قبل عشر سنوات ظنت بعض الشعوب العربية أنها على موعد مع الديمقراطية، ولكنها اكتشفت أنها كانت على مواعيد كثيرة لَيْس منها الوعد الديمقراطي.

بعض الشعوب انتقلت من الديكتاتورية إلى الفوضى، ثم إلى الحرب الأهلية، ثم إلى شبح التقسيم، ومازالت لم تعرف لنفسها مخرجاً قريباً مما هي فيه.

ثم بعض الشعوب انتقلت من ديكتاتوريات صلبة وفعالة إلى ديمقراطيات هشة وغير مثمرة.

وبعضها كان محظوظاً بحيث انتقل من ديكتاتورية مستقرة إلى ديكتاتورية طارئة وعابرة ومؤقتة لم تستمر أكثر من عام واحد عادت بعده إلى طبعة جديدة من الديكتاتورية المستقرة بدعوى الحفاظ على الدولة وتثبيتها في لحظة عاصفة وإقليم مضطرب وعالم متغير.

الحلم الديمقراطي كان أكبر من الواقع وأكبر من الإمكانات حتى لو كان قد بدا في لحظة معينة أنه حلم قريب المنال، وأن أحقاب الديكتاتورية استنفدت أغراضها وباتت عاجزة عن الاستمرار.

الآن، أتبين ويتبين غيري، أن البنية التحتية الديكتاتورية أكثر قوة مما كنّا نظن ونتحسب، ليس فقط في بنية السلطة وما تمثله من مصالح اجتماعية واقتصادية وإقليمية، ولكن كذلك في بنية العقل العام الذي مازالت الديمقراطية عنده سلعة ليس عليها طلب زائد ولا إقبال ملحوظ والبعض عازف عنها زاهد فيها حتى لو تم توصيلها إلى بيته بخدمة الديلفري.

مازالت الديمقراطية في مرتبة متأخرة على سلم الأولويات عند الجميع، البعض يقدم عليها الاستقرار ويخاف عليه منها، والبعض يقدم عليها خدمة الدين ويخاف عليه منها، والبعض يقدم عليها الخلافة الإسلامية أو الوحدة العربية أو التماسك الوطني ويخاف كل طرف على هدفه منها. والبعض يفضل عليها منطومة ما ورثه من تقاليد وثقافة وأعراف ويخاف على كل ذلك منها.

الديمقراطية كانت ومازالت على الهامش ذهنياً وروحياً وذوقياً وضميرياً ناهيك عن كونها كانت ومازالت يتم فهمها وتصويرها على أنه تقف على طرف النقيض من مصالح الفئات النافذة والطبقات المميزة سواء داخل جهاز الدولة أو في المجتمع، خاصة أن هذه الفئات والطبقات حصلت على مراكزها في الدولة والمجتمع وفي الوظائف والبزنس وفي المكانة والوجاهة والنفوذ في ظل الديكتاتوريات المستقرة المطمئنة.

بالقطع، مشاكل بلادنا كثيرة، وقد خضع أكثر عدة قرون للحكم العثماني، ثم خضعت عدة عقود للاستعمار الأوروبي، ثم خضعت العقود الأخيرة من تاريخها لحكم الديكتاتوريات الوطنية بعد حصولها على الاستقلال الوطني.

وبالقطع، هناك اختلاف مشروع حول موقع الديكتاتورية الوطنية ودورها التاريخي في رعاية التخلف وحراسته من منتصف القرن العشرين حتى خاتمة الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، وكذلك هناك اختلاف طبيعي حول موقع الديمقراطية من الرؤية العامة لكيفية الخروج من التخلف المزمن والمأزق المستحكم.

من وجهة نظري المتواضعة، فإن مشكلة بلادنا هي بالدرجة الأولى مشكلة سياسية، يعني مشكلة حُكم وقيادة وإدارة وتوجهات عامة وطريقة في حساب المصالح ورسم الأولويات وتخصيص الموارد وتوظيفها.

مشكلة بلادنا، بصياغة مبسطة موجزة هي: من يحكم، وكيف يصل إلى الحكم، وكم يبقى في الحكم، وكيف يمارس الحكم، وما الصلاحيات الممنوحة له في ممارسة الحكم، وما القيود المفروضة عليه في ممارسة الحكم، ولصالح من يحكم، وما نوع السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي يطبقها في الحكم، وما طبيعة العقد الاجتماعي الذي يرسم العلاقة بينه وبين عموم الشعب، وكيف يتعامل مع مجموع السلطات والمؤسسات سواء المنتخبة أو البيروقراطية، ومتى وكيف يخرج من الحكم، وكيف يسلم السلطة لمن يخلفه؟

اقرأ أيضا:

من 2010 إلى 2020.. سنوات الألم والبحث عن “الدولة الديمقراطية”

 

المشكلة أن بلادنا، رغم تفاوت المسميات بين ملكية وجمهورية، ورغم تفاوت مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي، كانت ومازالت تسمح للحاكم الفرد ملكاً كان أو رئيساً بقدر من السلطات يمكنه من أمرين: التخليد في السلطة مادام حياً حتى لو أدركته الشيخوخة المهلكة التي تعجزه عن القيام بأبسط أنشطة الكائنات الحية، ومع التخليد تسمح له بسلطات متطاولة لا تقف عند حد وليس في الإمكان تقييدها ولا وضع الأغلال على المدى الذي يمكن أن تذهب إليه.

تأقيت السلطة بدلاً من تخليدها وتأييدها إلي حد التأليه، ثم تقييدها بدلاً من إطلاقها وشمولها إلى حد الطغيان، هما الشرط الأساس ونقطة البدء لأي كلام جاد في الانتقال إلى الديمقراطية، وبدون توفر هذا الشرط الصلب سريعاً تنقلب الأحلام إلى كوابيس تفتك بالبشر والشجر والحجر أو في أحسن الأحوال تثمر ديمقراطية هشة أضحوكة توفر الكلام وتعحز عن تقديم الطعام، وتوفر التغيير لكن تضحي بالاستقرار والأمن، وتنقلب من النقيض إلى النقيض من الأحلام بلا سقوف إلى الإحباط بلا قيعان.

 

يمكن الحديث كثيراً ويكون أكثر الكلام صحيحاً جداً، حول دور الموروث الديني والثقافي والاجتماعي في صناعة التخلف الراهن، لكن تظل السياسة حكماً وقيادة وإدارة وتخصيصاً للموارد وتقديراً للمصالح وترتيباً للأولويات واختياراً أو استبعاداً للكفاءات تظل هي العنصر الحاكم لغيره من العناصر في منظومة صناعة التخلف الوطني والقومي علي كل صعيد.

بلادنا ليست استثناءً من الإنسانية ولا ينبغي أن تكون استثناء منها، وما ينطبق على غيرنا بالضرورة ينطبق علينا، ولا توجد أية خصوصية تبرر تخلفنا أو تحمي واقعنا المأزوم، أو تعفينا من لزوم الحكم الرشيد المسؤول أمام الشعب سواء كانت شعارات الحكم تحمل لفظ الديمقراطية أو لا تحملها، فكم من ديكتاتوريات حملت ألقاب الديمقراطية وأكثرت منها وأسرفت فيها.

أحب في خاتمة هذه المقالة الافتتاحية تأكيد: أن الديمقراطية لم تحكم في أي بلد عربي، ومن ثم فهي بريئة وغير مسؤولة عن الوضع المأساوي لهذا العالم، فكل ما حولك وما أنت فيه من مآس هو من صنع ديكتاتوريات وطنية وقومية وإسلامية حكمت العقود تلو العقود ومازالت تتشبث بمواقعها وتستأنف سيرها من جديد بعد الانقطاع الكهربائي المؤقت الذي حدث قبل عشر سنوات، فلم تكن في العراق أو سوريا أو اليمن أو ليبيا أو السودان أو تونس أي حكم ديمقراطي من قريب أو من بعيد مادي.

أعلم أن الديمقراطية أمامها طريق طويل أكثر مما يتوقع الكثيرون، لكن أعلم أنها الهدف المشروع الذي يمكن لكاتب مع غيره من المهتمين سواء من الكاتبين أو من عموم المواطنين أن يركز جهده فيه، وأن ينفق تفكيره حوله وأن يجتهد قدر ما يستطيع في وضعها على موقع متقدم من سلم الاهتمامات والأولويات.

والديمقراطية التي أعنيها وأقصدها ليست الصخب ولا الضجيج ولا الصوت العالي، إنما هي باختصار شديد : تمكين عموم المواطنين من اختيار الحكام بحرية، ونقدهم ومحاسبتهم ومعارضتهم بأمان، وعزلهم بالقانون والدستور عندما تقتضي المصلحة العامة عزلهم، وذلك في مجال عام مفتوح ومنضبط في الوقت ذاته، يمكن المواطنين من امتلاك الوطن وممارسة السيادة بما يعود عليهم بالارتقاء الأدبي والتقدم المادي والرضا النفسي والإحساس بجودة الحياة وجدارتها واستحقاقها.

اقرأ أيضا:

ثورات العالم الكبرى.. توقف الضجيج وبقاء الأثر

هذه الديمقراطية – في المنظور العملي – تعني أن تكون المواقع السياسية بالانتخاب النزيه، وأن تكون مواقع الإدارة التنفيذية بالكفاءة والمعايير، وأن تكون البيروقراطية في خدمة المصالح العامة ولا تكون خصماً منها وعبئاً عليها، وأن يكون القضاء مستقلاً تماماً، وأن تكون الصحافة وكافة أشكال التعبير حرة غير موجهة، وأن تكون الجامعات والبحث العلمي منارات مستقلة تماماً عن أي تحكم أو تدخل أو توجيه من خارجها، وأن يكون المواطن الفرد هو الغاية العملية من كل ذلك سواء في تعليمه أو علاجه أو توظيفه أو حمايةً إنسانيته وكرامته وتمكينه من تطوير آدميته وظروف معيشته.