منذ أن ارتضى العرب، بمبدأ التفاوض مع العدو الإسرائيلي على حقوقهم، عسى أن يحرزوا على مائدة المفاوضات ما لم يدركوه في ساحات الحرب، ودولة الاحتلال تراوغ وتتلاعب وتجرنا إلى متاهة لا آخر لها، تقنعنا بتقديم تضحيات من منطق أن “السلام يتطلب تنازلات واتخاذ إجراءات متبادلة لبناء الثقة بين الطرفين”، وتتشبث هي بما تعتبره حقوقًا ومكتسبات لا يمكن التفريط فيها.
تدعونا إسرائيل إلى التفاوض وهي واقفة على أرض ثابتة، ومدججة بالسلاح والتأييد الدولي، والعرب يجلسون إليها وهم منكسرون متشرذمون لا يملكون سوى تسول الحقوق، حتى وصلنا مع الوقت إلى التخلي عن مبدأ “الأرض مقابل السلام” واستبدلناه بـ”السلام مقابل السلام”، وقبل بعضنا في نهاية المطاف بـ”سلام القوة” الذي تحدث عنه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال السابق عندما أوقع مع شريكه الأمريكي دونالد ترامب بعض العواصم العربية في فخ اتفاق إبراهام.
الإستراتيجية الإسرائيلية في التفاوض مع العرب هدفت إلى إطالة أمد المفاوضات مع استمرار الاحتلال في فرض وقائع وحقائق جديدة على الأرض، وبالتوزاي تمكنت تل أبيب من نزع أوراق الضغط العربية، بحيث لا يجد الفلسطينيون في النهاية ما يتفاوضون عليه، ولا يكون أمامهم إلا القبول بالسقف التي حددته إسرائيل سلفًا.
راهن العرب مبكرًا على الولايات المتحدة في إنهاء النزاع مع إسرائيل لأنها “تملك 99% من أوراق اللعبة” على ما أعلن الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي فتح باب التنازل وقبل بالتوقيع على اتفاق سلام منفرد مع العدو الإسرائيلي، وبعد سنوات قليلة مضى الفلسطينيون في طريق التفاوض مع إسرائيل برعاية أمريكية، فخذل الأمريكان العرب وأقنعوهم بأن لا سبيل أمامهم إلا التفاوض ثم التفاوض من أجل الوصول إلى تفاوض، وحذروهم من أن استخدام السلاح لاسترداد حقوقهم وأرضهم سيضعهم في خانة واحدة مع “الإرهابيين”.
قطار المفاوضات (الفلسطينية/ الإسرائيلية) تنقل من مدريد إلى أوسلو، ومن طابا إلى شرم الشيخ، ومنها إلى واي ريفر ثم كامب ديفيد الثانية. لم تحرز السلطة الفلسطينية خلال تلك الرحلة الطويلة سوى الحسرة والخيبة، فلا أرض ولا دولة ولا عودة، سمحوا لهم بإعلان سلطة لا تتسلط إلا على مواطنيها، أما إسرائيل فقد تمكنت من فرض سياستها الاستيطانية وأعملت آلة القتل في المدن الفلسطينية، وأخرجت معظم دول المحيط العربي من المعركة، وأقنعت دول العالم بالقبول بمنطقها وسياستها، حتى صار مبلغ أمانينا وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة أو فك الحصار عن أهلنا في غزة والضفة.
شيء من هذا يحدث في معركة مصر الوجودية مع إثيوبيا التي تتبنى الاستراتيجية الإسرائيلية في التفاوض معنًا على حقوقنا المائية، ففي الوقت الذي تتمسك فيه القاهرة بالتفاوض والحلول السلمية، تخلق أديس أبابا أمرًا واقعًا لا يمكن للمفاوضات أن تزحزحه لاحقًا. تكمل بناء سد النهضة وتنفذ المرحلة الأولى من الملء وتشرع في تنفيذ المرحلة الثانية بعد أيام، حينها لن يكون أمامنا إلا القبول بالسقف الذي يحدده الأحباش لنا مع حلفائهم من أصحاب المصالح.
الرهان المصري على التدخل الدولي وعلى الوسيط الأمريكي تحديدًا، أشبه بما ذهب إليه العرب قبل عقود عندما تخيلنا أن الأمريكان سيضغطون على حليفهم الإسرائيلي ليعيد الحقوق إلى أهلها
الرهان المصري على التدخل الدولي وعلى الوسيط الأمريكي تحديدًا، أشبه بما ذهب إليه العرب قبل عقود عندما تخيلنا أن الأمريكان سيضغطون على حليفهم الإسرائيلي ليعيد الحقوق إلى أهلها، أسقطنا من قواميسنا الحكمة العربية التي قالت إن “من استرعى الذئب فقد ظلم”.
خلال عقد من المفاوضات العبثية مع إثيوبيا، لم يكن الوسيط الأمريكي بعيدًا عن الصورة، وخلال العام الماضي بدا أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والذي اعتبرته القاهرة حليفا متفهما لخطورة “السد الضخم على مصر التي لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة”، لكنه لم يتمكن من الضغط على حكومة أديس أبابا للتوقيع على اتفاق وقعت عليه القاهرة والخرطوم بالأحرف الأولى وكان من شأنه حل 90% من المشاكل العالقة.
لإدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن الجديدة العديد من التحفظات على السلطة المصرية في ملفات حقوق الإنسان والحريات العامة، لذا فالعلاقات ظلت باردة بين القاهرة وواشنطن حتى أذابت الحرب الأخيرة في فلسطين بعض الجليد بعد أن أثبتت مصر أنها المفتاح الأهم لأزمة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، مع ذلك لا يمكن الرهان على إدارة بايدن في حل أزمة فشلت إدارة ترامب في تفكيكها قبل شهور.
قبل أكتوبر 1973، تشكلت في مصر إرادة شعبية تطالب بخوض حرب تحرير لاستعادة الأراضي التي احتلها الصهاينة، وإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، بعد أن يأس المصريون من حديث السادات عن عام الحسم الذي أعقبه عام الضباب، منذ ذلك الوقت لم يتشكل في مصر رأي عام ضاغط يطالب باستخدام القوة العسكرية سوى في الأسابيع الأخيرة بعد أن شعر المصريون أنهم مهددون بالعطش وأن أراضيهم معرضة للبوار في حال أصرت إثيوبيا على استكمال بناء سد النهضة بشكل منفرد، ضاربة عرض الحائط بالدعوات المصرية السودانية التي تطالب بضرورة التوقيع على اتفاقات قانونية ملزمة بشأن قواعد ملء وتشغيل السد.
وفي محاولة لتفريغ تلك الحالة من الضغط الشعبي المطالبة باستخدام القوة مع الإثيوبيين خرج وزير الخارجية المصري كعادته ليعلن أن “إثيوبيا من الناحية العملية لم تتمكن من التوصل للأعمال الإنشائية التي تؤهلها لتنفيذ الملء الثاني لسد النهضة كاملًا لأسباب فنية”.
وفي الوقت الذي يؤكد فيه الجانب الإثيوبي جاهزيته لأي مواجهة عسكرية، يصر شكري على تبريد القضية ويشير في تصريحاته إلى أن مصر تسعى إلى الحفاظ على حقوقها المائية بالطرق السلمية، “هذا نهج عرفناه على مدى سنوات وهو اللجوء إلى التصريحات الاستفزازية التي لا تؤدي لتحقيق الوئام.. مصر على علم بالحقوق المائية لها ولشعبها وتسعى بالطرق السلمية للحفاظ عليها” يقول شكري، مردفًا: “لكن هذا لا ينفي أن لدينا قدرة وإصرار بعدم الإضرار بمصلحة الشعب.. وفي حالة وقوعه لن نتهاون في الحفاظ على مصالح شعبنا”.
لا أعرف كيف جرؤ شكري على التهوين من تصريحات مدير إدارة الهندسة في وزارة الدفاع الإثيوبية، الجنرال بوتا باتشاتا ديبيلي، الذي قلل فيها من قدرة مصر على التعامل عسكريًا مع أزمة السد، وحملنا فيها مسئولية عدم الوصول إلى حل “الجانب المصري لا يريد حل المشكلة من خلال المفاوضات، يأتون للنقاش ويرفضون جميع المقترحات.. من وجهة نظري خير حل هو المفاوضات، ولن يستطيعوا حل المشكلة عسكريا، لن يحاولوا مهاجمة السد، ولكن حتى لو هاجموه فلن يستطيعوا حل المشكلة أو تدمير السد، لأنه لا يمكن تدميره بقنابل الطائرات المقاتلة، وهم يعرفون أن السد متين”، قال ديبيلي في مقابلة مع شبكة “R T” الروسية قبل أيام.
كان أولى بوزير خارجيتنا أن يرد على تلك التصريحات بشكل يوحي على الأقل أن لجوئنا إلى خيار القوة لن يكون مستبعدا إذا استمرت إثيوبيا على نهجها في التفاوض من أجل التفاوض
كان أولى بوزير خارجيتنا أن يرد على تلك التصريحات بشكل يوحي على الأقل أن لجوئنا إلى خيار القوة لن يكون مستبعدا إذا استمرت إثيوبيا على نهجها في التفاوض من أجل التفاوض وأصرت على اتخاذ قرارت منفردة بشأن الملء والتشغيل، لكنه كالعادة آثر السلامة.
لم تكن تصريحات شكري التي نزلت بردا وسلاما على الجانب الإثيوبي، وأصابت المصريين بالأحباط هي الأولى من نوعها فقبل أسابيع رفع أسد الخارجية “الراية البيضاء” وقال في لقاء تلفزيوني: “لدينا رصيد من الأمان متوفر بخزان السد العالى، ونثق فى أن الملء الثانى لسد النهضة لن يؤثر على المصالح المائية المصرية ونستطيع أن نتعامل معه من خلال الإجراءات المحكمة فى إدارة مواردنا المائية”.
رسالة شكري تم تدويرها في منصات الإعلام المصرية، التي اتفقت على أن الملء الثاني لسد النهضة لن يسبب الضرر لمصر، “الملء الثاني لن يحدث بالشكل المخطط له مسبقا، وإثيوبيا لن تملأ سوى 4 مليارات متر مكعب فقط من المياه، بدلا من 13.5 مليار لأسباب فنية”.
حديث شكري المتراجع يشي بأن مصر في طريقها للقبول بالاتفاق المرحلي التي أعلنت السودان عن قبوله بشروط لم توافق إثيوبيا إلا على واحد منها. وتدوير عدم قدرة أديس أبابا على تنفيذ مخططها الكامل للملء الثاني يأتي في إطار تهيئة الرأي العام القلق بقبول أي طرح فليس في الإمكان أفضل مما كان.
مشروع الاتفاق المرحلي الذي كشفت عنه السودان قبل أيام، تمت مناقشته خلال المفاوضات التي عقدت بين الدول الثلاث (مصر، والسودان، وإثيوبيا) مطلع أبريل الماضي في اجتماعات العاصمة الكونغولية كينشاسا، وهو قريب من الصيغة الأمريكية الملتوية التي أعلنها روبرت جوديك مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية قبل أسابيع على أطراف الأزمة.
جوديك أشار في مايو الماضي إلى أن بلاده تبحث حل الأزمة عبر مرحلتين، الأولى يتم التوصل فيها إلى اتفاق بشأن المخاوف الفورية لمصر والسودان حول الملء الثاني للسد، والمرحلة الثانية هي حل على المدى الطويل لمسألة المياه، وحذر حينها من أن “أي عملية عسكرية ستكون كارثية”.
الخرطوم بحسب ما أعلنت مصادر حكومية خلال اليومين الماضيين، اشترطت لقبول هذا الطرح أن تتجدد المفاوضات مع أديس أبابا من حيث انتهت في اجتماعات واشنطن التي عقدت العام الماضي، وطالبت بوجود ضمانات بمشاركة دولية والاتحاد الإفريقي، وتحديد سقف زمني مدته 6 أشهر فقط للتوقيع على اتفاق شامل عقب الملء الثاني، فضلا عن عدم إدخال مسألة تقاسم المياه في الاتفاق.
أديس أبابا لم توافق سوى على شرط واحد وهو “استئناف التفاوض بعد الملء الثاني”، وهو ما يعني أنها ماضية في مخططها لخلق أمر واقع تفرضه على المصريين والسودانيين
أديس أبابا لم توافق سوى على شرط واحد وهو “استئناف التفاوض بعد الملء الثاني”، وهو ما يعني أنها ماضية في مخططها لخلق أمر واقع تفرضه على المصريين والسودانيين، وعلى المتضرر اللجوء إلى المجتمع الدولي ومنظماته التي لا تعترف إلا بمنطق القوة ولا تنحاز إلا لحساب من يملك النفوذ والتأثير على مصالح الكبار.
لو أقرت مصر بالطرح الأمريكي وقبلت بتنفيذ إثيوبيا للمرحلة الثانية من ملء سد النهضة دون أن يتحرك لنا ساكن، لن نتمكن بعد ذلك من إلزامها بأي اتفاقات تتعلق بقواعد الملء والتشغيل، وسيصبح القرار المصري مرهون بإرادة الأحباش الذين وعوا الدرس “الفلسطيني الإسرائيلي” جيدا، حينها سيكون التفاوض على أسعار حصتنا في مياه النيل وعلى قبولنا بفكرة تمريرها عبر أراضينا إلى دول أخرى.
التنازل عن حق يفتح باب التخلي عن حقوق أخرى، والقبول بالحلول الوسط في المعارك الوجودية، يعني أنك تضع رأسك تحت سيف خصمك.