في يوم واحد، استقبلت مشرحة مستشفى الأميرى بالإسكندرية ٨ حالات انتحار بحبة الغلة لفتيات وفتيان في عمر المراهقة، قادمين من كفر الدوار وإيتاى البارود والنوبارية، التابعين لمحافظة البحيرة، ما استدعى الحديث عن العنف الأسري في الريف، وغياب الاستراتيجية الوقائية لمواجهة الانتحار.
الثمانية الذين أقدموا على الانتحار هم «أمنية. أ.ش» «١٦ سنة» من حوش عيسى و«شيماء. أ. م» «١٧ سنة» من حوش عيسى و«ليلى. م.أ» «١٨ سنة» من أبو حمص و«وليد. م.م» «١٦ سنة» من كفر الدوار و«فرغلى ع.م» «١٦ سنة» المحمودية و«عبدالسلام. أ.ع» «١٨ سنة» من إيتاى البارود و«على. م.ع» «١٨ سنة» من المحمودية،
وذكر مدير المباحث الجنائية اللواء محمد عبدالوهاب أنهم فظوا أنفاسهم جميعاً بسبب قصص حب ورفض أسرهم إتمام خطبتهم وقيامهم بتناول حبة الغلة القاتلة والتى تؤدى إلى انفجار المعدة وتم تسليم الجثث لذويهم لدفنها.
أصبح خبر انتحار الفتيان والفتيات في عمر المراهقة والشباب خبر معتاد بين حين وآخر، يمر مرور الكرام على الجمهور، ربما لأن الاعتياد على الشئ يفقد الشعور بوجوده، وخلال السنوات الأخيرة أصبح الإقبال على التخلص من الحياة أمرا بالغ الاعتياد.
فى إحصائية أصدرتها منظمة الصحة العالمية عام 2016، تصدرت مصر كل الدول العربية فى معدلات الانتحار بـ 3799 منتحرا، وهي أرقام غير دقيقة حيث لاتوجد جهة رسمية للتوثيق ولكنها فقط الحالات التي تعرضها قنوات إعلامية، فى حين تقول بعض التقارير إن هناك 88 حالة انتحار من بين كل 100 ألف مصرى، ما يعنى أننا نواجه 88 ألف حالة انتحار كل عام.
ولكن من الحقائق الدامغة أن صغر سن المقبلين على الانتحار، خلال السنوات الأخيرة، ترافق مع ارتفاع منحنيات العنف، وارتفاع مستوى الفقر، وانخفاض الدخول، في حين يرى البعض أن الحياة لا تصبح ملكاً مطلقاً للإنسان ما لم يتمكن من التحكم فى مصيرها متى أراد.
أسباب انتحار المراهقين
ببساطة، ليست على قدر الحدث يمكنك تبيان الأمر عبر محرك البحث جوجل، لتتكشف لك المأساة، التي تتحدد ملامحها جغرافيا في قرى ونجوع بعض المحافظات، كما ستتكرر أمامك كلمات مثل حبة الغلة، وفئات عمرية أغلبها لم يغادر مرحلة الطفولة. فما السر؟
منظمة الصحة العالمية أيضا أقرت بأن شخصا واحدا ينتحر كل 40 ثانية، أي أكثر من الذين قتلوا في الحروب وعمليات القتل أو سرطان الثدي، كما لا يزال الانتحار أحد الأسباب الرئيسية للوفاة حول العالم.
يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع إميل دوركايم في كتابه الانتحار “لا يمكن فهم الاجتماعي إلا بما هو اجتماعي”. وتفسر الباحثة ومديرة مبادرة بنت النيل أسماء دعيبس ظاهرة الانتحار في محافظة البحيرة كمثال، أن أغلبها يرجع للعنف، والإجبار.
أما مسألة العنف فتقول عنها أسماء، “تنتشر في المحافظة معدلات مرتفعة من العنف الأسري، والزوجي خصوصا، ولا تحتاج إلى إحصائيات رسمية لإثباتها، وبصفتنا المبادرة الوحيدة التي تعنى بالنساء في المحافظة” مضيفة: “نستقبل حالات غير محدودة من الانتهاكات، والعنف، وفي ظل أدوات وإمكانيات محدودة”.
وفي الإجبار حدث ولاحرج، وفقا لأسماء تجبر الفتاة على الزواج منذ الطفولة، أو الحرمان من التعليم، وغيرها من الاختيارات التعسة، التي لاتقل في قساوتها عن الموت، وربما أكثر، في مواجهة مجتمع قائم على الأعراف، والتقاليد.
الشخصية العصبية سببا أيضا للانتحار
يعتبر أخصائي علم النفس دكتور جمال فرويز أن الانتحار ينتشر بين المراهقين لأكثر من سبب. بينها بعض السمات والتكوينات النفسية، منها الشخصية العصبية، وهي شخصيات تميل إلى عدم القدرة على تحمل القلق والضغوط بطبعها، كما أنها سمات ترجع لصغر السن، وقلة الخبرة، إلى جانب العامل الوراثي أيضا.
وهي شخصيات قلقة بطبعها تحتاج إلى الدعم الدائم، والمساعدة النفسية فورا، ولكن في ظل الانهيار الثقافي الذي نعيشه بحسب الدكتور فرويز، حيث التباعد الأسري أحد سمات المجتمع، إلى جانب ارتفاع وتيرة العنف، يصبح الإقدام على الانتحار احتمال أقرب دائما.
في قرى مثل الدلنجات وايتاي البارود وحوش عيسى، حيث الريف القاسي، لا سبيل للهروب، أو طلب المساعدة، في ظل تخلي الدولة اجتماعيا عن مسؤوليتها تجاه هؤلاء المعنفات، فلا يبقى أمام الفتاة إلا الموت كاختيار أخير.
اقرأ أيضا:
لم يفرق بين الطبيب وسائق التوك توك.. 94 حالة انتحار بمصر في 3 أشهر
“تقرير صادم”.. 203 حالة انتحار و12 محاولة في 6 أشهر
غياب القانون
وعن هذا تؤكد مديرة مبادرة بنت النيل، أن اللجوء إلى ممثلي القانون بأي قرية، غير ذات نفع، إذ إن أغلبهم غير مؤهل للتعامل مع تلك الحالات، فضلا عن وجود صلات قرابة وجيرة فتكون عبارات مثل “عيب تشتكي جوزك أو ابوك” عقبة أمام الحصول على أي مساعدة.
تروي أسماء واقعة تعود إلى العام 2018 حين أقدمت فتاة على الانتحار، بالرغم من حصولها على مجموع 98%، ولكن والدها رفض تحقيق حلمها بالالتحاق بكلية الصيدلة، ورأى أن “آن وقت الزواج”.
وبعد محاولات لإقناعه عبر كبار العائلة الذين انحازوا بطبيعة الحال إلى رأي الأب، أقدمت الفتاة على الانتحار عبر حبوب الغلة، بعد استحالة تحقيق حلمها، وهي لازالت في عمر الـ 17.
لم يكتف الأب بوفاة الابنة، فمنع إقامة الصلاة عليها، باعتبارها ماتت “كافرة” كما يعتقد، كما حرم والدتها من حضور جنازتها، أو حتى وداعها.
حبة الغلة.. الوسيلة الأسهل
تشير أسماء إلى سهولة حصول الأشخاص على حبة الغلة، نظرا لانتشارها في ربوع الريف، وفي المنازل، ومخازن الحبوب، باعتبارها وسيلة لحماية المحصول من التسوس، ما يفسر انتشارها، وسهولة الوصول إليها.
وفي هذا الشأن تشير منظمة الصحة العالمية إلى ان التسمم بمبيدات الآفات يسبب 20% من جميع حالات الانتحار، وتوصي المنظمة بالفاعلية المثبتة من حيث التكلفة لتدابير الحظر الوطنية على المبيدات شديدة السمية والخطورة، وتشمل التدابير الأخرى تقييد الوصول إلى الأسلحة النارية وتصغير حجم علب الأدوية وتركيب حواجز تمنع القفز من الأماكن العالية.
غياب الإمكانيات الصحية والنفسية
من ناحية الإمكانيات والخدمات الصحية، تنبه أسماء إلى أن أقرب مركز للسموم على بعد مسافة كبيرة، من تلك القرى لذا غالبا لا يتم إسعاف تلك الحالات، وتنتهي بالوفاة، كما أن الفريق الطبي نفسه غير مؤهل بدوره للتعامل مع الضحايا، وضربت مثالا على ذلك بالتعسف والمعاملة القاسية من ممرضة تجاه فتاة حاولت الانتحار، واصفة إياها بـ “الكافرة”.
إلى جانب غياب خدمات الدعم النفسي تماما، من خلال الجهات الصحية، أو حتى التعليمية، وكما تعقب أسماء “كما الدولة تخلت عن تلك المناطق ورفعت يدها عنها، لا تمنح المجتمع المدني فرصته في مساعدة هؤلاء، عبر التعاون معها.
حلول مقترحة لتقويض الظاهرة
أما دكتور فرويز فيرى أن رفع مستوى الثقافة، والوعي، هو الحل الوحيد لمكافحة ظاهرة الانتحار، عبر التنسيق بين مختلف مؤسسات الاعلام، والتعليم، والدين، والمنصات الثقافية، والحد من جرعات العنف التي يصدرها المحتوى الدرامي على سبيل المثال.
بينما أكدت الباحثة أسماء أن الحل يكمن في منظومة قانونية رادعة للعنف، والانتهاك، تؤسس بدورها لمستوى وعي أعلى، عبر التعامل مع الجرائم الجنسية كجرائم نفس، لا جرائم اخلاقية، كما هو الحال مع جرائم الشرف ومثيلاتها.
وبهذا الخصوص تنصح منظمة الصحة العالمية بتطبيق إجراءات التعرّف المبكر والتقييم والتدبير العلاجي والمتابعة على الأشخاص الذين حاولوا الانتحار أو يُرى أنهم معرضون لخطره، حيث تعدّ محاولة الانتحار السابقة من أهم عوامل خطر الانتحار في المستقبل.
كما ينبغي تدريب عاملي الرعاية الصحية على التعرّف المبكر على هذه الحالات وتقييمها وتدبيرها علاجياً ومتابعتها، كما يمكن لمجموعات الناجين الذين فقدوا أشخاصاً مقربين بسبب الانتحار أن تكمل جهود الدعم التي تقدمها الخدمات الصحية، بحسب المنظمة.
ووفقا لأطلس الصحة النفسية الصادر عام 2017 عن منظمة الصحة العالمية: “ليس لدى مصر استراتيجية وقائية على المستوى الحكومي لمواجهة الانتحار”.