نفذت مصلحة السجون المصرية، قبل أيام، حكم الإعدام على المتهم بقتل الكاهن المسيحي المعروف إعلاميًا بـ”كاهن المرج”. وأدين أحمد سعيد السنباطي بقتل الكاهن سمعان شحاتة رزق الله، في حي المرج.
واقعة “كاهن المرج”
وتعود الواقعة إلى 12 أكتوبر 2017، عندما طارد السنباطي، وهو يحمل “ساطورًا”، القمص سمعان ثم سدد له عدة ضربات، حتى فارق الحياة. وألقت الشرطة القبض على المتهم في اليوم نفسه. وأُحيل السنباطي إلى المحاكمة الجنائية العاجلة بتهمة القتل العمد، ومثل أمام المحكمة للمرة الأولى يوم 15 نوفمبر من العام نفسه.
وفي الجلسة نفسها، قررت المحكمة إحالة أوراق القضية إلى مفتي الجمهورية لاستشارته في إصدار حكم بإعدام المتهم. واستنفذ المتهم درجات التقاضي الثلاث حتى صدر حكم نهائي بالإعدام شنقًا جراء جريمته.
وينظر إلى تنفيذ حكم الإعدام في مسلم قتل قبطيًا على أنه “تحقيق العدالة وتطبيق القانون على الجميع كرمز للمواطنة والمساواة، ورفض لفكر راديكالي يقول بعدم تساوي دم المسلم بغير المسلم”.
وتتجسد المفارقة في الحكم الأخير، باعتباره تحوّلاً عن موقف سابق بخصوص جرائم وأحداث عنف قُتل فيها أقباط على يد مسلمين. لكنّها لم تصل إلى هذه الدرجات من العقوبة، أو ظلت في أروقة المحاكم لسنوات.
لكن هذه المساواة الأخيرة جاءت في غير محلها، كون الإعدام عقوبة مرفوضة إنسانيًا، وتصطدم مع روح التسامح في المسيحية. والتي تقدّم المحبة والتسامح على الانتقام، وتختار طرقًا أقل قسوة لتكفير الذوب والتوبة.
الموقف الديني
وفي 2018، أصدر الفاتيكان مرسومًا بإلغاء عقوبة الإعدام من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الخاص بالعقوبة. وتعد قرارات الفاتيكان ملزمة للكنائس الكاثوليكية التابعة لها، ومن بينها الكنيسة القبطية الكاثوليكية في مصر.
كما أن علماء الدين الإسلامي يرون إباحة عقوبة الإعدام في حالة القصاص، ولكن للضحية أو أسرته الحق في العفو. لذلك مثّلت روح المواطنة التي حضرت في القصاص من المسلم قاتل الكاهن القبطي، حالة جدلية.
مينا فؤاد: السواد الأعظم من قوانين الكنيسة ومعلموها الأوائل رفضوا حكم الإعدام رفضًا تامًا
يقول مينا فؤاد توفيق، مدرس بكلية اللاهوت الأسقفية، إن عقوبة الإعدام عبر التاريخ المسيحي كانت محل جدل بين اللاهوتيين. وتابع: “امبروسيوس أسقف ميلان يناهض تلك العقوبة، بينما معاصره أغسطينوس أيد العقوبة مبررًا أن الحاكم هو سيف في يد الله”.
لكن السواد الأعظم من قوانين الكنيسة ومعلموها الأوائل رفضوا حكم الإعدام رفضًا تامًا، وفق مينا فؤاد. الذي يرى ضرورة إلغاء تلك العقوبة، واستبدالها بالحبس المؤبد دون إمكانية إطلاق السراح.
المبدأ الروحي والإنساني
وأردف: “يقول البابا يوحنا بولس السادس في أحد رسائله عام 1998 “إن علامة الأمل هي الاعتراف المتزايد بأن كرامة الحياة البشرية يجب ألا تُنكر أبداً، حتى لأولئك الذين ارتكبوا خطأ. يمتلك المجتمع الحديث الأدوات اللازمة لحماية نفسه دون حرمان المجرمين من إمكانية التوبة”.
من الناحية الروحية والإنسانية، فإنّ عقوبة الإعدام تقضي على فرصة الشخص في إعادة النظر في حياته بمحبسه. ومن الناحية القانونية، فإنّها قد تشمل شخصًا بريئًا وحُكم عليه خطئًا، وفق مينا.
كمال زاخر: الموقف من عقوبة الإعدام يختلف من بلد لآخر باختلاف تكوينه الثقافي والاجتماعي. وكلما زاد الوعي الإنساني واحترام القانون، زاد رفض عقوبة الإعدام
أما المفكر كمال زاخر، فيشير إلى جزئية المواطنة والمساواة أمام القانون رغم اختلاف الانتماءات الشخصية. وذلك باعتبار أن “الحكم بالإعدام يوقع على شخص توافرت فيه موجبات العقوبة، بغض النظر عن ديانته. فلم يصدر الحكم بحق المدان بصفته الدينية، وإنما لأنه ارتكب جرمًا يستحق عليه العقوبة وفقاً للقانون الجنائي”.
اقرأ أيضًا: عقوبة الإعدام بين الحق في الحياة والتشدد في التنفيذ
ويضيف زاخر أن الموقف من عقوبة الإعدام يختلف من بلد لآخر باختلاف تكوينه الثقافي والاجتماعي. وكلما زاد الوعي الإنساني واحترام القانون، زاد رفض تلك العقوبة، وكلما سيطرت الانتماءات البدائية زاد التمسك بتلك العقوبة.
ويقول إن المسيحية “تنظم بالأساس العلاقة الرأسية بين الإنسان والله، وتنطلق منها لإنارة أرضية العلاقة بين الإنسان والإنسان. لكنها لا تضع قوانين مادية محددة لتنظيمها، وتترك هذا للمجتمع ينظمها”.
عقاب على أساس المواطنة
لكنه يرى أن تعطيل تنفيذ العقوبة في قتلة الأقباط من المسلمين محكوم بتوازنات سياسية غالبًا أو قناعات خارج دائرة القانون. كما يعتقد أن العقوبة مرتبطة بالوعي الإنساني والقانوني للمجتمع، وهو- برأيه- أمر غير متوفر حاليًا، لذلك فهو يرى أن “تظل العقوبة قائمة لتحقق أحد أهداف القانون وهو الردع لحين وصول المجتمع لحالة الوعي الإنساني”، على حد قوله.
الأمر نفسه يؤيده السياسي والبرلماني السابق جمال أسعد، الذي يقول إن القانون الذي يبيح الإعدام يطبق على أساس المواطنة (مسلمين ومسيحيين). ويشير إلى أن المسيحية لا تعرف عقوبة الإعدام من حيث المبدأ، ولكن لكل دولة قوانينها وتقاليدها .
الدولة المدنية
الباحث الحقوقي إسحق إبراهيم، يقول إن الدول حاليًا ليست دولاً دينية، وبالتالي فإنّ أساس بنائها التشريعي مدني. ولفت إلى أن معظم الدول المسيحية ألغت عقوبة الإعدام أو على أقل تقدير علقت تنفيذها. ويرى أنّ الغرض الأساسي من العقوبة هو تحقيق الردع وعدم تكرار الجريمة، وهو يتحقق بتطبيق القانون.
اقرأ أيضًا: السجن مدى الحياة بديل عقوبة الإعدام.. يكفى للردع؟
ويرى الباحث تامر فرج أن تحقيق المواطنة الكاملة أهم من الجدل المثار حول تطبيق عقوبة الإعدام. ويقول إن “المساواة أمام القانون هي الأهم بغص النظر عن الديانة أو العقيدة والعرق أو الوضع الاجتماعي”.
الفكر الراديكالي وثقافة التمييز
وسبب موقف فرج هو “وجود تمييز شديد ضد أهالي الضحايا الأقباط، حيث لا يتم تطبيق نفس العقوبة على الجناة”. ويقول: “أحيانا تطول مدة التقاضي لسنوات، وفي نهاية المطاف لا يتم الحكم بالإعدام. وهو نفس الحكم الذي كان سيطبق وفورًا على الجاني إذا انعكس الأمر وكان الجاني مسيحيًا والمجني عليه مسلمًا”.
الباحث تامر فرج: هناك أمثلة على التمييز باعتبار أن الحكام يتحاشون غضب المجتمع الإسلامي من تنفيذ العقوبة ضد مسلم قتل مسيحياً
ويشير إلى أن ثمة أمثلة على هذا التمييز، باعتبار أن الحكام يتحاشون غضب المجتمع الإسلامي من تنفيذ العقوبة ضد مسلم قتل مسيحياً. وذلك استنادًا على نصوص دينية من قبيل “لا يقتل مسلم بكافر”، فضلاً عن كون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
ويضرب أمثلة على ذلك بحوادث: “الخانكة، الكشح 1، الكشح 2، الزاوية الحمراء، أبوقرقاص”. وهي أعمال عنف أسفرت عن مقتل عدد من الأقباط على أيدي مسلمين.
“دم المسيحي مثل دم المسلم.. إهداره محرم”
ورغم ذلك، يعارض فرج الإعدام، باعتباره يخالف المسيحية، ومعظم دول الغرب التي نشأت على التقاليد المسيحية ألغت تلك العقوبة. ورأى أن العقاب بالحبس لفترات طويلة هي البديل الأمثل.
عضو لجنة التاريخ القبطي إسحق الباجوشي، يقول: “لا يوجد في المسيحية قتل ولا إعدام. والقاتل غير التائب لا يدخل ملكوت السموات”. ومن هنا يذهب للقول إن المساواة والمواطنة تقتضي القول إن “دم المسيحي مثل دم المسلم وإهداره محرم”.
الأمر نفسه يؤيده القس جاد الله نجيب راعي الكنيسة العربية في برايتون بإنجلترا. حيث يقول إن “الإعدام وسيلة قاسية تعني إنهاء حياة شخص موصوم بالجُرم”. وتابع: “الإعدام يصنف انتقامًا أكثر منه عقوبة، حتى وإن كان قانونا تسنه الدولة كوسيلة ردع لحماية المجتمع من الجرم المستشري”.
وعقوبة الإعدام تنتهك أهم حق من حقوق الإنسان الأساسية، وهو الحق في الحياة. وهي أقصى عقوبة بين العقوبات “القاسية واللاإنسانية والمهينة”، بحسب منظمة العفو الدولية.
وكشفت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي حول عقوبة الإعدام الصادر مؤخرًا أن عدد عمليات الإعدام المسجلة في مصر ازداد ثلاثة أضعاف في عام 2020. هذا الرقم جعلها في المرتبة الثالثة عالميا كأكثر الدول تنفيذاً لتلك العقوبة بعد الصين وإيران.
وتستند مناهضة عقوبة الإعدام إلى كون ذلك الحكم لا رجوع فيه ولا تدارك لأخطاء. لذلك ترى منظمة العفو الدولية أن عقوبة الإعدام تتسم بالتمييز. وتقول إنها عقوبة ليست وسيلة لردع المتهمين عن ارتكاب الجرائم الكبرى، ويمكن استبدالها بالسجن مدى الحياة.