يقول أفلاطون في محاورة “بروتاجوراس”: “قلت بالتأكيد، إن المعرفة هي غذاء الروح، ولكن علينا أن نراعي يا صديقي، أن السفسطائي (ذلك المخادع الذي يبيع المعرفة لمن يرغب دون دراية بطبيعته وقدرته) لا يخدعنا عندما يثني على ما يبيع، مثل التجار الذين يتعاطون البيع بالجملة أو التجزئة، ويبيعون غذاء الجسد، لأنهم يمدحون بضاعتهم دون تفرقة، ودون أن يعرفوا (مثلما لا يعرف المشترون منهم) ما هي السلعة المفيدة أو الضارة، باستثناء المتدرب أو الطبيب عندما يصدف أن يشتري منهم، وعلى نفس المنوال فإن الذين ينقلون سلع المعرفة، ويبيعونها (جملة أو تجزئة) لأي مشتر يرغب في شرائها، فإنهم يمدحون سلعهم دون تفرقة، ولكن يا صديقي، لا يجب أن يعترينا التعجب والاستغراب، إذا كان كثيرون منهم جهلة بحق، لا يدركون تأثيرها على الروح، وكذلك زبائنهم، جهلة مثلهم، إلا إذا صدف وكان الذي يشتريها طبيبًا للروح، فإذا كان لديك الفهم بطبيعة ما هو خير وما هو شر، فتستطيع عندها أن تشتري معارف بروتاجوراس، أو حتى أي شخص آخر، وأنت في أمان، أما إذا لم يكن لديك هذا الفهم، فعليك أن تتوقف، وتمتنع عن الشراء، ولا تخاطر بأغلى مصالحك في لعبة حظ، لأن في شرائك المعرفة دون فهم خطر كبير وعظيم، أشد من خطر شرائك الطعام والشراب الفاسد”.

اقرأ أيضًا.. التواجد وسط الغرباء (1) مبدأ بيتر والتعليم النمطي

الاغتراب مفهوم مراوغ وملتبس مثل كثير من المفاهيم الاجتماعية المجردة، إنه يشبه بحر بلاضفاف، تحيطه تضاريس معقدة، إذ تماهت مع مفهوم الاغتراب عناصر توسع من دلالاته بمحمولات جديدة، مثل: الاستلاب، الانسلاخ الاجتماعي، العزلة، العجز عن الاندماج، والانعزال عن الهوية الثقافية الاجتماعية السائدة، وغياب التكيف والتوافق، تلاشي عاطفة الانتماء، أو الارتباط مع الجموع، وفقدان المعنى، وانعدام المغزى من الحياة والوجود، موضوعية وجود الآخر أمام ذاتية الفرد المغترب، الانسحاق الذاتي في مواجهة سيطرة الثقافة السائدة، تدهور منظومة القيم.

بالإضافة إلى مانجده في “الموسوعة البريطانية الجديدة” وهو مقارب كثيرًا لدلالات ومظاهر الاغتراب مع تفصيلاتها مثل: العجز، الاستسلام، خضوع الفرد لقوى خارجية تنفي حرية الفرد المغترب، فقدان المعنى، وصعوبة الفهم، وغرابة العالم والمجتمع، تفاهة وعبثية الحياة الاجتماعية، والتحلل من القواعد، ورفض القيم الاجتماعية السائدة، والتمرد على السلوك النمطي الاجتماعي، والاستهانة بالعادات والتقاليد، والغربة الثقافية عن الذات، وانفصام الفرد عن الأسرة والمجتمع، والانسلاخ عن الأسرة والأقران والمحيط الاجتماعي، (وهو ما ينطبق أيضًا على بعض الفئات الخاصة مثل: الأقليات العرقية، والدينية، والمرأة، من عزلة اجتماعية لتلك الاقليات والفئات)، والغربة الذاتية الفردية الدائمة، وتقوقعها في عالم وحيد مهجور ومظلم، الاستياء، التذمر، العزلة، الإحباط.. إلخ، قد يبدو تعدد المعاني متكاثرًا، ولكن تضمه وحدة واحدة، والفوارق بين المعاني تبقى هامشية، ومترادفة، وثانوية، في هذه الحلقة الجامعة لهذا المفهوم المراوغ.

يقول “سارتر” إن العقل الذي يرفض التفكير الخطي/السببي الذي يتسم بالميكانيكية. هذا العقل وحده هو القادر على اكتشاف التناقضات، والتعامل مع تعقيدات الحياة بطريقة ديناميكية، هو وحده القادر على التعامل مع الواقع ووصف التاريخ (الذي صنع عبر إرادات فردية أثرت فيه)، عبر تجربتي (الضرورة) و(الحرية) بدء بوصف أقدم العلاقات وأولها على الأرض، والتي أقامها الإنسان/الفرد مع العالم/الطبيعة.

أفلاطون

يوجد الإنسان في هذه اللحظة التي تتسم بــ”الموات/الجمود”، وفي هذا العالم الذي تسوده الحاجة، والندرة، والعنف، والاستلاب، ويصير فيه (هو) نتاج لإنتاجه، بما يعني أن العمل الذي يقوم به، أي عمله الخاص قد انقلب عليه، يصبح انتماءه (هو) لمجموعة عاجزة تحكمها قساوة المادة، حيث يشعر البشر جميعهم بالخضوع لما هو أقوى منهم، ولا سيطرة لهم عليه، محكومين بالهموم المعيشية اليومية، مقتولن بالوحدة، غير مبالين بالشأن العام، وفي ظنهم أن هذا هو العادي/الطبيعي، في نظام (طبيعي) بل وضروري،لايد لهم فيه ولا مفر لهم منه، حيث لا يعرفون حياة أخرى، في هذه الأثناء لم يصل البشر بعد إلى (التاريخ) ولم يشارك الإنسان بعد في صناعته، لأن التاريخ يبدأ حيثما تبدأ مجموعة من البشر في امتلاك مشروعها الخاص، حيث المشروع يعبر عن (حرية فردية) و(خلاص جمعي).

يقول جيجيك: “من الصعب تجاهل المفارقة الساخرة بأن ما وحدنا سويًا، ودفعنا إلى التضامن العالمي، يتجلى على مستوى الحياة اليومية عبر أوامر صارمة لتجنب التواصل، والاحتكاك مع الآخرين، بل يصل الأمر للمناداة بالعزلة الذاتية. وفي هذه اللحظة الملتبسة على الإنسان أن يدرك ذاته بوصفه فردا، رغم كونه كائنا اجتماعيا، يشترك مع أعضاء نوعه في كثير من الخصائص البشرية، أن يعي أنه كيان فريد، يختلف عن كل ما سواه، يمتلك مزيجه الخاص من الطبع، والمزاج، والمواهب، والقدرات، والنزعات.. ألخ، مثلما يختلف في بنيته الجسدية، وبصمة أصابعه، ولا يمكن أن يؤكد إمكاناته الإنسانية (بوصفه كائنا اجتماعيا) إلا عبر تحقيق فرديته، وأن يدرك أن معنى وجوده الحي هو أن يكون فردًا، ومن ثم أن يدرك بعدها من خلال استقلاليته، أن فرد في جماعة.

يشعر الإنسان في المجتمع الحديث بأنه “قلق”، وأن حيرته تزداد، إنه يعمل، ويناضل في الحياة، ولكنه يكتشف هذا العبث في جل نشاطاته، وبينما تزداد سيطرته على الطبيعة من حوله، نراه يشعر بالعجز في مواجهة حياته الفردية والاجتماعية، وفي حين يكتشف كل يوم أدوات جديدة للهيمنة على الطبيعة، نجده يقف عاجزًا أمام نفسه، فاقدًا للرؤية، لا يستطيع إيجاد المعنى في حياته، وبينما تتناقل الأخبار أن الإنسان قد غدى سيد الطبيعة، نجده وصار عبدًا للآلة، وهو بكل معارفه جاهل وعاجز عن أن يتعرف/يكتشف من هو (الإنسان)! وكيف ينبغي له العيش؟! وكيف يمكن له التعامل مع ذاته، وقدراته، واكتشافها؟! وبينما كان اليقين الأسمى في عصر التنوير، “كن جسورًا شجاعًا وتجرأ على المعرفة! ثق في معرفتك! ثق في عقلك وقدراتك! نرى العالم وهو يتخبط في غياهب “النسبية” و”التشكك” و”فقدان الإيمان”، والإيمان هنا يعني الثقة في أمر ما، موضوع ما، حتى وإن كانت الثقة في الذات.

يقول جيجيك: “لا حضور في الحشود، فقط غياب، في المجتمع المعاصر لا يوجد أنا، يوجد فقط هو. يسيطر الاستلاب، تنقلب الفردية لتصبح وحدة، عزلة، ومن ثم، تتطرف يمينًا لتصبح أنانية”. وهنا يطرح “فرويد” طبيعة الرابطَ الذي يجمع الأنانية مع الانخراط بين الجماهير، وأدق تعبير يصفَ هذا الأمر هو عبارة شهيرة “أن نتقاسم تجربة”. ويرتكز على أن يجمعوا “هم” بين الصفات المتعارضة في هذا الاستثناء الذي يتقاسمونه. لا يسع المرء أن يكون موجودًا فحسب، بل: “هو” “وحيد في حشد”، حيث عزلة الفرد وانخراطه/ها في حشد يستبعدان التواصل المناسب عندما يقابل شخصًا آخر.

والآن وتقاربت الإنسانية بفعل إعمار أشد كثافة جعل العالم أكثر صغرا، ولم يترك أي جزء من الإنسانية في مأمن من عنف كريه، يستبد بنا حصر العيش، في هذا العالم الذي يتصف على الأرجح بأنه الأشد قسوة على الإنسان من أي وقت مضى، حيث توجد جميع وسائل الإبادة، والمذابح، والتنكيل، دون أن تلقى أي استنكار على الإطلاق. واجب الإنسان في وجوده الاجتماعي أيضا أن يتعرف على نفسه بوصفه (هو)، قبل أن يتجرأ على الادعاء بأنه (أنا)، وأن يدرك أن احترام الغير لا يعرف سوى أساس طبيعي واحد، في مأمن من (المنطق) ومغالطاته – بالنظر إلى أنه سابق عليه – يكتشفه الإنسان في نفوره من رؤية (مثيله) يتألم، ولهذا وبطريقة واضحة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، يدفعنا لأن ندرك ضرورة “الحب”.