ما زال عازف العود المتجوَّل مذهولاً من أثر هذه الكلمات الثلاث: مصالح الدولة العليا، فقدت قذفت به، ضد إرادته دون أدنى شك، إلى مجاهيل لا حصر لها، وتقلبات متسارعة، وظهر له بجلاء أنَّ بحثه المشروع عن وسيلة كي لا يقع في المحظور بعزفه وغنائه ما قد تفسره الدولة بأنَّه يُعرِّض مصالحها العليا للخطر، بحث شائك للغاية، لكنه مضطر، فالأمر متعلق في الأساس بـ”أكل العيش”، ولذلك سيواصل البحث عن سبل التعامل مع المادة الأولى من قانون رقم 430 لسنة 1955، التي تضعه في مواجهة مباشرة مع مصالح الدولة العليا؛ فنصها كالتالي: “تخضع للرقابة المصنفات السمعية والسمعية البصرية، سواء كان أداؤها مباشراً، أو كانت مثبتة، أو مسجلة على أشرطة، أو أسطوانات، أو أيِّ وسيلة من وسائل التقنية الأخرى، وذلك بقصد حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا”.
وللتذكير، مرة رابعة، فالتطرق للمصالح العليا للدولة متعلق فقط بالمصنفات الفنية، وبالتحديد القطعي، فإننا لن نقارب تلك المصالح إلا فيما يتعلق بالنصوص الدستورية والقوانين التي تنظّم عملية إنتاج وعرض المصنفات السمعية والسمعية البصرية، لكن الضرورة تحتم إطلاع العازف على التصور العام لهذا المفهوم النظري، وكيفية عمله في الواقع المصري يوم صدور القانون، وعبر كل تلك السنوات.
منذ صدر القانون تقلّب التعبير “الرسمي” العلني عن مصالح الدولة العليا، بوتيرة متسارعة، وعند تقديم تلخيص شديد الاجتزاء لهذه التقلبات سيبدو ذهول العازف مبررًا جدًا.
حين صدر القانون كان واضحًا أنّ مصالح الدولة العليا تحكمها عدة التزامات قانوينة صارمة: فهناك من ناحية حالة حرب ما زالت قائمة بين مصر وإسرائيل، والإطار الملزم لها هو اتفاقية الهدنة (1949) كأحد آثار حرب 1948، يضاف إليها “معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية” (1950)، ثم سياسة جديدة تستند من ناحية على رفض سياسات الأحلاف التي بدأت بالدعوة الأمريكية لإنشاء حلف عسكري يضم الدول العربية إلى جانب تركيا وباكستان وإيران لإكمال حلقة الحصار حول الاتحاد السوفيتي، والتي توجت بإعلان حلف بغداد (الحلف المركزي SENTO)، ومن ناحية أخرى، المشاركة في تأسيس حركة عدم الانحياز كنتيجة لمؤتمر باندونج، وفي هذا الإطار جاء دعم مصر، بصورة ظاهرة، لثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي.
وبعد عام من صدور القرار حدث تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي (إسرائيل وبريطانيا وفرنسا) على مصر، وتسارعت التحولات بعدها بصورة دراماتيكية لا حدود لها، بحيث أصبح مفهوم “مصالح الدولة العليا” سائلاً، وغير محدد بأية صورة، فقامت الوحدة بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة- 1958)، ثم وقع الانفصال (1961)، وتدخلت مصر عسكريًا لدعم الثورة اليمنية وقيام الجمهورية (1962)، ثم وقعت هزيمة 1967، واحتلت إسرائيل كامل شبه جزيرة سيناء (حوالي 6% من مساحة مصر).
مجرد تذكر هذه المحطات التاريخية، من غير التطرق لمضمونها، يعنى في أبسط تقييم أن مصالح الدولة العليا كانت تتقلب بإيقاع مذهل، بمتوسط تغير أقل من ثلاث سنوات، فهناك ثلاثة حروب، وتغير لمرتين في شكل الدولة. وبينما كانت تلك المصالح قد تأسست، عند الإعلان عن حضورها في قانون المصنفات الفنية، كحد قطعي بالنسبة لعازف العود المتجول، على قاعدة الدولة المستقلة التي استردت سيادتها على كامل ترابها، فإنها وجدت نفسها تفقد جزءًا مهمًا للغاية من تلك السيادة، وباتت القضية الرئيسية هي “إزالة آثار العدوان” عبر محدد سياسي “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، و”لاءات” مؤتمر القمة العربي في الخرطوم: “لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض”، مع الكيان الإسرائيلي قبل أن يعود الحق إلى أصحابه.
وبعد عشر سنوات ستنفرد مصر بقرار التخلي عن هذه الـ”لاءات” الثلاثة وتحدث القطيعة بينها وبين الغالبية العظمى من الدول العربية، وتصبح المعاهدة المصرية- الإسرائيلية (1979) حاكمة على كافة التزامات مصر التعاقدية الأخرى.
يبقى من هذا السرد التاريخي الغفل- أي الذي لا “يتورط” في تقيم تلك الأحداث- ذكر نص المادة الأولى من الباب الأول من الدستور المصري الدائم (1971)، المعنون “الدولة”: “جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي واشتراكي يقوم على تحالف الشعب العامل. والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على وحدتها الشاملة”.
وفي الدستور الحالي (المعدل في 2014) أصبح نص المادة الأولى: “جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها، نظامها جمهوري ديمقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون. الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي، تنتمي إلى القارة الإفريقية، وتعتز بامتدادها الآسيوي، وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية”.
ومن المهم، هنا، إبراز مدى التغيير بين الدستورين في المادة الأولى من الباب الأول، فإذا كان الحديث يجري على علاقة مفهوم مصالح الدولة العليا بعازف العود المتجول، فإنّ عليه أن يتتبع المتغييرات التي طالت هذا الباب بالتحديد، ثم البحث في تأثير هذه المتغيرات عليه، وفيما يتعلق بالمادة الأولى من الدستور فيهمنا أن ما جرى من تعديل على الفقرة الأخيرة طال الكلمتين الأخيريتين فأصبحتا “تكاملها ووحدتها”، وحذفت “واشتراكي يقوم على تحالف الشعب العامل”.
وهناك ملاحظة أخيرة فيما يتعلق بالسرد التاريخي الغفل، فمادة الإصدار في قانون الرقابة الذي أدخل “مصالح الدولة العليا” كحد قاطع لإجازة العمل الفني تنص على أنه “بعد الاطلاع على الإعلان الدستوري الصادر في 10 من فبراير سنة 1953، وعلى القرار الصادر في 17 من نوفمبر سنة 1954 بتخويل مجلس الوزراء سلطات رئيس الجمهورية، وعلى ما ارتآه مجلس الدولة، وبناء على ما عرضه وزير الإرشاد القومي”، وإذا ما عدنا لذلك الإعلان سنقرأ التالي: “إعلان دستوري من القائد العام للقوات المسلحة قائد ثورة الجيش: إنه رغبة في تثبيت قواعد الحكم أثناء فترة الانتقال، وتنظيم الحقوق والواجبات لجميع المواطنين، ولكي تنعم البلاد باستقرار شامل يتيح لها الإنتاج المثمر، والنهوض إلى المستوى الذي نرجوه لها جميعًا، فإني أعلن باسم الشعب، أن حكم البلاد في فترة الانتقال سيكون وفقا للأحكام الآتية”.
حضور “مصالح الدولة العليا” جاء في “فترة الانتقال”، وقد يكون خارج نطاق بحث عازف العود التطرق للإعلانات الدستورية التي سبقت إعلان 1953 الذي صدر قانون الرقابة في ظله
واضح، إذن، أن حضور “مصالح الدولة العليا” جاء في “فترة الانتقال”، وقد يكون خارج نطاق بحث عازف العود التطرق للإعلانات الدستورية التي سبقت إعلان 1953 الذي صدر قانون الرقابة في ظله، فقد أصدر مجلس قيادة الثورة منذ توليه حكم البلاد في 23 يوليو عدة وثائق دستورية لتنظيم العمل بالدولة المصرية، فقبل ذلك الإعلان صدرت ثلاثة إعلانات دستورية: ففي 10 ديسمبر 1952 صدر إعلان عن سقوط دستور 1923، وفي 17 يناير 1953 إعلان لتقرير حل الأحزاب السياسية، وفي 18 يونيو إعلان بسقوط الملكية وقيام الجمهورية. لكنه سيكون مهتمًا، بالطبع، بالإعلانات الدستورية التي أعقبت صدور قانون الرقابة (1955) وحتى إعلان الدستور الدائم (1971)، وعددها خمس، هي: دستور 1956 (المؤقت)، والذي لم يُعمل به إلا لعشرين شهرًا، حيث حل محله دستور 1958 (المؤقت) بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة، وما إن انفصلت سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في عام 1961 حتى صدر إعلان دستوري في 1962 تبعه دستور مؤقت آخر في 1964 ثم إعلان دستوري عام 1969.
هل يجب استكمال سرد المسار الدستوري، وتقلباته إذا ما أراد عازف العدو المتجول استكمال بحثه عن كيفية التعامل مع مصالح الدولة العليا؟.
قد تكون الإجابة بنعم نابعة من الرغبة في الوصول إلى تصور ما خلف هذه التقلبات كلها.
حرص واضعو دستور 1971، وحرص الرئيس أنور السادات بصفة خاصة، على إبراز صفة “الدائم” كدلالة على نهاية مرحلة “الإعلانات الدستورية، والدستور المؤقت”، وقد ظل بالفعل بعيدًا عن التعديل والتغيير، على الرغم من المطالبات المتكررة بتعديل بعض مواده، خاصة تلك المتعلقة بمواد انتخاب الرئيس، حتى جرى في عام 1980، تعديل بدا بالنسبة لعدد الكلمات والحروف التي أُدخلت على مواده، تعديلاً طفيفًا، فأُدخلت “ال” على كلمتي “مصدر رئيسي”، وأصبح نص المادة الثانية هكذا “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع” وبدلت كلمة مدتين بكلمة مدد فيما يتعلق بمدد تولى منصب رئيس الجمهورية. أما في الواقع، فإن الكثير من مواد الدستور لم يكن لها أي أثر حتى جرى تعديلها مرتين: 2005، 2007. ثم وقعت عدة إعلانات دستورية عقب ثورة 25 يناير 2011، بلغت خمسة تعديلات، ثم أُقر دستور جديد في 2012، أعقبه إعلان دستوري في 3 يوليو من العام الموالي، من قبل القائد العام للقوات المسلحة، عطل بموجبه العمل بالدستور الذي لم يكمل الشهور السبعة، وأخيرًا تم تعديل شامل على دستور 2012، في يناير 2014، أعقبه تعديل جزئ في 2018.
الصورة بدأت تتضح أمام عازف العود المتجوِّل؛ وإن كان يغلفها الكثير من الضبابية وعدم الوضوح، فالبيئة الدستورية والقانونية التي تستند إليها “مصالح الدولة العليا” متغيرة، مؤقتة، متقلبة، بوتيرة مذهلة في تسارعها
ها هي الصورة بدأت تتضح أمام عازف العود المتجوِّل؛ وإن كان يغلفها الكثير من الضبابية وعدم الوضوح، فالبيئة الدستورية والقانونية التي تستند إليها “مصالح الدولة العليا” متغيرة، مؤقتة، متقلبة، بوتيرة مذهلة في تسارعها، فأحيانًا يجرى التقلب من النقيض للنقيض خلال بضعة أشهر، ثم إن النصوص الدستورية الحاكمة للبيئة القانوينة تعارض الواقع، والواقع يقابلها بنفس السلوك.
هذا التعارض المتواصل يكون، في بعض القضايا والعلاقات والوقائع، صارخًا، بصورة فجة للغاية.
فهناك في نصوص الدساتير (الدائمة) تعارض لا حل له بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة، فموجب المادة الأولى من دستور 1971 تبدو الدولة المصرية وكأنها عرض مؤقت فـ”الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على وحدتها الشاملة”، وحتى مع التلطيف والحذر في الدستور الحالي (يعمل على تكاملها ووحدتها) يظل التعارض قائمًا، فالشعب المصري “جزء” يتوق إلى أن يلتئم مع باقي “الأجزاء”، وهذا الالتئام الذي يعمل على تحقيقه يعني نهاية الدولة “القُطِرية”، فهل يمكن أن يفهم عازف العود المتجوِّل من ذلك أن الغاية العليا التي يعمل عليها الشعب المصري هي الوحدة (الشاملة في نسخة 1971، والمبهمة في النسخة الحالية)، وحدة تعني نهاية الشكل القانوني الدولي للدولة نفسها؟.
قد يستغرب عازف العود المتجول من المسار الذي سار فيها وهو يبحث عن وسيلة للتعامل مع قانون الرقابة على المصنفات الفنية فيما يتصل بـ”المصالح العليا للدولة”، وهو إذ استكمل ذلك المسار يبدو أن الحيرة والذهول لم يفارقاه، بل زادت وطأتهما عليه، لكنه مجبر على المضي، فالأمر كما أعلن عنهبصورة مباشرة متعلق بـ”لقمة العيش”.
لمطالعة الأجزاء السابقة