كنا نسير معًا في أحد الشوارع التي أحبها، حين قلت لها إنني أحب “التمشية” كثيرًا في هذا الشارع الهادئ، لكنها أجابتني بأنها على العكس، لا تحب هذا الشارع، فكلما مشيت فيه وحدها تعرضت للكثير من المضايقات والتلميحات اللفظية الفجة.

كانت تلك واحدة من المرات التي لفتت انتباهي إلى حجم الاختلاف بين تجربة كل من الذكر والأنثى في الشارع المصري. لقد قيل وكُتب الكثير عن ذلك، ومع ذلك تبقى التجربة الشعورية بشكل عام، أمرًا غير قابل إلا لوصف تقريبي، فـ”لا يعرف الشوق إلا من يكابده”، وقبل أن تصبح جريمة التحرش – أخيرًا – محط الضوء الإعلامي والملاحقات القانونية والتشريعية، كان هناك الكثير من الرجال المحترمون الذين لا يصدقون أصلاً بوجود التحرش؛ لأن تجربتهم في الشارع مختلفة أولاً؛ ولأن “نسائهم” من زوجات أو بنات أو أخوات، يخشين أن يحكين ما يتعرضن له كل يوم، خوفًا من أن يدفعن هن الثمن خصمًا من طموحهن وحياتهن العملية، أو من مجرد رغبتهن في “شم الهوا”.

فرض “المايوه” يعني أيضا منع الجلابيب والبنطلونات القصيرة إلخ وغيرها مما ينزل به أناس البحر في أماكن أخرى، لكن ذلك البوركيني، بوصفه قد منح نفسه مسمى شرعيا، يمنح نفسه ما يمنح أصحاب راية الشرع أنفسهم عادة

وتعود التجربة الشعورية لتفرض نفسها في “التريند” العجيب الذي صار يتفجر في الموعد نفسه كل صيف، احتجاجًا على بعض حمامات السباحة أو الشواطئ التي تفرض ارتداء ملابس البحر التقليدية (المايوه)، وتمنع “البوركيني” الذي صار يسمى “المايوه الشرعي”، ومن نافلة القول أن فرض “المايوه” يعني أيضا منع الجلابيب والبنطلونات القصيرة إلخ وغيرها مما ينزل به أناس البحر في أماكن أخرى، لكن ذلك البوركيني، بوصفه قد منح نفسه مسمى شرعيا، يمنح نفسه ما يمنح أصحاب راية الشرع أنفسهم عادة، إذ لا يقبل أن يُمنع من مكان حتى وإن قُبل في 1000 مكان آخر، وهو يحشر تارة مسألة الطبقية، وتارة مسألة العنصرية، وتارات مسألة “القلع” ومعاداة الدين، بل ويستخدم مفردات من مستوى “القهر” لوصف عدم قبول أصحاب مظاهر دينية في أماكن يعتقد كل متدين أنها تخالف الدين!.

لكن أرجو أولا أن لا تعتقد أن “المايوه” مسألة تافهة، فلا تنسى أن “مايوه” ابنة البرادعي قد وجه إليه ضربة أقوى من كل ما وجهه إليه نظام مبارك، وسرّ قدرة المايوه على “صعود التريند” بسهولة هو ارتباطه بلبّ وجوهر سيطرة الإسلام السياسي على أتباعه، وهو حرية الجسد، هل جسدك ملكك أم ملك تعليمات الشيخ يعقوب وقبلها دروس البنا؟ نظرة عابرة إلى اكتساح الحجاب للشوارع تجيب على هذا السؤال، والمايوه (الطبيعي)، هو نقيض تلك السيطرة، والإصرار على مطاردته بالمايوه الشرعي، حتى في حمامات سباحة تعد على أصابع اليد، هو في قلب معركة السيطرة.

لكن ما علاقة ذلك بالتجربة الشعورية التي تحدثنا عنها؟

كما يجهل كثير من الذكور طبيعة تجربة الإناث في الشارع المصري، فإنَّ كثيرًا من المحجبات، ومرتديات البوركيني يجهلن تجربة صاحبات المايوه العادي ليس في الشواطئ العامة (فقد انقرض منها المايوه منذ زمن)، وإنما حتى في الشواطئ والنوادي المختلطة، فيكفي أن أكبر نوادي مصر الرياضية لم تعد تسمح بالمايوه إلا في إطار فرق السباحة إن وُجدت، أما الأندية التي لا تمانع فلا تجرؤ عضواتها على ارتداء ملابس السباحة وسط جمهور محافظ في أغلبيته الكاسحة، ويقتصر الأمر على عدة ممارسات للسباحة ينزلن عادة في الصباح الباكر. ونتيجة هذا الجهل بالتجربة، فإن “البوركينيات” يعتقدن أن سبب الإلزام في عدد محدود جدا من المسابح بالمايوه التقليدي يعود إلى التعالي الطبقي أو احتقار المحجبات، مع إنهن إذا جربن يوما واحدا ارتداء المايوه العادي في شاطئ مختلط، فسوف يقمن بأنفسهن الأسوار.