العالم يتغير ينشغل بقضايا كبرى، إرهاب ووباء يأتي على الأخضر واليابس، العالم يدور ويتحرك نحو تحسين حياة البشر، لكننا لا ننتمي لهذا العالم، نحن أبناء القاع والهامش المُلغى.

نحن المنشغل كثير منا بقضايا محاها التاريخ وباتت نسيًا منسيًا، سنوات تضيع أصواتنا للتوعية ضد الختان، وفتيات تذهبن ضحية الجهل، وسنوات أخرى تضيع حول الحجاب بين الفرض والسنة، الاختيار والاجبار.

اقرأ أيضًا- عزة سلطان تكتب.. “مش أم أبوها”

العمر يضيع في متاهات الجهل، ونحن نبحث في نفايات العالم ونستخرج المهمل لنعيد شغله، وتقديمه كقضية وجودية.

#البسي_فستان أو #البسي_فساتين هاشتاج انطلق عبر مواقع التواصل تعقيبًا على ما تعرضت له الطالبة “حبيبة” إثر ارتدائها فستان.

إنني أخجل من نفسي وأنا أناقش مثل هذا الموضوع، لن أذكركم أن أمهاتنا وجداتنا لهن صور بالمايوهات، لن أتحدث عن أفلام السينما حتى فترة الثمانينيات ولقطات الشوارع تقدم أهل مصر من النساء ترتدين التنورات القصيرة والفساتين حسب أحدث موضات العالم.

أفلام عديدة يأتي ضمن سياقها الدرامي عرض أزياء أحد الطقوس الحياتية التي يُقبل عليها العديد من العائلات رجال ونساء، فيلم كرامة زوجتي – غرام الأسياد- أنا وبناتي- أيام الحب وغيرهم كثير، بيوت أزياء مصرية، والفستان أحد بديهات اللبس عند النساء بكافة الطبقات.

اقرأ أيضا:

تجارب “صحفيات مصر 360” مع شوارع تطارد الفساتين

 

بينما العالم منشغل بالخروج من أزمة الوباء، واستعادة شكل الحياة الطبيعية مجددًا، نحن في مصر نناقش هل ترتدي فتاة فستان أم ليس من حقها.

المؤلم أن هذا الهاشتاج مهما انتشر فهو محدود، ذلك أنه يدور وسط فئات تشغلها قضايا أخرى، فئات ترتدي بالفعل الفستان في مناسبات عديدة، ومن ثم كل من استخدام الهاشتاج استعان بصورة قديمة له تأكيد على هذا الحق الذي حصل عليه بالفعل

المؤلم أن هذا الهاشتاج مهما انتشر فهو محدود، ذلك أنه يدور وسط فئات تشغلها قضايا أخرى، فئات ترتدي بالفعل الفستان في مناسبات عديدة، ومن ثم كل من استخدام الهاشتاج استعان بصورة قديمة له تأكيد على هذا الحق الذي حصل عليه بالفعل، المؤسف أن الأمر أبعد من الهاشتاج، ومواقع التواصل التي تحوي بداخلها كيانات وتجمعات نخبوية مهما بدت التكنولوجيا كاسرة للحدود.

الأمر أكبر وأكثر عمقًا، فهناك بعيد عن العاصمة والمدن الكبيرة تُبنى مدن الجهل، يتم صناعة سجون العقل والروح المشبعة بالعادات والتقاليد وجملة العيب والحرام، هناك بعيدًا لا يعرفون الوعي، التعليم لا يخرج عن كونه شهادة ترفع من المكانة الاجتماعية للفتاة، وتعزز فرص الزواج، بعيدًا عن الهشتاج هناك حياة لا نعرف عنها الكثير.

حياة تخلو من مفاهيم التربية الصحيحة، مشبعة بسلوكيات تربوية خانقة، قواعد تم تأسيسها تحت ألوية الدين والعرف، وهي بعيدة كل البعد عن الدين وعن الأعراف المزيفة

حياة تخلو من مفاهيم التربية الصحيحة، مشبعة بسلوكيات تربوية خانقة، قواعد تم تأسيسها تحت ألوية الدين والعرف، وهي بعيدة كل البعد عن الدين وعن الأعراف المزيفة، على مدار عقود يتم تشويه العقل الجمعي، تحت سمع وبصر النخبة، والخوف يحجب كثيرين عن القيام بدور حقيقي، قصور الثقافة التي تحولت إلى الصمت ولم تعد سوى مباني تضم موظفين لا يفعلون شيئ سوى تسديد الخانات، مسارح تُغلق، ودور عرض تُهدم، حصص الأنشطة تختفي من الجدول المدرسي، اعتماد أزياء تخلو من الجمال.

اقرأ أيضًا- عزة سلطان تكتب.. “الدخان القريب يعمي

إن الرفض الذي حدث لأن فتاة ترتدي فستان هو مكون طبيعي لعقود من الانغلاق والتعفن الذي نشم رائحته طيلة الوقت ونتجاهل الحديث عنه إلا من رحم ربي.

نحن لا ننتمي للعالم الذي نُطل عليه عبر شاشات هواتفنا وأجهزة الحاسوب، ولا نقترب بأي درجة من مستوى الوعي والحرية التي وصلت إليها أقرب الدول إلينا، إننا لسنا بحاجة إلى هاشتاج بقدر حاجتنا لمشروع اجتماعي قومي لإعادة التأهيل، نحن بحاجة إلى توعية الأمهات والأباء بأسس التربية السليمة للأبناء، ليس فقط تربية البنات، ولكن الأولاد أيضًا.

التوعية التي توجه إلى الحياة السوية، ليست فقط حرية ما نرتدي ولكن حرية أن نفكر، حرية أن نتكلم ونعبر عن مشاكلنا بطرق صحيحة.

بات من الضرورة إعادة النظر في خطة التعليم الخاوية من أي فعل حياتي، والتي صارت موجهة نحو مزيد من الانغلاق بمناهج تعتمد الحفظ وليس الفهم، مناهج لا تُعلم الأطفال ولا تُفيدهم

بات من الضرورة إعادة النظر في خطة التعليم الخاوية من أي فعل حياتي، والتي صارت موجهة نحو مزيد من الانغلاق بمناهج تعتمد الحفظ وليس الفهم، مناهج لا تُعلم الأطفال ولا تُفيدهم، تعليم خالٍ من كل الأنشطة التي تُعد اللبنة الأساسية في ممارسة الحياة منها حصص المجال الصناعي والزراعي والتدبير المنزلي، والمكتبة والموسيقى والرسم ونودي العلوم ونوادي الطيران، فأين تم دفن تلك الأنشطة ولصالح من يتم تجريف أرواح أبناءنا فيصيروا مخوخين أجسام مثل ماكيت وعقول فارغة وأرواح تائهة.

وليس التعليم وحسب، قصور الثقافة بما تضمه من مسارح ودور عرض، ذلك الدور الذي يعمل على إشعال شرارة الوعي والنور بداخل النفوس.

خلال أيام ستزول أثار التعاطف مع حبيبة، لتواجه وحدها مصير تحديها لمن حولها، وسينشغل المجتمع بقضية أخرى، ربما في ذات المستوى أو أقل أو أنها في اتجاه آخر، دون أن نقف ونحلل الظواهر ونجدد حلول، وسنظل هكذا ندور في فلك الهامش والمنتهي الصلاحية.