طويل، أي أنه- على اختلاف نظرياته- بدأ في التشكل في الواقع والممارسة والفكر عبر فترة زمنية طويلة، وكان مسرحه الرئيس- وربما الوحيد- أوروبا، بداية من حرب الثلاثين عاما (1618 – 1648) وصلح وستفاليا الذي أنهاها، فتلك الحرب وذاك الصلح كانا حدًا فاصلاً فيما يتعلق بالمبررات “المشروعة” لأي حرب، فقبلهما كان المبرر الديني- وأحيانا الأخلاقي، والطموح الشخصي- هو الأساس، وبعدهما أصبح مفهوم السيادة والمصلحة الوطنية هي المعيار الحاكم.
النقطة الرئيسية الهامة هنا أن مصالح الدولة تعلو على الدين، وللتحديد أكثر على دين الحاكم أو الأسرة الحاكمة، وعلاقته بمحيطه المباشر أيًا كانت ديانة شعبها أو حاكمها
وفيما يتعلق بالفكر، فإن نيقولا مكيافيلي (1469- 1527)، الفيلسوف والسياسي إيطالي، الذي يُلقب ﺑ”أبو النظرية السياسية الحديثة”، كان سباقا في صياغة العناصر الرئيسية لمفهوم المصلحة الوطنية. والنقطة الرئيسية الهامة هنا أن مصالح الدولة تعلو على الدين، وللتحديد أكثر على دين الحاكم أو الأسرة الحاكمة، وعلاقته بمحيطه المباشر أيًا كانت ديانة شعبها أو حاكمها.
في ذلك السياق التاريخي، فإن مفهوم مصالح الدولة العليا متعلق إذا بثلاث نواحي: فهناك حد فاصل بين المجال الخارجي والمجال الداخلي للدول، فالحكومة التي تتعامل مع مجالها الداخلي، عادةً ما توصف بأنها تعمل لمصلحة عامة. في الوقت الذي توصف فيه الحكومة، التي تتعامل مع مجالها الخارجي، بأنها تعمل في مجال المصلحة القومية (الوطنية). وهناك أهمية لعنصر الإدراك لحاجات الدولة، وأخيرًا فالتعريف ينطبق، فقط، على الدول ذات السيادة الكاملة.
لكن هناك من يرى أن المصلحة الوطنية هي: الأهداف العامة المستمرة التي تعمل الأمة من أجل تحقيقها. وتبعا لذلك، فهي تتميز بعموميتها واستمراريتها وارتباطها بالعمل السياسي، وبذلك يكون من الممكن الحديث عن مصالح الدولة العليا بالنسبة لمصر في تاريخ أقدم كثيرا على سن القانون، أي منذ تفجرت ثورة 1919 وعبر المصريون عن إرادتهم الجماعية في الاستقلال والجلاء، ما قد نجد تعبيره الأبرز في شعار “الاستقلال التام أو الموت الزؤام”.
وفي الفترة بين الثورتين (1919- 1952) كان هناك شعار آخر هو “لا مفاوضات إلا بعد الجلاء”، وقد اعتبره البعض تعبيرًا عن المصالح العليا للدولة المصرية في مواجهة الآثار المترتبة على تصريح 28 فبراير 1922 الذي أعلنت فيه بريطانيا؛-من جانب واحد- أن مصر دولة مستقلة، فرفض التفاوض إلا بعد جلاء القوات البريطانية جاء من موقف يرى أن الاستقلال منقوص لوجود قوات الاحتلال البريطاني.
قبل الاحتلال البريطاني لمصر (1882) بثلاث سنوات أصدر الخديو محمد توفيق أمره بإنشاء أول نظام للرقابة المسرحية تحت اسم “حفظ التياترات وتشغيلها”، وجعله يتبع قلم المطبوعات، التابع لقلم عموم الإدارة بنظارة الأشغال العمومية. وفي ظل الاحتلال صدر أول قانون للرقابة، وهي “لائحة التياترات”، ونشرتْها جريدة “الوقائع المصرية” في 17/ 7/ 1911.
وتتضمن اللائحة خمسة عشر مادة، تنص أولها على أنه: “لا يجوز فتح تياترو للعموم أو تشغيله قبل الترخيص بذلك مقدمًا من المحافظ أو المدير”، أما المادة العاشرة فتنص على أنه: “ممنوع ما كان من المناظر أو التشخيص أو الاجتماعات مخالفًا للنظام العام والآداب، وللبوليس الحقُّ في منع ما كان من هذا القَبِيل وإقفال التياترو عند الاقتضاء”، في حين تنص المادة الثانية عشر على أنه: “يخصص مكان موافق لضابط البوليس المنوط بالمراقبة وقت التمثيل”.
هذه هي المواد الثلاثة الأهم في اللائحة، المتصلة مباشرة بسياقنا، فالموافقة المسبقة من جهة الإدارة واجبة، والمنع والغلق عقوبة ملزمة، وأخيرًا فوجود الأمن المكلف بالرقابة حتمي. كل هذا من أجل حفظ النظام العام والآداب، الذي بني عليهما قانون “الثورة” الرقابي حضور مصالح الدولة العليا.
هناك ملاحظتان هامتان بخصوص لائحة التياترات: فجانب كبير من مواده متعلق بالسلامة العامة، فالمواد: الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والخامسة عشر تنص على: “ما يجب اتخاذه من التدابير المتعلِّقة بالبناء، وكذلك التنسيقات والإنارة، وعلى الخصوص الاحتياطات اللازمة لمنع الحريق وحصره وتسهيل الخروج للعموم عند حدوثه. وتُدرَج في الرخصة شروط تشغيل المحل والاحتياطات التي يلزم اتخاذها للوقاية من الحريق، خصوصًا فيما يتعلق بالتحقق من صيانة الجرادل والطلمبات والمواسير وأدوات المرسح (كالستائر والحبال والمسالك المؤدِّية إلى المرسح) ومن مساعدة رجال المطافئ والتحقق عمومًا من كفاءة جميع الاحتياطات التي صار تقريرها”. تلك الشروط الموضوعة عام 1911 ستتبين أهميتها القصوى بعد سنوات عديدة في يوم 5 سبتمبر 2005، فيما عُرف إعلاميًا بـ”محرقة بني سويف”، حيث لقى خمسون (50) فنانا حتفهم جراء حريق نشب أثناء عرض مسرحي في قصر ثقافة بني سويف.
الملاحظة الثانية أن هناك قصدًا مباشرًا في اللائحة نحو ضبط سلوك المشاهدين، السيطرة عليهم بالأحرى، فالمادة الثانية عشر تمنع: “المكوث في الممرَّات المخصصة للمرور أو وضْع الكراسي فيها. والتدخين داخل التياترو في غير المحلات المُعدَّة لذلك ما لم تكن هذه التياترات من التياترات المسموح لها صريحًا بتَرْك الحضور يدخنون في محل المشاهدة ذاته. الضوضاء وكل ما مِن شأنه التشويش على التمثيل. وللبوليس في حالة حصول شيء من التشويش طرْدُ المسبِّب له”.
هذه المادة تمثل نقطة تحول بين فنون الفرجة القديمة التي كانت تتضمن مشاركة وتفاعل بين المؤدي والجمهور، مظاهر كانت أصيلة في الفرجة الشعبية المصرية قبل أن تزاحمها تقاليد المسرح “الإفرنجية” وقواعده المنظمة، وهذا التحول يتم بقوة البوليس كي يسود النظام.
واللائحة في مجملها تتضمن الأمن المباشر المتعلق بالسلامة العامة من الحوادث والحرائق، كما تتضمن- وربما بالدرجة الأولى- الضبط والسيطرة والمراقبة والمعاقبة لكل عناصر العمل المسرحي، جميعًا: صاحب رأس المال، المنتج، المؤلف، الفنانين، الجمهور. هذا هو ظاهر العملية، أما في أي اتجاه تتم فلن نتبين حقيقته إلا بمراجعة الأعمال الممنوعة، وهذا حديث قد يأتي وقته. يكفي فقط التذكير بأن الرقابة- كما ذكر الدكتور سيد علي إسماعيل في كتابه “الرقابة والمسرح المرفوض”- منذ عام 1920؛ أي في ذروة الثورة، أصبحتْ إنجليزية وتحت سيطرة الاستعمار بمساعدة رجال الداخلية من المصريين.
فالتراخيص ما بين عامَيْ 1920- 1924 أصبحتْ تُوقَّع من قِبَل مدير الرقابة الإنجليزي، وتُختم بخاتم إنجليزي، وأنه، ومنذ عام 1925 حين أسندت إدارتها مصريين، كانوا يتلقون تعليمات الرقابة من الإنجليز، بل كانوا يوقِّعون على التراخيص باللغة الإنجليزية، وكانت وظيفة الرقيب تقع تحت رئاسة حكمدار العاصمة بوزارة الداخلية “رسل باشا” الذي تولَّى هذا المنصب بين عامَيْ 1919–1946.
من عام 1911 وحتى 1955 كانت الرقابة تستهدف حماية النظام العام والآداب، ثم أضيف لهما مصالح الدولة العليا، التي جري استعرض جانبا من تعقيداتها التاريخية، دون توضيح ماهيتها وما يتصل منها بالمصنفات السمعية والسمعية البصرية، بعد، ويبدو أن حيرة عازف العود المتجول تجاهها تزداد بدورها تعقيدا.
لمطالعة الجزء الأول