يحاصر المواطن المصري صباح مساء بإعلانات في كل القنوات التلفزيونية التي تديرها الأجهزة الأمنية عن “الجمهورية الجديدة” والمنجزات التي تحققت وغيرت حياة المصريين. ومن بين هذه المنجزات أرقام مطلقة تظهر على الشاشة ببرامج ومشروعات لتخفيف حدة الفقر منها برنامجي تكافل وكرامة وبرنامج حياة كريمة. إضافة إلى برنامج الضمان الاجتماعي المتوراث عبر عقود. ولكن الأرقام والإحصاءات والبيانات الرسمية يمكن أن تقدم صورة مختلفة. ولن نستخدم أي دراسات لباحثين مجتهدين ولا حتى رسائل علمية محكمة أو دراسات اقتصادية علمية محكمة ولكن نعتمد على الأرقام المعلنة من الجهات الحكومية سواء الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أو وزارة التضامن أو معهد التخطيط القومي التابع لوزارة التخطيط.
حجم الفقر في مصر
لن نستخدم بيانات البنك الدولي لتحديد معدلات الفقر والذي يضع كل فرد يقل دخله اليومي عن 3.2 دولار في اليوم (51.2 جنيه في اليوم) كفقير. بينما من يقل دخله 1.9 دولار/يوم (30.4 جنيه/يوم) يكون فقيرًا فقر مدقع 912 جنيهًا/شهر. لكن سنعتمد على بيانات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك الذي ينفذه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء كل سنتين. إذ حدد البحث خط الفقر المدقع للفرد شهريًا بمبلغ 491 جنيهًا وخط الفقر العادي بنحو 736 جنيهًا شهريًا. بينما ارتفعت قيمة خط الفقر في 2019/2020 لتصبح 857 جنيهًا للفرد شهريًا.
نشرت جريدة البورصة في 6/5/2019 خبر يقول: “إعادة النظر في نتائج بحوث الإنفاق والدخل بعد اعتراض جهات حكومية“، لارتفاع معدل الفقر. (تم حجب موقع البورصة منذ أسابيع).
تقارير الجهاز المعلنة أوضحت أن معدل الفقر المدقع ارتفع من 2.9% عام 1999/2000 إلى 4.8% في 2010/2011. وبلغ 6.2% في عام 2017/2018. ثم أعلن الجهاز انخفاضه إلى 4.5% في 2019/2020. كما ارتفع معدل الفقر المادي من 16.7% إلى 25.2% ثم انخفض إلى 29.7% بعد أن كان 32.5% في عام 2017/2018. وخرج الإعلام الحكومي يهلل ويكبر لانخفاض معدلات الفقر والفقر المدقع لأول مرة منذ عام 1999/2000. لكن هل يعقل أن معدل الفقر انخفض في سنة الكورونا وتوقف الأعمال؟!
لماذا يناقض الجهاز المركزي نفسه؟!
أعد الجهاز دراسة بعنوان “أثر فيروس كورونا على الأسر المصرية حتى مايو 2020- والمنشور في يونيو 2020. وجاء في التقرير:
62% تغيرت حالتهم العملية بسبب ظهور فيروس كورونا في الحضر بنسبة 63.5%. وفي الريف بنسبة 60.7%. بما يعكس اتساع مساحة التأثير على الحالة العملية، و73.5% من المشتغلين المصريين انخفضت دخولهم بسبب الجائحة. (هذه نتائج دراسة الجهاز عن تأثير كورونا).
أكثر من نصف الأفراد المشتغلين (55.7%) أصبحوا يعملون أيام عمل أقل أو ساعات عمل أقل من المعتاد. و(26.2%) فقدوا وظائفهم وتعطلوا عن العمل مع ارتفاع نسبة المتعطلين بين الإناث.
بسؤال العينة عن أسباب انخفاض الدخل أوضح 60.3% أنه بسبب الإجراءات الاحترازية و35.5% بسبب التعطل و31.5% بسبب انخفاض الطلب على النشاط. بينما كان 14.5% بسبب خفض الأجر من قبل صاحب العمل و12.9% بسبب توقف المشروع مؤقتًا. كذلك 2.2% بسبب إغلاق النشاط نهائيًا و0.4% بسبب توقف مساعدات الجمعيات الأهلية. ورغم ذلك يعود الجهاز ليناقض نتائج دراساته عن تأثيرات كورونا ليعلن انخفاض معدلات الفقر!!
نتائج بحث القوى العاملة
في دراسة أخرى أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يوم 17/8/2020 نتائج بحث القوى العاملة للربع الثاني (أبريل – يونيو) لعام 2020. حيث بلغ معدل البطالة 9.6% من إجمالي قوة العمل مقابل 7.7% في الربع الأول من عام 2020. بارتفاع قدره 1.9% وبارتفاع قدره 2.1% عن الربع المماثل من العام السابق. ويرجع هذا الارتفاع لتداعيات جائحة كورونا واتخاذ الحكومة الإجراءات الاحترازية من تعليق المدارس والطيران وإغلاق المحلات جزئيًا وحظر المواصلات.
وبلغ عدد المتعطلين 2.5 مليون وبنسبة 8.2% بين الذكور و16% بين الإناث. كما ارتفعت معدلات البطالة في الحضر بنسبة 12.5% مقابل 7.4% في الريف. وأوضحت دراسة التعبئة والإحصاء أن 2.3 مليون عامل فقدوا وظائفهم بسبب الجائحة. وأن أهم الأنشطة الاقتصادية التي فقد المشتغلين بها وظائفهم بسبب الجائحة خلال الربع الثاني من عام 2020 كانت:
1. نشاط تجارة الجملة والتجزئة فقد (624) ألف مشتغل.
2. نشاط الصناعات التحويلية فقد (569) ألف مشتغل.
3. نشاط خدمات الغذاء والإقامة فقد (469) ألف مشتغل.
4. نشاط النقل والتخزين فقد (309) آلاف مشتغل.
5. نشاط التشييد والبناء فقد (288) ألف وظيفة.
إذا حسبنا 2.5 مليون متعطل و2.3 مليون فقدو وظائفهم ومصادر دخل أسرهم بسبب كورونا. فإن ذلك يعني أن 4.8 مليون تأثرو بالوباء خلال 3 أشهر (أبريل – يونيو) وبالتالي ينعكس ذلك على معدلات الفقر والفقر المدقع فيما بعد الوباء. ذلك وفقًا لأرقام الجهاز.
ولكن عاد الجهاز ليعلن في 2020 أن معدل الفقر والفقر المدقع انخفض وسبحان الواحد القهار قادر على كل شيئ!! أو كما قال حسن البارودي شيخ المنافقين في فيلم الزوجة الثانية: “الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا”.
دراسة معهد التخطيط القومي
معهد التخطيط هيئة علمية تابعة لوزارة التخطيط وتقدم دراساتها للوزارة وللحكومة عن مختلف جوانب الاقتصاد المصري. المعهد أعد دراسة بعنوان “التداعيات المحتملة لأزمة كورونا على الفقر في مصر”. أعدها الدكتور أحمد سليمان محمد من أهم نتائجها:
– ذكر التقرير في صفحته الأولى: “استندت الورقة في قياس أثر أزمة جائحة كورونا على الفقر في مصر إلى 3 عوامل رئيسية. وهي ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مستوى الدخل، وارتفاع مستوى التضخم. كما أظهرت النتائج أن انخفاض نمو نصیب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنحو نقطة مئوية واحدة یؤدي إلى زيادة نسبة الفقر في مصر بنحو 0.7 نقطة مئوية. كذلك فإن زيادة معدل البطالة بنحو نقطة مئوية واحدة يؤدي لزيادة نسبة الفقر بنحو 1.5 نقطة مئوية. بينما زيادة معدل التضخم بنحو نقطة واحدة مئوية، يؤدي لزيادة نسبة الفقر بنحو 0.4 نقطة مئوية. (هذه حسابات علمية صادرة عن جهة بحثية حكومية).
وفي ضوء هذه النتائج، من المتوقع أن تتسبب أزمة جائحة كورونا في ارتفاع معدل الفقر في مصر بما یتراوح بین 5.5 نقطة مئوية أو مايعادل زيادة الفقراء بنحو 5.6 ملیون فرد. ونحو 12.2 نقطة مئوية أو ما يعادل زيادة عدد الفقراء بنحو 12.5 ملیون فرد في عام 2020 /2021 وفقًا لسیناريوهات مختلفة. كما قدمت الورقة عددًا من التدخلات للتخفیف من حدة الأزمة على أوضاع الفقراء والحد من تضخم مشكلة الفقر في مصر.
كل ما سبق نتائج دراسة أعدها المعهد التابع لوزارة التخطيط ورغم ذلك يخرج علينا جهاز التعبئة والإحصاء في نتائج بحثه الأخير ليؤكد انخفاض معدلات الفقر في ظل الوباء!!
سياسات الحماية الاجتماعية ومكافحة الفقر
تستخدم الدولة عدة برامج للحماية الاجتماعية وتخفيض حدة الفقر منها:
1- معاش الضمان الاجتماعي
تطورت قيمة معاش الضمان الاجتماعي حتى وصلت إلى 420 جنيهًا للأسرة المكوّنة من 4 أفراد. ورغم ضعف وضآلة قيمة معاش الضمان الاجتماعي حيث إنه لا يصل حتى لحد الفقر المدقع للفرد الواحد الذي حدده الجهاز المركزي في مسح عام 2017/2018 والذي نشرت نتائجه عام 2019 بمبلغ 491 جنيهًا للفرد. لذلك فإن أي معاش يمنح للفقراء يقل عن هذا المبلغ مضروب في عدد أفراد الأسرة يمثل دعمًا شكليًا غير حقيقي. كما أنه يدعم استمرار وتعميق الفقر لدى الفقراء. وإذا كانت أسرة من 4 أفراد فإن قيمة المعاش يجب آلا تقل عن 1946 جنيهًا شهريًا وفقًا لخط الفقر المدقع الذي حدده الجهاز. أو 736 جنيهًا لخط الفقر المادي أي ما يعادل 2944 جنيهًا شهريًا. ورغم ضآلة قيمة معاش الضمان الحالي فإن وزارة التضامن تؤكد وجود 388.6 ألف مستفيد في 15 يونيو 2021.
2- معاش تكافل
هو أحد أنظمة الحماية الاجتماعية التي ظهرت بعد تنفيذ توصيات الصندوق وانفجار التضخم وغلاء الاسعار وعجز بعض الأسر عن تدبير إحتياجاتها الأساسية وهو ما يرفع من نسب التسرب من التعليم .لذلك فإن البرنامج يستهدف دعم الأسر الفقيرة وتوفير دخل يدعم استمرار أطفال الأسر الفقيرة في التعليم حيث اشترط البرنامج لاستمرار الدعم اثبات حضور الأطفال 80% من أيام العام الدراسي.
ووفق ما أظهرته نتائج تعداد مصر 2017، بلغت نسبة المتسربين من التعليم 7.3% من إجمالي عدد سكان مصر بدء من عمر 4 سنوات فأكثر. وكان الفقر والظروف المادية حرمت 17.8% من غير الملتحقين بالتعليم من سكان مصر. كما أنه بعد 97 سنة من دستور 1923 الذي جعل التعليم الابتدائي إلزامي لم يتمكن 18% من الالتحاق به بسبب الفقر. إضافة إلى نسبة 5.2% لم يلتحقوا بالتعليم الابتدائي بسبب صعوبة الوصول للمدرسة. تبلغ قيمة معاش تكافل الأساسي 320 جنيهًا يضاف إليه 60 جنيهًا عن كل طفل قبل السن المدرسي. و80 جنيهًا للابتدائي و100 جنيه للإعدادي و140 جنيهًا للثانوي. وهناك توجه إلى قصر الدعم على طفلين فقط. بلغ عدد المستفيدين من معاش تكافل 2.1 مليون مستفيد في 15 يونيو 2021.
هل يكفي هذا المبلغ في بلد يحتاج فيه الفقير فقر مدقع إلى 491 جنيهًا شهريًا للفرد الواحد. هذا البرنامج هو أحد برامج الحماية الاجتماعية الذي بدأ في 2017 بعد اتفاق صندوق النقد لتخفيف حدة الفقر. فهل يكفي معاش تكافل للتخفيف من حدة الفقر المدقع للأسرة؟!. هل يساعدها على الخروج من دائرة الفقر أم يساهم في إعادة إنتاج الفقر؟!. هل يساهم في وقف التسرب من التعليم والاستمرار في تفريخ الفقراء وتأبيد الفقر حيث لا يحصل أبناء الفقراء على المستوى التعليمي المناسب. ومن ثم لا يحصلون على العمل المناسب ليستمر الأبناء يدورون في دائرة الفقر الجهنمية.
التسرب من التعليم والقضاء على الفقر
إن قضية التسرب من التعليم وعمالة الأطفال ترتبط بالقضاء على الفقر وإيجاد مصدر دخل حقيقي لرب/ربة الأسرة إضافة إلى إتاحة التمويل اللازم للتعليم وإتاحة المدارس في المحافظات الأكثر فقرًا. إضافة إلى توفير التغذية المدرسية التي أثبتت الدراسات أهميتها في تخفيف حدة الفقر وتحفيز الأطفال على الحضور والتحصيل الدراسي.
نشرت جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 يونيو 2021 قرار وزير التعليم بتحديد الرسوم الدراسية لمختلف المراحل التعليمية في العام الدراسي الجديد 2021/2022 وهي:
– الطلاب من رياض الأطفال حتى الصف الثالث الابتدائي: 300 جنيه.
– من الصف الرابع الابتدائي إلى الثالث الإعدادي: 200 جنيه.
– من الصف الأول الثانوي وحتى الثالث الثانوي: 500 جنيه.
– صفوف التعلمي الثانوي الفني بكافة أنواعه وأنظمته (3 و5 سنوات): 200 جنيه.
ذلك بخلاف رسوم لدخول الامتحانات وهي بدعة جديدة تتراوح ما بين 150 جنيهًا و215 جنيهًا. ولا نعرف كيف يسدد أصحاب معاش تكافل المخصص لمنع التسرب من التعليم إذا كان يتقاضى 60 جنيهًا عن الطفل قبل الابتدائي و80 جنيهًا للابتدائي. بينما الرسوم المقررة 300 جنيه في رياض الاطفال والابتدائي. ويحصل على 100 جنيه في الإعدادي. بينما يسدد 200 جنيه رسوم وفي الثانوي يحصل على 140 جنيهًا والرسوم 500 جنيه. كل ذلك بخلاف رسوم الامتحانات. وبخلاف تكلفة الملابس والشنط المدرسية والكتب المدرسية والأدوات الكتابية، ومصاريف الانتقالات والوجبات المدرسية. وبفرض أنهم لن يلتحقوا بمجموعات مدرسية أو دروس خصوصية. فهل يتصور شخص عاقل أن معاش كرامة الذي يتحفونا صباح مساء بعدد المتمتعين به، يمكن أن يمنع تسرب الفقراء من التعليم في ظل رسوم التعليم الحكومي المجاني التي أعلنتها الوزارة ؟!
3- معاش كرامة:
هو برنامج آخر استحدث بعد الاتفاق مع صندوق النقد ويمنح معاشًا لكل من بلغ سن 65 سنة ولم يكن خاضعًا لأي أنظمة تأمينية. وبالتالي هو تطوير لما عرف بمعاش السادات ومعاش مبارك في فترات سابقة مع فرق الغلاء ومستويات المعيشة. إضافة إلى منحه للأشخاص ذوي الإعاقة.
بلغ عدد المستفيدين من معاش كرامة 1,2 مليون مستفيد حتى 15 يونيو 2021. إذ تراوحت قيمة المعاش المنصرف ما بين 350 جنيهًا شهريًا للفرد الواحد و700 جنيه شهريًا لفردين و1050 لثلاثة أفراد. وهو ما يقل عن حد الفقر الوطني المدقع الذي حدده الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2017/2018 بـ491 جنيهًا للفرد شهريًا. أي أن معاش كهل يعول شخصين لا يجب أن يقل عن 1,473 بأسعار 2018.
ونتمنى أن نجد دراسة علمية محايدة لتقييم معاشي تكافل وكرامة وهل أخرجوا المنتفعين أو ساعدوهم على الخروج من دائرة الفقر.
مؤكد أن بعض غير المستحقين نجحوا في الحصول على المعاش نتيجة منظومة الفساد. لكن وزارة التضامن أسست قاعدة بيانات بالتعاون مع التعبئة والإحصاء ووزارة التموين لضمان وصول سياسات الحماية الاجتماعية إلى مستحقيها. وإن كانت آثارها لم تظهر على الأرض حتى الآن.
ولكن العرض السابق يكشف بعض جوانب القصور في سياسات الحماية الاجتماعية وأنه وسط ضجيج الإعلانات عن منجزات الجمهورية الجديدة. كذلك نحتاج لمقارنة قيمة المعاش المصروف للفقراء وقيمة خط الفقر المدقع الذي حددته الدولة وجهازها الإحصائي وتكلفة تعليم طفل/ة في التعليم الابتدائي الحكومي المجاني.