قضت المحكمة الإلهية بوفاة مهندس الغزو الأمريكي للعراق، دونالد رامسفيلد، تاركًا خلفه ملفًا ملئ بجرائم الحرب التي كشفت عورة العدالة الدولية. باعتبار أنّ جرائم الدول العظمى “ليست محل نظر”، بخلاف عدم توقيع أمريكا على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وهو ما جعلها محصّنة من المساءلة ضمن مبدأ الولاية القضائية.

وزير الدفاع الأمريكي الأسبق الذي رحل عن عمر يناهز 88 عاماً، هو أحد صقور إدارة الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن. رامسفيلد وهو مهندس حرب العراق 2003، اضطر بوش لإقالته مع تعثر واشنطن بعد ثلاث سنوات ونصف من القتال بالعراق.

ولا يزال ملف جرائم أمريكا في العراق مغلقًا على انتهاكات لا حصر لها، ويقف خلفها قادة الجمهوريين الأمريكيين. وعلى رأسهم الرئيس جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومساعديه بول وولفويتز ودوجلاس فيث وريتشارد نورمان بيرل.

فريق التخطيط للغزو

نواب رامسفيلد الذين خططوا برفقته لغزو العراق، ليسوا بحاجة إلى تقارير سرية تكشف جرائمهم. باعتبار أن أفعالهم وتصريحاتهم وعداءهم واعترفاتهم كانت علنية، حتى للأمريكيين أنفسهم. فهذا “بول وولفويتز” الذي كُوفئ على هندسة حرب العراق بتعيينه رئيسًا للبنك الدولي عام 2005. وذلك قبل أن يُدفع للاستقالة بعد عامين بفضيحة فساد، دون أن يحاسبه أحد.

أما النائب الثاني دوجلاس فيث بيرل فلم تُسفر ملاحقته من قبل الديمقراطيين عن أي نتيجة. ففي 2005 اتهم نواب ديمقراطيون مساعد رامسفيلد بالاشتراك في تضليل الشعب الأمريكي بشأن أسباب حرب العراق. واتهموه بالتلاعب في معلومات بشأن جود علاقة بين صدام حسين وتنظيم القاعدة الذي تزعمه أسامة بن لادن. الذي تنسب إليه مسؤولية هجمات 11 سبتمبر عام 2001.

وأشار بوش وكبار المسؤولين في إدارته إلى العلاقات المزعومة بين العراق والقاعدة كمبرر للعمل العسكري. لكن لجنة 11 سبتمبر قالت في وقت لاحق إنه لا توجد علاقات تعاون بين الاثنين.

أما المساعد الثالث ريتشارد نورمان بيرل، وهو أحد أقطاب المحافظين الجدد الذين برزوا خلال إدارة بوش الابن، أصبح واحدًا من أكبر تجار السلاح عالميًا. وارتبط اسمه بالسعودي عدنان خاشقجي المعروف بتجارة السلاح.

هذا الرجل الذي وصفته وسائل الإعلام الأمريكية بـ”أمير الظلام” و”دراكولا”. كان أحد أهم منظري السياسة الأمريكية العدائية للعرب، ومن أبرز من دعوا لاحتلال العراق. وجاهر بتصريحات أشد تطرفًا دون أن يحاسبه أحد أيضًا.

من بينها أقواله العلنية: “سيكون العراق هو الهدف التكتيكي للحملة، وستكون المملكة العربية السعودية هي الهدف الاستراتيجي، أما مصر فستكون الجائزة الكبرى”. كما قال: “على أمريكا تغيير كل النظم غير المرضي عنها في العالم”.

بايدن للديمقراطيين: بوش خدعني

عندما قدّم نفسه مرشحًا لرئاسة البيت الأبيض، اضطر “جو بايدن” أن يبرر للديمقراطيين في 2019 موقفه من دعم حرب العراق. وقتها قال إن جورج دبليو بوش خدعه، ورأى أن “السبب الوحيد وراء تصويته لدعم حرب العراق عام 2002 هو أنه كان يثق في الرئيس بوش آنذاك”.

وقال إن “الخطأ الذي ارتكبته أنني وثقت في بوش، الذي أعطاني تصريحاً واضحاً يتعلق باستقدام المفتشين لمعرفة ما يجري. هل كانوا ينتجون أسلحة نووية أم لا؟”. وأضاف بايدن: “كان خطأي هو أن رأيت في عيني الرجل صدقاً وأنه لم يكن يكذب عليّ. لقد قال لي إنني لن أذهب إلى الحرب، فما نقوم به فقط يتعلق بموضوع المفتشين”.

كذبة الأسلحة النووية

أما مدير الـ”سي آي أي” السابق جيمس وولسي، فهو صاحب صياغة ما عرف بـ”الأساس المنطقي لحرب العراق”. تلك المتعلقة بمزاعم السلاح النووي أو علاقة العراق بالقاعدة، وهما النقطتان اللتان ثبُت كذبهما سواء على المستوى الدولي أو أمام الأمريكيين أنفسهم، وأيضًا لم يسأله أحد.

الصحفي المصري خالد داوود كتب عبر صفحته على “تويتر”: “عندما كنت مراسلاً للأهرام في أمريكا 2002-2006، تبين أن رامسفلد أقر رسميًا سياسة رشوة كتاب ومعلقين أمريكيين لدعم حرب العراق، ولتمويل صحف وكتاب عرب لنفس الغرض”.

وفي مؤتمر صحفي عام 2002 عندما سئل عن نقص الأدلة التي تربط صدام بأسلحة الدمار الشامل، قدم رامسفيلد إجابة “مراوغة”. وبعدها بأشهر قليلة غزت القوات الأمريكية العراق في مارس 2003. وفيما قال رامسفيلد إن أسلحة الدمار الشامل العراقية تشكل خطرًا على العالم، لم يعثر على هذه الأسلحة.

وعلى الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة، تتصدر تصريحات المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية آنذاك محمد البرادعي. وذلك خلال إحاطة قدمها إلى مجلس الأمن بعد مضي 60 يومًا على استئناف عمليات التفتيش في العراق، قال إن الوكالة لم تعثر على أية أدلة تفيد بأن العراق استأنف برامج تطوير أسلحة نووية والتي كان قد أوقفها في مطلع التسعينيات.

سجن أبو غريب

هكذا كانت “فرضيات كاذبة ومضللة” أساسًا لحرب مدمرة في العراق، ارتكبت خلالها القوات الأمريكية جرائم ضد الإنسائية. وقدرت بعض الجهات أن قتلى العراق على سبيل المثال تجاوز المليون عراقي منذ بداية الحرب في 2003 وسجن أبو غريب.

وفي 2006 رفع محامون دوليون دعوى أمام القضاء الألماني ضد قيادات أمريكية عليا في مقدمتهم رامسفلد بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وكان المحامون يمثلون معتقلين سابقين في سجني أبي غريب وغوانتانامو.

السجن الذي كان تحت إدارة الحكومة العراقية أصبح في 2003 تحت إدارة العسكريين الأمريكيين وبعد ذلك ظهرت “فضيحة أبو غريب“. وعرضت صور “مريعة” تبين طرق تعذيب المساجين العراقيين وإذلالهم وتصويرهم وتكديسهم عراة من قبل الجنود الأمريكيين.

سجن أبو غريب
سجن أبو غريب

وعلى خلفية ذلك، جرى محاكمة 11 جندي أمريكي متورطين بالفضيحة، هم بعض أفراد الشرطة العسكرية من الرتب الصغيرة، أمثال الرقيب مايكل سميث، في قضية المشرف على الكلب في التحقيق الذي حوكم بالسجن 8 سنوات ثم خففت لاحقا إلى 8 شهور فقط.

ورفع سجناء تعرضوا للتعذيب في “أبو غريب” دعوى في أمريكا بمساعدة منظمة حقوق الإنسان (CACI). لكن القاضي الأمريكي “جيرالد بروس لي” رفض قضيتهم؛ لأنها حدثت خارج الحدود الأمريكية.

لكن الصحفي الأمريكي الشهير “سيمور هيرش” قال في مقالة نشرتها جريدة “النيويوركر”، إن الانتهاكات التي وقعت في سجن أبو غريب كانت نتيجة أوامر مباشرة من رؤساء في سياق عملية سرية للغاية أجراها برنامج جهاز جمع معلومات تابع للبنتاغون بتفويض من وزير الدفاع دونالد رامسفليد.

“مجرمو حرب محترمون”

وفيما تمثل المطالبة بمحاسبة الرؤوس الكبيرة نوعًا من التمني، فإنّ تقريرًا أمريكيًا نشر في يونيو 2019 تحت عنوان “مجرمو حرب محترمون” (America’s respectable war criminals)، قدّم القناعات المتأصلة في المجتمع الأمريكي تجاه الحروب التي خاضها قاتهم لـ”محاربة الإرهاب”.

نشر موقع أمريكي تقريرا بعنوان "مجرمو الحرب المحترمون في أمريكا"
نشر موقع أمريكي تقريرا بعنوان “مجرمو الحرب المحترمون في أمريكا”

وكانت دراسة كندية قدّرت عدد ضحايا حروب الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بأكثر من ثلاثين مليون إنسان حول العالم. أما مجلة “لانسيت” الطبية البريطانية المرموقة فقالت في دراسة إن الولايات المتحدة تسببت في وفاة  1.9 مليون عراقي. وذلك بسبب الحرب والهجمات التي شنتها على العراق والحصار خلال الفترة من 1991 إلى 2003.

وأوردت أيضًا أنه في الفترة اللاحقة قتل حوالي مليون شخص آخر. ما يعني أن حوالي 3 ملايين عراقي لقوا حتفهم خلال عقدين على يد الولايات المتحدة أو بسبب سياستها، حسب الدراسة.

المهجَّرين والفارين من الحرب

أما عن المهجَّرين، فإن حرب أمريكا وثم الحرب الأهلية تجعل ثمة صعوبة في الوصول لإحصاء دقيق بشأن الفارين من ديارهم. لكن تقارير تشير إلى أن العديد من الأسر العراقية أرغموا على هجر منازلهم لمناطق أخرى بالبلاد أو هربوا إلى الخارج.

وقدرت المنظمة العالمية للهجرة، التي ترصد أعداد الأسر المهجَّرة، أن حوالي 1.6 مليون عراقي أُبعدوا عن ديارهم داخل العراق في الفترة الممتدة ما بين عامي 2006 و2010. ويشكِّل هذا العدد 5.5% من عدد سكان البلاد.

أكبر عملية سرقة في التاريخ

واحدة من الخسائر العراقية الباهظة جراء الحرب الأمريكية، كشفها منقب الآثار العراقي، عامر عبد الرزاق في حوار مع وكالة “سبوتنيك“. حين تحدث عن تعرض المتحف العراقي الوطني في بغداد إلى “أكبر عملية سرقة في التاريخ”.

وقال إن “تجارا كبارا لتهريب الآثار دخلوا العراق من دول الجوار، وجمعوا ملايين القطع الأثرية وقاموا بتهريبها خارج حدود البلد”. وأكد في الوقت نفسه أن “الأمر كان مقصوداً وبتدبير أمريكي”. ولفت إلى “تعرض ما يقارب من خمسة عشر ألف موقع أثري للسرقة والنبش، ونهب أهم وأغنى آثاره”.

قوات أمريكية داخل متحف العراقي الوطني
قوات أمريكية داخل متحف العراقي الوطني

ويقول عبد الرزاق، عن مشهد اقتحام المتحف: “كان هناك سارقون عرب ومن جنسيات أجنبية مختلفة، وبعضهم لديه الدراية ماذا يسرق وماذا يترك. أما القوات الأمريكية فكانت تشاهد كل ما يحدث وكأنها خططت له مسبقاً في إحدى غرف البيت الأبيض”، وفق قوله.

معركة واشنطن والمحكمة الجنائية الدولية

هكذا طويت صفحة حرب العراق وجريمة “أبو غريب” دون جرس للعدالة الدولية، بل إن الأدهى من ذلك أن أمريكا فرضت عقوبات، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، على كبار المسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية، بينهم المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودة.

واتهم وزير الخارجية مايك بومبيو آنذاك المحكمة بـ “محاولات غير مشروعة لإخضاع الأمريكيين لولايتها القضائية”. وترجع القضية إلى تحقيق المحكمة في ما إذا كانت القوات الأمريكية قد ارتكبت جرائم حرب في العراق وأفغانستان.

لكن الرئيس الحالي جو بايدن رفع العقوبات التي فرضها سلفه على المدعية العامة للمحكمة. ووصفت “الجنائية الدولية” تلك الخطوة بـ”الحقبة الجديدة” من التعاون مع واشنطن،. وأشارت إلى أن رفع العقوبات سيسهم في دعم أعمال المحكمة وتعزيز نظام دولي قائم على القانون.

بايدن ألغى قرار ترامب بفرض عقوبات على بن سودا
بايدن ألغى قرار ترامب بفرض عقوبات على بن سودا

ليس معروفًا كيف يتعامل الرئيس الديمقراطي للبيت الأبيض مع ملفات العدالة الدولية والجرائم السابقة. ومن قبل ذلك إطار التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، خاصة أن واشنطن تنتقد المحكمة منذ تأسيسها.

لكن سيلفيا فيرنانديز دي غورمندي، رئيسة جمعية الدول الأطراف في نظام روما الأساسي (المحكمة الجنائية الدولية). رأت في خطوة بايدن “بداية مرحلة جديدة في التزامنا المشترك بمكافحة الإفلات من العقاب” في ما يتعلق بجرائم الحرب.

وقالت دي غورمندي إن الجنائية الدولية “رحبت دائما بمشاركة أمريكا” في عملها. وذلك على الرغم من أن واشنطن لم تصدق على قانون روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية.

وتتمثل سلطة المحكمة الجنائية الدولية في “ممارسة ولايتها القضائية على أشخاص فيما يتعلق بأخطر الجرائم التي تثير قلقاً دولياً”، والمعروفة بأنها “جريمة الإبادة الجماعية”، و “الجرائم ضد الإنسانية” و”جرائم الحرب” و”جريمة العدوان”. والأهم من ذلك أن ولاية المحكمة الجنائية الدولية “مكمّلة للولاية القضائية الجنائية الوطنية”.

لذلك يمكن ملاحقة جرائم الحرب من خلال قانون جرائم الحرب لعام 1996 في الولايات المتحدة. ولكن حكومة الولايات المتحدة لا تقبل بسلطة المحكمة الجنائية الدولية على قواتها العسكرية.

وفي عام 2000 وقعت الولايات المتحدة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. لكنها أبلغت الأمين العام للأمم المتحدة بعد ذلك بعامين أنها لن تصادق عليه. وبالتالي لن تكون مقيّدة بأي التزامات تترتب عليه. وبدون هذا التصديق، فإنها ليست طرفاً في المعاهدة، إلى جانب الصين والهند وروسيا.

انتقائية العدالة

لكن وفيما يفلت المسؤول الأمريكي من المساءلة، فإن شباك العدالة الدولية اصطادت رؤساء دول واستخباريين وعسكريين. خضعوا لمحاكمات بتهمة ارتكاب جرائم حرب سواء في بلدانهم أو في أماكن أخرى.

من بينهم هؤلاء، الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي اعتقلته القوات الأمريكية عام 2003. وجرى تسليمه مع 11 مسؤولًا بارزًا في حزب “البعث”، ومحاكمتهم في قضايا “جرائم حرب” و”انتهاك حقوق الإنسان” و”إبادة جماعية”. ونفذ فيه حكم بالإعدام شنقًا في عام 2006.

محاكمة صدام حسين
محاكمة صدام حسين

وعام 2007 قضت المحكمة الجنائية الدولية بالسجن المؤبد بحق الرئيس الإثيوبي الأسبق، منغستو هيلا مريام، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة خلال فترة حكمه، عقب انقلابه على الإمبراطور هيلاسلاسى عام 1974.

أيضًا انضم الرئيس السوداني عمر البشير إلى قائمة المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت أمرين باعتقاله، بتهم ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” تشمل الإبادة والقتل والتهجير القسري.