قصاصات ورقية. رفيعة. لا تزيد عن عشر سنتيمترات.

ترفرف.

مع الهواء.

على جدران الكنيسة.

تحيط بها. سوار من قصاصات.

كأنها تحتضنها.

تحكي كل منها قصة.

قصة إنسان.

سطرين لا أكثر.

اسمه، عمره، وكيف مات!

اسمها، عمرها، وكيف ماتت!

رضيع. طفلة. شاب. شابة. امرأة. رجل. والأعمار تتفاوت.

“عُثر عليه ميتًا على متن قارب جنوب مالطا”.

“اختنقت حتى الموت في شاحنة مبردة قرب زوارة بليبيا”.

“مات غريقًا. وعثر عليه الصيادون في شبكة صيدهم بالقرب من السيرخال، إسبانيا”.

“اصطدمت بسيارة وقتلت أثناء محاولتها عبور الطريق السريع بالقرب من مانيكيسفير، بلجيكا، في اتجاه فرنسا”.

إنسان.

يبحث عن مخرج. يبحث عن خلاص. من جحيم. حرب. قمع. جفاف. فقر. حياة بلا أمل.

فتبتلعه الأمواج وهو يهرب.

رأيت القصاصات على جدران الكنيسة، من جديد.

كتبت عددًا من هذه القصاصات مع غيري في 2019.

في حملة، للكنائس المفتوحة البروتستانتية في بيرن وزيورخ.

بعنوان “سموها باسمها”، أو، “نادوه باسمه”.

انتبهت لها صدفة. وشاركت فيها عمدًا. وأحنيت رأسي احترامًا لمنظميها.

اقرأ أيضًا.. ماكرون والإسلام السياسي: لا تلعنوا حامل الرسالة!

*****

عادة ما أخرج مع زوجي كل يوم سبت لشراء احتياجات المنزل للأسبوع المقبل. نأخذ معنا عربة التسوق المتحركة، ونمشي إلى السوبرماركت.

نشتري المقتضيات، وبعدها اتركه مع العربة، وأذهب إلى مقهى أشرب فيه قهوتي وأقرأ معها جريدتي.

تغيرت بالطبع الكثير من عاداتنا مع كورونا، ومعها هذه العادة، لكن الجائحة لم تكن قد شرفتنا بزيارتها حينها.

يوم السبت يوم عطلة.

أحبه، لأنه اليوم الذي أمشي فيه كثيرًا في أزقة المدينة القديمة لبيرن. الأحد يوم يسكن فيه الكثيرون إلى بيوتهن. فكل المحال التجارية مقفلة ما عدا تلك في المحطة الرئيسية للقطارات. السبت غير. تضج المدينة بالحياة. وسوق السبت يمتد في العديد من ساحاتها.

ولأني أعيش فيها منذ نحو 26 عامًا، أصبحت أعرف الأزقة ومعها الوجوه.

نسلم على بعضنا. نهز رؤوسنا. وأحيانًا نقف في وسط الشارع نتحدث. ندردش. كلام عام عادة. لكنه يكفي. حميمية عن بعد.

تُشعرك بالانتماء قدرًا.

تركته إذن ولسبب ما، لا أذكره، مشيت في اتجاه المحطة الرئيسية. بجانبها الكنيسة المفتوحة. جميلة ولها مهابة.

أعرف قسيسها منذ سنوات. دعاني مرة إلى حوار في أمسية ثقافية.

انتبهت إلى عدد من الناس يدخلون ويخرجن من الكنيسة ولوحات عديدة تدعونا للمشاركة في الحملة.

“سموها باسمها”، أو “نادوه باسمه”.

غلبني الفضول، ودخلت. وجدت جارة لي. في الثمانينيات من عمرها. تهز رأسها لي هي الأخرى. وهي تمتم بكلمات.

دلتني على معلومات الحملة.

كل مشارك ومشاركة يحصلان على قائمة طويلة بأسماء.

أسماء من مات وهو يحاول القدوم إلى أوروبا.

“منذ عام 1993، مات أكثر من 44000 شخص أثناء محاولتهم/ن الفرار إلى أوروبا. غرق معظمهم في البحر الأبيض المتوسط. ومات غيرهن في الطريق. الرجال والنساء، مراهقون، مراهقات، أطفال ورضع.”

ومع قائمة الأسماء، قصاصات بعدد الأسماء في القائمة.

كان علينا أن نكتب كل اسم على قصاصة.

اسم الشخص. عمره. بلده. كيف مات.

حتى تكتمل القائمة. ثم نعلق القصاصات على حبل، ثم على مشبك.

اختارت الكنيسة في حملتها يومي 14 و15 من يونيو لقراءة أسماء كل من مات لاجئًا، وهو يحاول أو تحاول الوصول إلى أوروبا. ثم أعادت الحملة هذا العام أيضًا.
“بمناسبة اليوم العالمي للاجئين، الموافق 20 يونيو، تدعو الكنائس المفتوحة في بيرن وزيوريخ إلى وقفة احتجاجية، على مدى 24 ساعة، لإحياء ذكرى من مات محاولًا الوصول إلى أوروبا، لقراءة أسماء المتوفين والظروف المحيطة بوفاتهن”.

سموهم بأسمائهم. سموهن بأسمائهن.

كل منهم. كل منهن. له ولها اسم.

فنادوهن بأسمائهم.

أخذت القلم.

أكره الكتابة بالقلم.

اعتدت الكتابة بالكمبيوتر. وخطي رديء أصلًا. يشبه “نكش الفراخ”. هكذا كان أبي يمازحني وهو يقرأ خطي.

لكن الخط السيء يلاحق صاحبه كلعنة، لا تتغير.

لكني أمسكت بالقلم هذه المرة، وحاولت جاهدة هنا أن أكتب ببطء، بتمعن، وبتركيز، كي تخرج السطور مقروءة وجميلة. احترامًا للاسم الذي اكتبه. اسم الشخص الذي مات.

هناك لحظات تمر على الإنسان. كالوشم على حنايا الروح. لا تُنسى.

هذه منها.

تلك الفترة التي قضيتها مع كل من حولي من الغرباء في وسط الكنيسة. كل منا يمسك بقلم. القائمة أمامنا. وظهورنا محنية، نكتب على القصاصة. اسم وقصة.

طفلة ماتت غرقًا.

شاب مات على قارب.

امرأة ماتت بردًا.

وبين الحياة والموت قصة. حكاية. إنسان.

طريق اللجوء والهجرة وعر.

وجدت نفسي أتذكر حكايات اللاجئين واللاجئات من الصومال في اليمن، تلك التي تعرفت عليها خلال رحلة عمل ميدانية في عام 2009.

هربن إلى اليمن على امل الوصول إلى الخليج أو أوروبا، ليعلقن في اليمن.

تجار البشر لا يرحمون. لو زادت الحمولة، يرمون بشراً، “وزن زائد”، من على القارب. والويل لمن تسول له نفسه أن ينبس بكلمة.

وصراخ نساء يتم جرهن من شعورهن إلى جانب، يُغتصبن. والويل لمن تفتح فمها. البحر سيبتلعها. وغيرهن أصبحن ضحايًا للعمل القسري والاستعباد الجنسي.

طريق الهجرة وعر.

جوع، عطش، وبرد. وإنسان لا يرحم.

والكثير يدفع تحويشة العمر كي يخرج فقط. يخرج من اليأس إلى أمل. فيدفع ثمن الطريق. ليدفع الثمن من عمره.

وجدتني أغص. ريقي يتجمد. تكويره وقف في حلقي.

وجدتني أتساءل، ماذا لو كنت منهم؟ ماذا لو كنت منهن؟

وجدتني اكتب الاسم وأرى الوجه أمامي.

وجه إنسان. أراد أن يحلم فغص بالحلم.

أكملت القائمة. علقت القصاصات على حبل. كل قصاصة باسم.

وخرجت من الكنيسة. أشعر بالاختناق.

أبحث عن الهواء.

ولا أجده.

“يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق”. تقول لنا المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948.

لكن هذه المادة لم تتحول إلى واقع في الكثير من بقاع المعمورة. العوز أو الجحيم يدفع بهن دفعًا إلى الخروج من أوطانهم.

وطرق الهروب ليست آمنة.

فيعلق بعضهم في الطريق، أو يبتلعه البحر.

ولذا كان لزامًا أن نسميهم بأسمائهن. أن نسميهن بأسمائهم.

على قصاصات ورقية.

ترفرف وهي تحيط بجدران الكنيسة، تحتضنها كسوار.

كل قصاصة عليها أسم، وعمر، وطريقة موت.

وجه إنسان في قصاصة.