ليس سهلًا أن تقرأ كلامًا أو تسمع كلامًا تعرف منه أنك المقصود، قليلون من يتمكنون من ضبط غضبهم، فالكلام غير المباشر في العادة هو كلام سلبي، ولا يُقصد به المديح، وفي ثقافتنا الشعبية هذه النوعية من الكلام يُطلق عليه “تلقيح كلام” هذا النوع من الكلام الذي يعكس ضعف وربما غيرة وحقد القائل، ضعف لأن محتوى الكلام يميل إلى الذم وذكر العيوب، أو توجيه السباب والشتائم، أو المعايرة، ولأن القائل لا يمتلك من القوة والحجة أن يُصارح الآخر بهذا الكلام فإنه يلجأ لتجهيل صاحب الوصف.

يشغلني جدًا موضوع “تلقيح الكلام” خاصة أن مواقع التواصل الاجتماعي أظهرته بقوة، وزادت من انتشاره، حيث نجد شخصًا (رجل أو امرأة) يُلقي بكلام وغالبية من يقرأ الكلام يكونون على علم بمن يتم وصفه في المنشور، وتدور حلقة أخرى من الهمز واللمز حول ما قيل ومن قيل في حقه.

في كل يوم تتراجع القيم والأخلاق بشكل واضح، وتتحول السلوكيات لما هو سلبي، ثم تظهر التساؤلات لماذا لم يعد هناك أخلاق؟

إن حركة السيارة على المنحدرات الهابطة لا تحتاج إلى جهد، أو تحت ضغط بنزين، إنها تهبط بسلاسة، وهكذا نحن نهبط بسلاسة وفجاجة أيضًا.

في محاولة علمية للبحث عن أصول ظاهرة تلقيح الكلام، كانت كلمة تلقيح تظهر بمفهومها الطبي عن اللقاح الذي يرتجي حماية الإنسان من فيروس أو وباء، كما يحدث الآن من تلقيح الملايين اتقاءً لفيروس كوفيد 19، وكان المعني الآخر هو الجنسي بكل أشكاله، ويؤدي إلى الإثمار سواء نبات أو زهور أو حيوان أو إنسان، أي أن اللغة عرفت التلقيح بصورة إيجابية للغاية فهو حماية وإثمار، لكن كيف تحول لفظ تلقيح إلى أمر بالغ السوء.

ينتهج من يمارس هذا السلوك المراوغة، يتحرك بين الغموض، والإشارة كما أنه غير الضعف يمتاز أيضًا بالجُبن، فإن تحدث إليه الشخص المقصود به الكلام يسأله بشكل واضح عن مقصده فإنه يُنكر تمام الإنكار، ويدعي عمومية الأمر، أو أنها خبرة سابقة، أو ما إلى ذلك، لكنه لا يستطيع المواجهة.

اقرأ أيضا:

هل اختفت الرجولة؟

السقوط السعيد

قديمًا كنا نتجمل بكل ما هو جميل، نُحسن اختيار ملابسنا، نختار كلماتنا، تأمل التحيات بين الناس (أسعد الله صباحكم/ صباح الخير/ العواف (من العافية)/ سعيدة… وغيرها، وفى محاولات إذابة الطبقات والفوارق سعى الأقل لفرض طقوسه وسلوكياته مهما كسرت المعتاد، وظهرت الألفاظ السوقية لتتسيد، وتُصبح هي الأروش، وتعني ان الشخص واعي وفاهم وذو تجربة، في كل يوم نسقط بهدوء، نُشبه تجربة القفز بالمظلات، نترك أنفسنا للريح تُحركنا وعلينا أن نستمر كذلك لفترة.

كانت فكرة تلقيح الكلام سلوك يحدث في المناطق الشعبية، نوعًا من كيد النساء، نقل الأخبار وانتقاد الأخريات دون كسر الروابط الاجتماعية، نرى جملات زايد في فيلم “هذا هو الحب” حين كانت تتحدث عن الجارة التي تم طلاقها قبل مرور شهر من الزواج، هنا كان تلقيح الكلام شكلا مراوغًا للنميمة، حيث ترغب النساء في شغل أوقاتهن بتداول اخبار الآخرين وانتقادهم دون ذكر الأسماء كنوع من الحفاظ على العلاقات الاجتماعية، لكن الأمر خرج عن النميمة ليُصبح شكلًا من الكيد، ولعلنا متابعين لحالات الكيد والتلقيح الدائرة بين فنانتين ومذيعة، تفشت ظاهرة التلقيح صعودًا وهبوطًا، لم تقف عند طبقة اجتماعية، جميعًا نتهاوى، لم تعد ذكر أسماء الأطراف المسكوت عنها حفظًا للعلاقات لكنه بات خوفًا وأحيانًا حسدًا وربما حقدًا.

اقرأ أيضا:

بيبان النقص

 

تنامى تلقيح الكلام ليشمل كل الفئات العمرية، هناك رجال يفعلون ذلك بنفس مهارة النساء، وهناك عشرات ومئات المنشورات على مواقع التواصل التي تسعى للنيل من الآخر، وذكر عيوبه وسبه إن لزم الأمر.

وإن كنا نتحدث عن ثقافة شعبية وسلوك منتشر فهل نذكر المثل القائل “اللي ما تحتاجش وشه النهاردة بكرة تحتاج قفاه” هذا المثل كاشف عن علاقات المصالح المتغيرة والتي تجمع حتى الأعداء، وإن كنا لا ننسى السيئة فكيف سنتعامل مع شخص ونحن نعرف أنه تعرض لسيرتنا الشخصية أو المهنية بالسوء؟

ربما سيتعاملون لكن ضغينة وكراهية مخفية، إعلاء لراية المصالح، لنتحول إلى برجماتيين، نسقط من مظلة الأخلاق والسلوكيات الإيجابية، نتحرك في بحر من القبح، وكلما انتشرت عادة سيئة جلبت بعدها ما هو أسوأ.

التجاهل لتلقيح الكلام هو السلوك الأنسب، لأن المواجهة ربما قادت لعراك حقيقي إذا تمتع صاحب(ة) التلقيح ببجاحة كصفة إضافية، لكننا حتى مع التجاهل لن ننسى ما قيل في حقنا، وحين تحوى القلوب الكراهية، نسقط أكثر.

البعض يتساءل أين ذهبت أخلاق المصريين؟ نعم نحن نتغير إلى الأسوأ كل يوم، الخوف والحقد والحسد، الرغبة في نزع الخير عن الآخرين، لمجرد أن أحدهم لم ينله خيرًا، إن عدم مقاومة ذلك يقودنا لما هو أسوأ، لقبح يُعمي، ونار دخانها يكتم النفس، ويعمي العين، سنعيش كأموات، زومبي نتحرك لنعمل ونأكل وننام، ونستمر في أكل لحوم بعضنا بعض، ونحن نلوك سيرهم، ونتحدث عن عيوب نحن نراها وربما ليست عيوب عند آخرين، فهل جرب أحدهم أن يقول ما يريد لصاحب الشأن؟