حسب تقرير البنك الدولي أدى وباء كورونا وإغلاق المدارس والجامعات إلى خسائر في التعلم وتفاقم عدم المساواة في التعليم حتى في الدول الغنية، ومن المثير للقلق أن الخسائر كانت أكبر بين الطلاب الذين ينحدرون من أسر فقيرة أو أقل تعليمًا، وأن الطلاب من العائلات الغنية، تلقوا دعمًا أكبر من الأسرة خلال فترات إغلاق المدارس.
اقرأ أيضًا.. كورونا والتعليم: (1-2): جرد الخسائر
وإذا ما أردنا أن نتجنب أن تصبح أزمة التعلم كارثة تمس جيلًا كاملًا، يتوجب على الحكومات اتخاذ 4 إجراءات عاجلة من أجل التخفيف من حدة الآثار المدمرة لجائحة كورونا على التعليم. إذ تدعو الأمم المتحدة الحكومات إلى كبح انتقال الفيروس، التخطيط لإعادة فتح المدارس، حماية موازنة التعليم من التخفيض المتوقع، وإعادة النظر في مستقبل التعليم ككل، والتعجيل بالتغيير في طرق التدريس والتعلم، وتصميم نظم تعليم مرنة وقادرة على التكيف في مواجهة الأزمات الطارئة.
ويقدم البنك الدولي 3 توصيات للدول ذوات الدخل المنخفض والمتوسط، وهي تنفيذ برامج لاستعادة التعلم، وأن تكون الخطوة الأولى هي حصر الطلاب الذين تأثروا بالإغلاق وتحديد احتياجاتهم وضمان حصولهم على الدعم الضرروري للحاق بأهداف التعليم. وعلى الرغم من تباين التحديات بين الدول، إلا أنه ثمة خيارات يتوجب على جميع دول العالم القيام بها لمواجهة صدمات الجائحة والتعافي منها ووضع الأسس لمنظومة التعلم بطريقة أفضل وأكثر كفاءة، وأن الأولوية الملحة الآن هي العودة للتعلم، سواء من خلال التعلّيم عن بُعد، أو عبر مزيج من الخيارات، أو العودة بطرق آمنة إلى أنظمة التعليم المباشر في المدارس والجامعات.
ويقترح البنك الدولي 10 إجراءات هي:
أولًا، تقييم خسائر التعلّم أثناء فترة الإغلاق والتعليم عن بعد ومتابعتها بعد أن يعود الأطفال إلى المدارس. ثانيًا، تقديم دروس للتقوية وتوفير الدعم العاطفي والاجتماعي لمساعدة الطلاب على الانتظام في الدراسة. ثالثًا، إعادة هيكلة جداول الدراسة لتعويض المعارف المفقودة بسبب وباء كورونا والإغلاق. رابعًا، تطويع وتعديل المناهج بحيث تكون الأولوية للتعلّم التأسيسي. خامسًا، إعداد المدرسين وتحسين مهاراتهم ووسائلهم وقدراتهم التكنولوجية. سادسًا، دعم الإدارات المدرسية في وضع وتنفيذ الخطط التي تكفل توافر الظروف الآمنة والصحية لعودة الأطفال إلى المدارس.
سابعًا، التواصل مع أولياء الأمور والمدرسين والعاملين في المدارس والمجتمع المحلي والتنسيق معهم لإعادة فتح المدارس. ثامنًا تشجيع الانتظام في الدراسة، مع التأكيد بشكل خاص على الفئات المعرضة لخطر التسرب من التعليم. تاسعًا، الحد من تفشي المرض من خلال الالتزام بالإرشادات الوقائية في الصحة والنظافة الشخصية، ودعم حملات التطعيم، واعتبار المعلمين فئة ذات أولوية في تلقي اللقاحات. عاشرًا وأخيرًا، دعم التعلّم المنزلي من خلال ضمان وصول الكتب والمواد الدراسية والأدوات الرقمية إلى الطلاب أينما كانوا.
ويرى البنك الدولي أن تكنولوجيا التعليم يمكن أن تكون آداة قوية وفعالة في تطبيق الإجراءات العشرة السالفة، في جميع أنحاء العالم، أطلقت وزارات التعليم وشركات التكنولوجيا تطبيقات ومنصات تعليمية جديدة، لكن فترات الإغلاق في بعض البلدان امتدت لعدة أشهر.
وعلى الرغم من التوسع السريع في استخدام تكنولوجيا التعليم خلال الأزمة، إلا أن استخدامها لا يزال منخفضًا للغاية، حيث تعتمد تكنولوجيا التعليم على تقنيات ووسائط، لا تستطيع جميع الأسر الوصول إليها حتى في البلدان الغنية. وفي البلدان الفقيرة، والشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، فإن أسرة واحدة من كل خمس أسر تستطيع الوصول إلى الإنترنت، وأسرة واحدة من كل اثنتين، تستطيع الوصول إلى الراديو أو التلفزيون.
ووفق لدراسة لـ”مركز التنمية الكوكبية” (CGD)، زاد استخدام تكنولوجيا التعليم في أفريقيا خلال الأشهر التي أعقبت الإغلاق الأول بنسبة 100%، لكنها تظل نسبة قليلة جدًا، فمن بين 500 مليون طفل في القارة، لا يستخدم تكنولوجيا التعليم سوى مليون طفل فقط، بنسبة تقدر بحوالي 2 في الألف من طلاب المدارس.
وعلى الرغم من الآمال الكبيرة في أن تكون تكنولوجيا التعليم هي الحل لمواصلة التعلم أثناء الأزمة، لا يوجد دليل حتى الآن على أنها يمكن أن تحل محل المعلم، أو أن تقلل من عدم المساواة في التعليم. وتتفاوت القدرة على الوصول إلى الإنترنت بين الدول، وكذلك داخل الدولة نفسها، ففي بعض الدول الغنية، كالولايات المتحدة الأمريكية وآيسلندا والنرويج، تصل نسبة المتصلين بالإنترنت إلى أكثر من 90 من كل 100 شخص، بينما تقل النسبة إلى أقل من 10 من كل 100 شخص في الهند والكونغو وإندونيسيا.
التعليم عن بعد قديم بل وقديم جدًا، فقد عرف التعليم عبر الصحف، والإذاعة، والتلفزيون، والتعليم بالمراسلة، منذ فترة طويلة، وفي القرن الجديد ظهر التعليم عبر شبكة الإنترنت، لكن أحد أهم عيوب التعلم عن بعد، هو غياب التفاعل الشخصي المباشر بين المعلم والطالب، كما أن ضعف ومحدودية الوصول إلى الأجهزة للتعلم عبر الإنترنت، خاصة في المناطق الريفية والحضرية البعيدة، بالإضافة إلى نقص التمويل العام للتعلم عن بعد، تشكل تحديات كبرى، خصوصًا بعد أن تحول معظم الطلاب في العالم إلى التعليم من المنزل. لم يعد البيت مكانًا للنوم والراحة واللعب، بل أصبح أيضًا مكانًا للتعلم، فهل المنزل هو البديل المناسب للمدرسة والجامعة؟ وهل يحل التعليم عن بعد محل التعليم المباشر في المدارس والجامعات؟.
طوال التاريخ، كانت الأسرة -ولا تزال- عنصرًا أساسيًا في تعليم الأبناء، حيث يساعد الوالدان في تعليم أطفالهم مبادئ الرياضيات، عن طريق مسائل بسيطة تتطلب العد على الأصابع، أو أن يأخذونهم في رحلات إلى الحدائق والمتاحف والمواقع الأثرية لإلقاء الضوء على دروس التاريخ والتاريخ الطبيعي. من المحتمل أن يكون التعليم عن بعد مفيدًا في بعض الحالات، وفعالًا في بعض الحالات، لذلك قد ينظر إلى التوسع في استخدامه نظرة إيجابية، لكن دوره يظل مكملاً للدور الرئيسي الذي تضطلع به المدرسة. يمكن للمنزل- في أفضل الأحوال- أن يكون مكانًا بديلًا لتلقي المحاضرات عبر الإنترنت أو الإذاعة أو التلفزيون، إلا أنه لا يمكن أن يكون بديلًا عن المختبرات والورش، خصوصًا في مدارس التعليم الفني والمهني وفي الكليات العملية، ككليات الطب والهندسة والعلوم والزراعة وغيرها.
وتعكس طرق التعليم عن بعد، سواء في ذلك التعليم المنزلي، عبر الإذاعة أو التليفزيون أو الإنترنت، اختلافات وتفاوتات اجتماعية كبيرة بين الأسر، وفيما يمكن أن يقدمونه من مساعدة لأطفالهم على التعلم، فليست كل الأسر سواء في التعليم والقدرة المالية والوقت المتاح للتدريس، ولا تتمتع جميع الأسر بنفس القدرة على الوصول إلى المواد التعليمية بلغة مناسبة عبر الإنترنت، ما يفضي إلى تفاقم عدم المساواة.
قد تتمكن بعض الأسر من تعليم أطفالها في المنزل، لكن هذا التعليم النظري لا يكفي، ولا يمكن تعميمه على الجميع، لذلك، لا يتوقع أن يحل التعليم عن بعد- أو عبر الإنترنت- محل المدرسة في وقت قريب؛ وسيظل للمدرسة الدور الرئيسي في التعليم حتى لو كان عبر الإنترنت.
وعلى الرغم من توقع زيادة نسب الوصول إلى الإنترنت في الفترة المقبلة، لن تستطيع تكنولوجيا التعليم أن تحل محل أنماط وطرق التعليم التقليدية في المدى المنظور، لذا يتوجب على الحكومات توخي الحذر لأن زيادة الإنفاق على تكنولوجيا التعليم سيفاقم من عدم المساواة ويلحق ضررًا أكبر بالطلاب الفقراء والأشد فقرًا.
ومع أن إغلاق المدارس والجامعات بسبب كورونا يعتبر تدبيرًا مؤقتًا، إلا أنه يتوقع أن يكون له أثارًا مضاعفة وطويلة المدى على تنمية رأس المال البشري، خصوصًا في الدول التي تزيد فيها نسبة الأطفال والشباب من إجمالي عدد السكان، والسبب الأول هو زيادة عدد المتسربين من المدارس، فطبقًا لدراسة لمعهد بروكينجز الأمريكي، فإن الأطفال الذين يتعطل تعليمهم، بسبب الظروف الطارئة كالحروب والأوبئة، قد يفقدون فرص الاستفادة من المزايا الاقتصادية وتحقيق الأرباح في المستقبل. وتدعم البيانات الخاصة بإغلاق المدارس خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها هذا الاستنتاج، حيث أثر الإغلاق تأثيرًا سلبيًا لمدة 40 عامًا بعد الحرب، وباستخدام نفس النموذج المتبع في تقدير تكلفة إغلاق المدارس خلال الحرب الثانية، يقدر الباحثون، أن العالم قد يخسر ما يصل إلى 10 تريليونات دولار أمريكي من الأرباح في المستقبل بسبب خسائر التعلم جراء أزمة كورونا.
السبب الثاني هو لجوء الحكومات، خصوصًا في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، إلى تحويل الأموال من قطاع التعليم إلى قطاعات أخرى، مثل الصحة أو دعم المشروعات الصناعية والتجارية أو الضمان الاجتماعي، ويؤثر هذا التحويل، إلى جانب انخفاض الإيرادات العامة وزيادة العجز المالي، على استثمارات الدولة في التعليم وفي البنية الأساسية ذات الصلة. من المرجح أن تؤدي الأزمة الاقتصادية المصاحبة للجائحة إلى انكماش اقتصادات كثير من الدول في الفترة المقبلة، وبينما تختار العديد من الدول مواصلة الإنفاق على التعليم بمستويات ما قبل الجائحة، قد يؤدي انخفاض الناتج المحلي الإجمالي إلى تقليص الموازنات الوطنية و تخفيض الإنفاق على التعليم في بعض البلدان، هذا التخفيض سيؤثر على توافر الخدمات الأساسية والتعليم المجاني ورواتب المدرسين وأعدادهم وتمويل مشروعات البحث والتطوير، خصوصًا في القطاع الخاص. وفي حال إقرار بعض الدول لتخفيضات في موازنة التعليم، فإن العائلات الغنية وحدها، هي من ستتمكن من تمويل وسائل التعليم الأخرى، ومنها الدروس الخصوصية، في حين لن تتمكن الأسر الفقيرة والمتوسطة الدنيا بسهولة من سد هذه الفجوة.
وما يزيد الأمر سوء هو وجود دليل قاطع على أن تعطيل التعليم بسبب كوفيد-19 سيكون له تأثيرات تتجاوز مجرد الخسائر الاقتصادية على بعض الفئات، فوفقًا لنتائج مبادرة الأمم المتحدة “التعليم لا يمكن أن ينتظر”، يؤدي تعطيل التعليم إلى تراجع مستوى تعليم الأطفال الأكثر ضعفًا، والذين لم يكن تعليمهم جيدًا من الأساس، والذين غالبًا ما ينحدرون من خلفيات اجتماعية واقتصادية فقيرة أو من الأقليات، وتعاني الطالبات من هذه الآثار بشكل أكثر حدة، فهن أكثر عرضة للتسرب من التعليم، والزواج والحمل المبكر، والعنف الأسري والجنسي، لذلك ينبغي أن تراعي سياسات التعليم النوع الاجتماعي خصوصا تعليم الإناث.
بالإضافة إلى الطالبات، يعتبر الطلاب، الذين ينتمون إلى الأقليات العرقية واللاجئين والشباب المهاجرين والأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، أكثر عرضة للتأثيرات السلبية للجائحة، فالمدرسة بالنسبة للفقراء جدًا والمهمشين ليست مكانا لتوفير التعليم فحسب، بل توفر أيضًا الوجبات الغذائية اليومية والتطعيمات والدعم النفسي والاجتماعي.
وحسب برنامج الأغذية العالمي واليونيسيف، أدى إغلاق المدارس بسبب كورونا إلى حرمان نحو 370 مليون طفل من وجباتهم المدرسية، لا سيما في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ويؤكد المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ضرورة العمل الفوري لمنع تحول الجائحة إلى مجاعة لملايين الأطفال في العالم، حيث تمثل الوجبة التي يتناولونها في المدرسة، الوجبة الوحيدة التي يحصلون عليها طوال اليوم، وبدونها يتعرضون للجوع وخطر الأمراض.
من الضروري حماية ميزانية التعليم، بل وزيادتها، لمواجهة الآثار الوخيمة لجائحة كورونا، وينبغي توفير الدعم للمدارس التي تحتاج إلى تمويل إضافي لمساعدة الطلاب الأكثر ضعفًا، وتوفير التمويل والبنية الأساسية للمدارس التي تقدم التعليم عن بعد، خصوصًا في المناطق الفقيرة والفقيرة جدًا، وقد يتطلب الأمر تنفيذ برامج للحوافز والمنح الدراسية من أجل تشجيع الطلاب على مواصلة الدراسة. لن تكون برامج التعافي من الأزمة مجدية دون توفير دعم مالي كبير، في المملكة المتحدة مثلا، أعلن تأسيس صندوق لدعم التعليم بقيمة مليار جنيه إسترليني، يتضمن برنامج الصندوق بندا للدروس الخصوصية وبرنامج التدريس الوطني بميزانية قدرها 76 مليون جنيه إسترليني، ومن المتوقع أن تكون هناك حاجة إلى مخصصات أكبر في الموازنة للعودة إلى مستويات التعلم السابقة.
علينا أن نتعلم من هذه التجربة لنكون أكثر استعدادًا لمواجهة الأزمات في المستقبل، ومن أجل هذا الهدف تحتاج الدول إلى: تصميم وإتاحة نماذج مختلطة من التعليم، وأن تكون المدارس جاهزة دائمًا للتبديل بين التعلم وجهًا لوجه، والتعلم عن بُعد حسب الحاجة، وأن يكون المعلمون مستعدين دائما لإدارة شبكة واسعة من أجهزة تكنولوجيا المعلومات في حال الإغلاق، وتطوير مناهج مرنة بحيث يمكن تدريسها وجهًا لوجه أو عبر الإنترنت. وعلى الرغم من أن عملية بناء منظومة جديدة كفؤة وعادلة للتعليم هي عملية طويلة الأجل، إلا أن دولًا عدة أصدرت لوائح وقوانين للتعليم عن بعد، وتتواصل الجهود في كثير من الدول لتوسيع شبكة المدارس والجامعات المتصلة بالإنترنت. إن إعادة بناء منظومة للتعليم بشكل أفضل يتطلب عملًا جريئًا ورؤية متبصرة لنوع رأس المال البشري الذي تحتاجه البلاد لتنمو وتزدهر.