كأنه يريد الهرب، كان فَرْع شجرة الجوافة المزروعة بحديقة القصر يتجاوز الحاجِز الفاصل بين القصر و المَدْرَسة الذي لا يزيد في إرتفاعِهِ عن المترين فيميل في فضاء “الحُوش” حامِلًا ثمارًا نَضَج قليل منها و كثيرٌ لم يَفعل. لم نَكُن أنا أو صديقي “أشرف صفي الدين” نعلم علي وجه الدقة ما إذا كان هذا الحاجز هو سُورُ المَدْرَسَة أم سُورُ القصر، كان مُجردُ قطعة إسمنتية ذات وجهين يمتَدُ أحدهما بِعُمقِ جانب المدرسة الأيمن للداخِل من بابها الحديدي العَتيق ذو الزخارف العجيبة المُحَبَبة كَلَوحَةٍ فَنيةٍ بينما يمتد الوجهه الآخر مُحيطًا بجانب حديقة القصر الأيسرِ.
قيل لنا أن المَدْرَسَة ذاتها كانت قصرًا تبرع به صاحبه للحكومة منذ زمن بعيد و أظن أن ما قيل لنا كان صحيحًا فقد كان باب المَدْرَسَة الحديدي يفتح علي ممر رَمْلِيٍ قصير يشق حديقة الزهور قاسِمًا إياها إلى نصفين لينتهي بالسُلم الرخامي الصاعد لمبنى المَدْرَسَة العجوز في المواجَهَة ثم يمتد قُبَيلَ السُلَم بخطوات في مسارين فرعيين يحيطان بالمبني من اليمين إلى جانب السور الملاصق للقصر المجاور و إلى اليسار حيث السور الآخر المُتاخِم لجراج أوتوبيسات هيئة النقل العام فيما يُشبِه الحِزَام واصِلًا مدخل المدرسةِ بالحُوش الواقع خلف المبنى حيث الطابور و لَعب الكرة و فَرْعِ شجرة الجوافة المائل دومًا نحونا.
كان السُلَمُ الرُخامي المُكَوَن من عشرِ درجاتٍ عالياتٍ ينتهي بمدخلٍ وسيع لباب المبنى مُرتَفِعِ السقوف، في الطابق الأرضي فصولُ ثلاثُ إلى اليمين و مِثلهن إلي اليسار و بينها غرفة “أبلة الناظرة” في المنتصف و على جانبيها غرفتي “أبلة الوكيلة” و “السكرتير” ثم حَمَّام كبير، لم أكن أعلم ما هو عمل الوكيلة و لا السكرتير و لكن “أشرف” كان يجتهد: “الوكيلة “بتِغَلِسْ” علينا و السكرتير “بيِغَلِسْ” على أهالينا”.
هكذا كان “أشرف” يأتِني بالخَبَر اليقين، تحت غرفة “أبلة الناظرة” بالضبط كان يقع مخزن كبير للكتب له مدخل مُغلَقٌ بابه علي الدوام بِقِفلٍ كبير لا يفارق مِفتاحَهُ جيب “عم سعيد” الفَرَّاش، كان تقسيم الطابق العُلوي نُسخَة مُكَرَرَةُ من شقيقه السفلي، غرفة المدرسين في الوسط و غرفة الموسيقى إلى يمينها و غرفة الرسم إلى اليسار ثم حَمَّام.
كان السُور الأيمن الحاجز بين المَدرَسة و القصر هو المُفَضَلُ لي و “لأشرف” حيث الجوافة كنزنا الأثير و الشخبطات التي إعتدنا أن نَخُطُها بطباشير الجبس الملونة لطائراتٍ و دباباتٍ و مدافعٍ و جنودٍ يغرسون “السَنَاكي” في صدور الأعداء الذين كانوا جَميعًا عُورٌ بِعَينٍ واحدة ككبيرهم. كُنا بعدما نَفرُغُ من شخبطاتنا الصباحية ننتظم في طابور تَعَلمنا فيه نحن أصحاب “المَرايل” البيج و الحقائب الجلدية متوسطة الحال و أحذية “باتا” معنى صَفَا و انتباه و “الله أكبر فوق كيد المعتدي، و الله للمظلوم خَيرُ مُؤَيِدِ، أنا باليَقينِ و بالسلاحٍ سأفتدي، بَلَدي و نورُ الحَقِ يسطَعُ في يدي، قولوا معي، قولوا معي، الله الله الله أَكبر، الله فوقَ المُعتَدي”، كنا بعد ذلك نصعد إلى الفصول بخطوات هادرةٍ في انتظامٍ جَادٍ يليقُ بِرِجَال ذاهبون إلى معرَكَةٍ حربية.
كانت صورة الرجل الكبير بأنفِهِ المَعقُوف و فَودَيهِ الأبيَضَين ثابتةً لا يتبدل مكانِها القَصي في أعلي السبورة السوداء بفَصْلِنا حتى لو إنحرفت قليلًا فَمَالت لسبب أو لآخر، كذلك كانت ثابتةٌ نظرة عينيه، كانت بها روحٌ مَا أُحِسُها، نَبضٌ مَا أسمَعُهُ بدِقَة، و كذلك كانت إبتسامته العريضة للغاية التي تراوحت مشاعري إزاءها بين الرهبة و الحب، كنت أشعر حين أُدَقِقُ في عينينه والابتسامة أنه رغم عِلمِهِ بخوفنا منه إلا أنه يشجعنا علي ما نفعل في الفُسحة أنا و “أشرف”، كُنا نُعيد توزيع الثروة كَقَولِهِ الذي وَرَدَ بكتاب التربية القومية، هو سعيدٌ إذن بما نَفعل.
في الفُسحة كنا نَنتقي أفضل أنواع الطوب لكننا لم نُفلِح إلا قليلًا في الإيقاع بواحدة من الثمارِ التي تتدلي في خَدَرٍ نَحونا إلى أن أتى “أشرف” ذات يوم “بالنِبلَة”، اختراعٌ عَجيب كَلَفَهُ بضعُ قروش لكنه كان ناجِعًا، كنا نحتاج إلى تدريب لإستخدامه بأعلى كفاءةٍ ممكنةٍ و قد فعلنا بعد أيامٍ قليلة، أتقن كل منا التصويب و كان لنا ما أردنا، وَضَعنا “خطة اصطياد الجوافة” و شَرَعنا فورًا بتنفيذها، كنا أنا و “أشرف” نتلكأُ قليلاً في نهاية الفسحة فلا نذهب للفصل إلا بعدما يُدَقُ الجرس. و في تلك الدقائق المعدودة بين صعود أغلب زملائنا إلى الفصول و بين اللحاق بهم كُنا نَفعَلُها، خضراءٌ تَميلُ إلى الصُفْرَة وصَلْبةٌ كَحَجَرٍ كَانت الثمار، ساعدتنا “النِبْلَة” كثيرًا في التصويب المُلائم نحو الجزء الواصل بين فرع الشجرة و الثمرة فإنخفض لدينا مُعَدَلُ الإخفاق في اصطيادها.
نصف قرن من الزمان مَضَى انمَحَت فيها شَخبطات السور و “المرايل” البيج و أحذية “باتا”، و صار “الله أكبر فوق كيد المُعتدي” تراثًا من الماضي، و بَقِيَت “خطة اصطياد الجوافة” تراودني كلما مَرَرت إلى جوار السُور.