من المعروف أن إثيوبيا دولة قديمة المنشأ وليست دولة حديثة عهد بالجغرافيا السياسية، والحقيقة تقول إن الدول ذات الأنهار لابد أن يشهد تاريخها ازدهارًا حضاريًا، وهذا التاريخ بدون شك خلق لإثيوبيا عوامل قوة من ضمنها الكتلة البشرية الكبيرة، ودخول الديانة المسيحية إليها في فترات مبكرة حيث تعتبر الكنيسة الكاثوليكية فيها من أقدم الكنائس في العالم، إضافة إلى أنها أول دولة أفريقية عضو في الأمم المتحدة، لكنها برغم وقوعها في السابق في منزلة حسنة في قلوب المسلمين خلال مرحلة معينة نتيجة استقبالها لأول هجرة للمؤمنين إبان حكمها من قبل ملك عادل، إلا أنها بعد ذلك وقعت سواء حكومة أو نخبا من قبل قوى دولية في معارك تخدم مصالح تلك الدول، غيّر الكثير من الانطباع حول هذه البلاد لدى العديد من الشعوب، فقد تبدل موقف الحبشة مبكرًا تجاه المسلمين أثناء خلافة عمر بن الخطاب حين تعرض ميناء جدة إلى هجوم الأحباش لكن المسلمين تمكنوا من ردهم واضطر المسلمون نتيجة تكرار هذه الهجمات إلى غزو سواحل الحبشة والسيطرة على بعض المناطق فيها سنة 83 هجرية.

اقرأ أيضًا.. سد النهضة.. نادر نورالدين يشرح ما الذي تفعله إثيوبيا في نهر النيل| حوار

هذا التهديد الحبشي تكرر في عام 1510م على يد الملكة هيلانة التي تحالفت مع ملك البرتغال عمانويل في مهاجمة الأساطيل العربية في المحيط الهندي لكن الأسطول هزم وقتل قائده.

إثيوبيا

في فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا أثناء حكم الحزب الفاشي بزعامة موسوليني كانت إيطاليا تحتل الحبشة، فاستجلبت عددًا كبيرًا من الأحباش لاستخدامهم كجنود مقاتلين ضد الليبيين، أطلق عليهم لقب “المصوع”، وباعتبار هؤلاء الجنود هم مجرد مرتزقة ولاعلاقة لهم لا بالمستعمر ولا بالشعب المستعمر فقد استخدموا أبشع وسائل التعذيب والدمار والقتل والحرق للشعب الليبي، ما خلق حالة من الحقد في نفوس الليبيين صغارًا وكبارًا على كل مايطلق عليه حبشي، واستطاعت إيطاليا التي أطلقت يد الأحباش في ليبيا أن تستثمر حقد الليبيين عليهم جراء ذلك في نقل المساجين الليبيين للقتال في الحبشة لمعرفتها أن الطرفين لايمكن أن يتحالفا ضدها.

هذه الحالة من الحقد التي زرعها المستعمر في نفوس أبناء القطرين ستظهر من جديد في أي حالات استقطاب تتولد نتيجة أي صراع في المنطقة، وقس على ذلك بقية الدول الجارة لإثيوبيا التي شهدت مراحل صراع معها مختلفة العصور والأسباب مما يدفع بهذه الصراعات إلى الظهور على السطح ضمن طبيعة حالات الثأر في القارة الأفريقية.

إثيوبيون يحيون صورة لموسوليني

إن حالة الاستقرار التي سادت علاقة إثيوبيا مع جيرانها منذ فترة، كانت وليدة احترام قادة إثيوبيا خلال مراحل معينة سابقة لحصص جيرانها من المياه التي تنبع منها سواء كان هذا الاحترام ناتج عن تقدير لأهمية علاقة مستقرة مع الجيران أو نتيجة اضطرابات داخلية شهدتها إثيوبيا لفترات متعددة في السابق، وبالتالي فإن استقرار إثيوبيا في علاقتها مع جيرانها كان من ضمن أولويات حرص جيرانها على ذلك الاستقرار، لكن تغير سياسة إثيوبيا تجاه جيرانها فيما يتعلق بملف المياه، سيؤدي إلى إعادة النظر لدى كل دول الجوار في مسألة استقرار إثيوبيا وقد ينتج عن ذلك تولد قناعة لدى تلك الدول أن استقرار إثيوبيا سيكون على حساب الأمن المائي لديها وبالتالي سيدفعها ذلك إلى غض الطرف عن أي فوضى تشغل إثيوبيا بمشكلاتها الداخلية وتمنع التوجه نحو استغلال المياه على حساب دول الجوار.

إن أسوأ السيناريوهات التي قد تشهدها هذه البلاد هو العودة إلى دوامة الاجتزاء إلى جغرافيتها التي مرت بها خلال فترات زمنية سابقة كان آخرها انفصال أرتريا واستقلالها عام 1993، وربما عودة صراعات قديمة مع الصومال التي أجتاحت قواتها إثيوبيا للسيطرة على أقليم أوغادن عدة مرات خلال الفترة من 1977 وحتى 1983 والتي لم يحسمها إلا تدخل قوات الاتحاد السوفيتي وكوبا إلى جانب الرئيس “مانغستو هيلي ماريام” أبرم على إثرها معاهدة بين الطرفين قد تكون عرضة للنقض في أي توتر بين البلدين.

حرب أوجادين

إن دستور إثيوبيا الذي أعتبر البلاد دولة فيدرالية تعترف بحق الانفصال منذ العام 1994 جعلها عرضة لارتفاع الأصوات المطالبة بالانفصال مثل جماعات الأورمو والصومال والتيجراي وأوغادن وستزداد هذه المطالبات في ظل مواجهة إثيوبيا حاليًا للعديد من الأزمات الإقليمية والدولية بداية من العقوبات الدولية وصولًا إلى حالات الانعزال التي تشهدها من محيطها بسبب سياستها تجاه مصدر شرياني حيوي لذلك المحيط خصوصًا إذا تعلق هذا الخطر بتهديد دولة بحجم مصر التي تتكون من كتلة بشرية تعيش بشكل كامل على مصدر مياه واحد، وتلعب قيادتها السياسية دورًا محوريًا في كل القضايا العربية علاوة على تمتعها بثقل حقيقي في التوازنات الإقليمية والدولية والقضايا الأفريقية، كل ذلك التخبط في التعامل مع الجوار يواكبه حاليًا صدور تقارير دولية مستقلة تفيد بأن إثيوبيا على شفى الانهيار وانتظار وشيك لمجاعة كبيرة ستعم إقليم تيجراي الذي يشهد صدامات مسلحة، علاوة على أن هناك مناطق لم تشملها الانتخابات النيابية التي جرت في البلاد خلال منذ أيام بما يقدر خمس مساحة إثيوبيا بسبب الصراع الدائر فيها، ما جعل المنظمات الأممية المراقبة لهذه الانتخابات مثل الاتحاد الأوروبي تعلن مقاطعتها لها لعدم وجود ضمانات شفافة في إجرائها.

نتنياهو وآبي أحمد

إن تمسك إثيوبيا بعلاقات بعيدة عنها جغرافيًا على حساب علاقاتها مع جيرانها مثل ارتفاع التبادل التجاري بينها وبين الكيان الإسرائيلي إلى 500% خلال عامين هو مايفقدها بوصلة الاتجاه الصحيح في خريطة استقرارها مع جيرانها ويدفع نحو مزيد من الفوضى الداخلية فيها ويضعف موقفها في مواجهة أي حركات انفصالية جديدة ويضعها على شفا حرب أهلية قد تستمر طويلًا في ظل وجود أكثر من 12 جماعة عرقية فيها، ولن تنتهي إلا بزيادة تفتيت وحدة إثيوبيا المؤسسة أصلًا على خريطة من الفسيفساء الدينية والعرقية.

إن من أولويات أي نظام سياسي يسعى للبحث عن استقرار مجتمعي في أي دولة هو عدم خلق توتر مزدوج داخلي وخارجي قد يقوض كل قواعده القائم عليها أو قد يتجاوز ذلك إلى تهديد وحدة البلاد ومستقبلها خصوصًا في الحالة الإثيوبية القائمة على تجمعات إثنية ترى دائمًا أن الانفصال عن المركز بديلًا قائمًا باستمرار لأي اضطهاد أو فقر أو فوضى أو تهديد خارجي لمركز السلطة.