بينما تنتج دول متوسطة الدخل مثل تركيا ما يتجاوز 60 ألف عنوان في 580 مليون نسخة كتاب عام 2018، لا تطبع مصر أكبر الدول العربية سُكّانا، وانتاجا ثقافيا، سوى ما يقارب عشرة آلاف كتاب سنويا، فيما لاتتجاوز عدد النسخ التي تطبعها الجهات الرسمية ممثلة في الهيئة المصرية العامة للكتاب، حاجز المليون نسخة.

ومع كل معرض للكتاب تظل الشكوى العامة من ارتفاع أسعار الكتاب. وتخطيه للقدرة الشرائية لدى الجمهور المصري. وعاما بعد عام تتسع الفجوة. ليصبح اقتناء الكتاب خاصة الورقي حلما بعيد المنال عن المواطن العادي. فيما تعاني دور النشر من جانبها من تراجع المبيعات، وتناقص عدد العناوين.

وسط كل هذا تتعدد المعارك حول الكتاب ما بين طنطنات “شعب لا يقرأ”، وتحليلات ترجع الأزمة لأسباب أخلاقية مثل طمع الناشرين في تحقيق أرباح مبالغ فيها، أو استغلال المبدعين من الكتاب والمترجمين بشراء خدماتهم بأسعار منخفضة. أو حتى إجبارهم على الدفع مقابل النشر. وكلها إشكاليات قائمة بالفعل، ولكنها لاترتقي لأن تكون السبب الرئيس، والأهم ما مدى التأثير على الفرد المصري؟

الخبز في مقابل سعر الكتاب

في عام 2019 أعلن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء. عن انخفاض إنفاق المصريين على بند الثقافة والترفيه. وأشار الجهاز فى تقريره “نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك و خريطة الفقر لعام 2017/2018”. إلى أن أقل نسبة إنفاق للأسرة المصرية، على الثقافة والترفيه تصل إلى 2.1%. فى الوقت الذى كان ينفق المصريون على الرياضة والثقافة والترفيه 5.6 مليار جنيه عام 2002 وفقا لتقرير الجهاز سابقا.

التقرير استند إلى بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك، ورغم تأكيده ارتفاع الإنفاق على الطعام والغذاء والشراب. إلا أنه فى الوقت نفسه يؤكد أن دخل المصريين لم يعد به فائض. وبات حد الكفاف وما تبقى ينفق على التعليم واحتياجات المدارس.

وخلال أزمة كورونا تراوحت نسب الفقر بين الـ 29%، و 32%. وهي النسب التي يشكك فيها بعض الاقتصاديين. حيث إنها لا تعني بمستوى التضخم، ونسب الإنفاق بالنسبة للدخل، وكذلك التسرب من التعليم.  فيقر أغلبهم بأن الأمر على الأرض قد يكون أكثر سوءا.

ومع ذلك تدق مثل هذه التقارير ناقوس الخطر حول تكلفة الوعي. والثقافة، ذات التكلفة العالية، وبطبيعة الحال ستضطر الأسرة استبدال شراء قصة أو كتاب، برغيف خبز، بعد أن أصبح أمرا مرهقا ومكلفا ماديا.

اتفق أصحاب دور النشر على حقيقة أسعار الكتاب التي صعدت بجنون. ووصلت إلى الضعف خلال سنوات قليلة، في ظل تكلفة تقع عليهم خارج السيطرة، في حين لا يتوفر أي دعم ممكن من أي جهة رسمية.

اتفق أصحاب دور النشر على حقيقة أسعار الكتاب التي صعدت بجنون. ووصلت إلى الضعف خلال سنوات قليلة، في ظل تكلفة تقع عليهم خارج السيطرة، في حين لا يتوفر أي دعم ممكن من أي جهة رسمية.

تعويم الجنيه

ربما تعد واقعة تعويم الجنيه كلمة السر للتأريخ في الحياة المصرية الاقتصادية بشكل عام. والكتاب كسلعة بشكل خاص. مدير نشر دار صفصافة محمد البعلي يعتبر أن الأزمة نتاج الموجة التضخمية الكبيرة التي ضربت مصر في 2016.

فمن ناحية يمثل المكون الأجنبي في سلعة الكتاب نسبة لايستهان بها. ومن ناحية أخرى ضربت التكاليف الثابتة لدور النشر في أضعاف.

بعلي لفت إلى أن سعر الورق الذي يبلغ 1000 دولار للطن لم يتغير. إنما الخلل الحاصل يكمن في أسعار صرف الجنيه الذي تسبب في تغير الأسعار في أكتوبر 2016 إلى ديسمبر من العام نفسه من 8 آلاف جنيه، إلى 18 ألف على التوالي، وخلال الوقت الحالي أصبح الورق يوازي مايقارب 15 ألف جنيه مصري.

أما مديرة نشر دار “هن” هند سالم فتعرج على ارتفاع أسعار الورق الكوشية المستورد بنسبة 20%. وتعتبره أحد أسباب هذا الجنون، والمبالغة في الأسعار. ولكنها في الوقت نفسه تنبه أن الدور أيضا تعاني من غياب الدعم الرسمي، والوقوع في الأزمة حتمي، كما أن الاستجابة لقدرات القراء المالية أصبح يفوق قدراتهم.

20% زيادة في الأسعار سنويا

تقول هند زادت تكلفة الكتاب من عام 2017 إلى الزمن الحالي ما يوازي 120%. وفي كل عام تزيد الأسعار من 15 إلى 20%. معقبة “الأمر أصبح خارج السيطرة. وانهيار المبيعات خلال المعرض مثلا بنسبة تتخطى الـ 50% خاصة في ظل التدابير الاحترازية”

وتنفي هند تماما أسطورة أن المصريين لايقرؤوا. وربط نسب المبيعات، بالقراءة. فهناك نسب يجب وضعها بالاعتبار من النسخ المزيفة، وكذلك الافتراضية، والتي انتشرت عبر الفضاء السيبراني.

أما صاحبة دور نشر العين فاطمة البودي فترى أن للكتاب حسبة اقتصادية رغم ارتفاع قيمته المعنوية. فيتم التعامل معه كسلعة بالأساس، يدخل فيها ايجار الدار نفسها، وبند المرتبات، والخدمات بشكل ثابت، إلى جانب تكلفة السلعة نفسها من غلاف، وتحرير، وتصحيح، او حتى أسعار الورق، والطباعة، مستطردة “فالأمر أعقد من مجرد وعظ أخلاقي وجشع دور النشر”.

البودي لفتت إلى بطء دورة رأس المال في سلعة الكتاب، وقالت “ليس في مصلحتنا رفع سعر الكتاب، ولكن ما باليد حيلة ففي ظل التعويم أصبح الكتاب سلعة شديدة التكلفة، إلى الحد الذي دفع الكثير من الدور إلى الإغلاق”.

السياسات النيوليبرالية”اللي معهوش ميلزموش”

من جانب آخر يقر بعلي بأن للأمر جذور أعمق ترتبط بالسياسات النيوليبرالية الاقتصادية التي ترجع إلى ما قبل ثورة يناير. وتقوم على أساس مبدأ “اللي معهوش ميلزموش”. التي بدورها تتعامل مع الكتاب كسلعة ترفيهية، لاتسعى لنشره أو دعمه، بقدر ما تحاول السيطرة عليه..

يؤكد بعلي أن المؤسسات الثقافية الرسمية في الأنظمة النيوليبرالية بدول العالم الثالث في اغلبها، تهدف فقط إلى إحكام سيطرتها على رؤى المجال الثقافي، وتوحيد الخطاب، لا تطويره، عبر الدعم والتشجيع.

بعلي يرى أن الأمر بحاجة إلى استراتيجية رسمية كاملة تستجيب للحاجات الجماهيري.، تسعى للاستثمار في بناء الإنسان بشكل عام. التي تعد الثقافة أحد أهم أركانها، عبر توفير الدعم الكامل لها.

مطالبات بدور أكبر للدولة في نشر ثقافة القراءة
مطالبات بدور أكبر للدولة في نشر ثقافة القراءة

تلك الاستراتيجية التي يجب أن تميزها العدالة في التوزيع، وجعل الكتب كأحد الروافد الثقافية متاحة للجميع، وفي حدود قدرات الناس، عبر دعم المكتبات العامة، ومكتبة المدرسة، والجامعة، مستطردا “أن يكون الكتاب خيارا استراتيجيا لا مجرد ملكية فردية يحوزها المواطن القادر على الشراء، ويحتفظ بها لنفسه في المنزل”.

وهي الفكرة التي وافقتها فاطمة البودي،  وبدورها ترى أن اتاحة الكتاب للمواطن العادي، مسؤولية الدولة بالأساس عبر مكاتبها العامة، فمن ناحية تؤكد ضرورة زيادة عدد المكتبات، ومن جانب آخر تؤكد على ضرورة إمداد هذه المنشآت بكل ماهو جديد وخلاق في عالم الكتب من عناوين متنوعة.

أما هند سالم فتؤكد ضرورة دعم دور النشر، وضرورة تدخل المجتمع المدني، وممثلي اتحاد الناشرين، للضغط في اتجاه تدخل الجهات الرسمية، وإنقاذ سوق الكتاب من أزماته، مسترجعة تجارب سابقة مثل مشروع مكتبة الأسرة، الذي ساهم في إنعاش سوق الكتاب برمته.

الوسائط الرقمية هل تخفض من أسعار الكتب؟

حول الكتاب الرقمي ودرجة مساهمته في انخفاض تكلفة الكتاب، تشير هند سالم إلى أن التحول الرقمي قادم بلاشك ولكن الأمر بالنسبة للقارئ العربي سوف يستغرق وقتا، نتيجة عوامل عدة منها العامل النفسي على سبيل المثال، ولكنها في الوقت نفسه لاتحل الأزمة برمتها، حيث إن أغلب هذه الكتب قد سبق وتم طبعها، كذلك تستمر التكلفة الثابتة، وغلاء الأسعار الموغل في الارتفاع. فيما يرى محمد بعلي أن الأمر سيستغرق سنوات، فما زال القراء يعتزون بالكتب الورقية، مشيرا إلى أن الأمر قد يسبب تراجع في أسعار الكتاب.

الوسائط الرقمية
الوسائط الرقمية

ولكن بعلي أكد في الوقت نفسه إلى أن تكاليف عدة لازالت تلوح في الأفق يتحملها الكتاب كسلعة منها على سبيل المثال بالنسبة للترجمات، والتي يقوم عليها جزء كبير من إنتاج داره، حقوق الكتاب ومتوسطها 10 آلاف جنيه، والمقابل المادي للترجمة ومتوسطه عشرين ألف جنيه، إلى جانب تكلفة الغلاف، والتكاليف الثابتة لدار النشر..