على الرغم من منطقية وأحكام البيان المصري في جلسة الخميس الماضي لمجلس الأمن حول النزاع المصري السوداني مع إثيوبيا حول سدها العملاق على النيل الأزرق، وعلى الرغم من من وضوح البيان السوداني ومن إسهاب الرد الإثيوبي ثم بيانات مندوبي كل الدول دائمة العضوية في المجلس، فإن كل تلك البيانات، بما فيها البيان المصري والبيان الأمريكي وكذلك السوداني والإثيوبي، لم تجب عن أهم سؤال من وجهة نظري كمراقب، وكمواطن مصري، وهو مضمون تلك الـ 5% التي ذكر أكثر من مرة أنها سبب امتناع إثيوبيا عن توقيع المشروع الأمريكي لحل النزاع.

وهو المشروع الذي نعرف أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اقترحته وتولت صياغته بالكامل، والذي تسبب امتناع الإثيوبيين عن توقيعه في عقوبة مالية أمريكية على إثيوبيا، كما تسبب في صدور التصريح الشهير من ترامب مندهشا من تأخر مصر في تفجير ذلك السد.

 

جولة مفاوضات سابقة برعاية أمريكية
جولة مفاوضات سابقة برعاية أمريكية

وإذا كنا لا نعرف على وجه اليقين ماذا تحتويه تلك الـ 5%، فمن حق عقولنا علينا أن تصاب بأكبر قدر من الدهشة، بل والدوار كما قلنا في مقالنا السابق، إذ كيف لهذه النسبة الضئيلة من الخلافات أن تبقى على حالها قرابة العامين، حتى توشك أن تؤدي إلى نزاع مسلح، خاصة ونحن لا نعلم أيضا ما هو المقياس الذي استخدم في تحديد نسبة الاتفاق بـ 95%، ونسبة الخلاف بـ 5%، فهل كان المقياس مثلا عدد الكلمات أم عدد المواد أم عدد القضايا؟!

وبالطبع لن تزول هذه الدهشة إلا بافتراض أن الخلاف يدور حول موضوعات جوهرية. فما هي تلك الموضوعات التي لا تريد كل الأطراف الإفصاح عنها، حتى على منصة مجلس الأمن.

من المنطقي أن كل طرف يرى له مصلحة في عدم الافصاح، وبالطبع فهذه حسابات محترفين منغمسين في القضية بكل حذافيرها، فلا يهم هنا تقديرات الهواة  المثرثرين على الشبكات الاجتماعية، سواء في مصر أو في إثيوبيا أو السودان، لكن القول بعدم الأهمية لا يسري بالطبع على قلق الرأي العام المصري في مجمله، خاصة وأن التصريحات الرئاسية وكلمة وزير خارجيتنا في مجلس الأمن تؤكد كلها مشروعية هذا القلق.

يقال أيضا إن أكثر ما يقلق مصر حاليا هو الاتفاق علي قواعد ملزمة للتخزين والتصريف في سنوات الجفاف، ولكن هل هذا هو كل شئ

لقد قيل كثيرا إن أهم دواعي القلق المصري من مشروع السد الإثيوبي قد أزيلت بالاتفاق في جولات سابقة من المفاوضات، على أن تستغرق فترة ملء بحيرة السد 7 سنوات بدلا من 3 كما خططت إثيوبيا من قبل، وسواء اعتبر ذلك محض مرونة من أديس أبابا، أو فسر برضوخ الإثيوبيين لضرورات فنية وتمويلية، فإنه حقا تطور محمود، ويقال أيضا إن أكثر ما يقلق مصر حاليا هو الاتفاق على قواعد ملزمة للتخزين والتصريف في سنوات الجفاف، ولكن هل هذا هو كل شئ.

وبكلمات أوضح هل هذا هو مضمون تلك النسبة المقدرة بـ5% من الخلاف حول المشروع الأمريكي للحل، والذي فشلت جولتان لجيفري فيلتمان مبعوث الرئيس الأمريكي الجديد في تقريب وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا حوله؟

لعل تصريحا سبق انعقاد جلسة مجلس الأمن بأيام للسيد سامح شكري وزير خارجيتنا قال فيه إنه لا نية لمصر لدفع ثمن للمياه يلقي بصيصا من الضوء على هذه المساحة المعتمة، ولعل تصريحا سابقا للمتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية بنية بلاده لبيع المياه يلقي ضوءا مماثلا، وذلك على الرغم من أنه تراجع عنه، أو سحبه في اليوم التالي، إذ الأكثر منطقية في ضوء تصريح الوزير المصري هو الاعتقاد بأن الجانب الإثيوبي كان يطلق بالونة اختبار، أو يزرع الفكرة في الأذهان.

سد النهضة
سد النهضة

فإذا أضفنا إلى كل ذلك إقرار المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأمريكية بأن الصراع حول السد الاثيوبي له طابع جيوسياسي وليس فقط صراعا على الموارد وحقوق التنمية، فلابد أن ندخل الصراع الأمريكي الصيني الروسي ضمن مكونات الموقف المتأزم، خاصة إذا تذكرنا مشروعا أمريكيا قديما يعود إلى إدارة بيل كلينتون تحت مسمي القرن الأفريقي الكبير، كان يراهن على القادة الجدد في المنطقة الذين تزاملوا وتخرجوا في الجامعات الأمريكية، وهم قرنق في السودان وموسيفيني في أوغندا وزيناوي في إثيوبيا وأفورقي في إريتريا، على أن يكون هذا التحالف تحت الرعاية الأمريكية، وذلك بعد أن أخفقت خطة جورج بوش الأب في الهيمنة على المنطقة باحتلال الصومال تحت علم الأمم المتحذة.

بيل كيلنتون

كما لابد أن يلفت نظرنا بشدة الصمت الإسرائيلي المطبق فيما يتعلق بمشروع السد الإثيوبي، مع أن الأنظار تتجه أولا إلى إسرائيل عند أي حديث عن بيع مياه الهضبة الإثيوبية.

هل يعلم هؤلاء الثرثارون أن الكثيرين في العالم ومنهم مسئولون مصريون كبار راهنوا في ستينيات القرن الماضي على تفكك إثيوبيا بعد وفاة الإمبراطور  الطاعن في السن هيلاسلاسي؟ وهل بوسعنا الاقتناع بأن واشنطن التي تخطط للقرن الإفريقي الكبير ستسمح بتفكك إثيوبيا القائد الإقليمي للمشروع؟ وهل لن يكون لإسرائيل دور ومصلحة في بقاء وتقوية الدولة الإثيوبية؟

 

يبقى أن نقول بضع كلمات عن ثرثرة الهواة على الشبكات الاجتماعية وغيرها من المحافل والمنصات، فبعد توقف الحديث عن مشروعات ربط نهر الكونغو بالنيل، وعن عجز إثيوبيا عن إتمام مشروعها، وتمنيها أن تنسفه مصر بعد ثبوت خطره علي الإثيوبيين أنفسهم، لأنه عرضة دائما للانهيار لأسباب جيولوجية،  تحول الحديث الآن ليصبح عن قرب تفكك الدولة الاثيوبية، وعن خروج السد كله من الخدمة بعد سنوات قليلة بسبب الإطماء، ولكن هل يمكن لمصر الرهان وبناء موقفها التفاوضي على مثل هذه الاحتمالات، في مشكلة وجودية ضخمة كهذه؟

هل يعلم هؤلاء الثرثارون أن الكثيرون في العالم ومنهم مسئولون مصريون كبار راهنوا في ستينيات القرن الماضي على تفكك إثيوبيا بعد وفاة الإمبراطور  الطاعن في السن هيلاسلاسي،؟ وهل بوسعنا الاقتناع بأن واشنطن التي تخطط للقرن الإفريقي الكبير ستسمح بتفكك إثيوبيا القائد الإقليمي للمشروع؟ وهل لن يكون لإسرائيل دور ومصلحة في بقاء وتقوية الدولة الإثيوبية؟