قبل وفاته بنحو عامين لخص الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل أزمة الصحافة الورقية في مصر والتي كانت وضعت أقدامها على أول طريق الانهيار بأنها أزمة «عمق»، فالصحف المطبوعة وفقا لوجهة نظر الأستاذ سقطت في اختبار «الدقة والعمق»، وتأخرت في نقل الخبر ذلك أن الوسائط الجديدة من فضائيات ومواقع إلكترونية تملك من الأدوات من يجلعها أسبق في بث الأحداث صوت وصورة وحركة.

هيكل قال في خطاب نشرته جريدة «الشروق» عام 2104 بمناسبة مرور 5 سنوات على انطلاقها أن أحداث القلق التي مرت بها مصر منذ نهاية 2010 حتى تاريخ كتابته للخطاب تُمثل مواسم للإعلام، «أحوال القلق عادة تمثل مواسم (أو هل أقول موالد) للصحف بلا حدود، فليس أسوأ بالنسبة لها من أن يكون كل شىء هادئا على كل الميادين شرقية وغربية، فالهدوء بالنسبة للصحفى بطالة، والركود للصحف بوار».

لكنه يرى أن الموسم أو «المولد» لم يكن بالضبط للصحافة المكتوبة، «إنما كان وعده صادقا مع الفضائيات وعدساتها المصوبة، كأنها المدافع مستعدة للانطلاق والإطلاق بلمسة على زناد، فهى على الهواء طول الوقت (مباشرة) و(الآن) و(قبل قليل)».

ويشير هيكل إلى أن الصحافة الورقية المكتوبة في العالم كله أصبحت في مشكلة كبيرة، «حركة التقدم في وسائل الاتصال أصابتها بمستجدات لم يكن في مقدور الكلمة المطبوعة أن تتعامل معها لكن وسائل الاتصال الجديدة استطاعت أن تصل إلى الناس حتى في غرف نومهم، تعرض أمامهم وهم مازالوا في الفراش كل ما يجري في اوطانهم وفي عالمهم صوت وصورة وحركة».

ونتيجة لتقدم التقنيات في المنصات الإلكترونية، لم يعد الناس يشاهدون ويتابعون الأحداث، وإنما أصبحوا يعيشون فيها ومعها، في حين أن الصحافة الورقية لها حدود، أبرزها بحسب هيكل، مواعيد الطبع التي لا يمكن تجاوزها، «بينما الفضائيات مستمرة في التغطية حتى الفجر، ثم أن الإنترنت لا يعرف النوم لا بالليل ولا بالنهار».

الطاقة القرائية أي مجموع عدد مشترين الصحف والمجلات صباح كل يوم في مصر تراجعت من 3 ملايين مشتر للصحف في اليوم قبل أن يترك هيكل الأهرام في 1974، إلى مليون ونصف المليون لكل الصحف حينما كتب خطابه لـ«الشروق» في 2014.

 

هيكل

انحصرت الصحافة الورقية نتيجة لتلك المستجدات، والأرقام خير دليل، فالطاقة القرائية أي مجموع عدد مشترين الصحف والمجلات صباح كل يوم في مصر تراجعت من 3 ملايين مشتر للصحف في اليوم قبل أن يترك هيكل الأهرام في 1974، إلى مليون ونصف المليون لكل الصحف حينما كتب خطابه لـ«الشروق» في 2014.

الرقم الذي ذكره هيكل للطاقة القرائية للصحف المطبوعة في مصر انهار في السنوات الأخيرة فأرقام توزيع الجرائد والمجلات المصرية المطبوعة مجتمعة لا يتجاوز رقم الـ 300 ألف نسخة يوميا، وفقا لمصادر مطلعة على أرقام التوزيع، «هناك إصدار أسبوعي لا يوزع أكثر من 500 نسخة، وآخر يعمل به مئات الصحفيين والموظفين لا يصل إلى ألف نسخة في اليوم»، قالت المصادر.

وتساءل هيكل في خطابه المشار إليه: أين الخطأ إذن؟، ويجيب: «ربما أن الصحافة الورقية فى مصر لم تستطع أن تفعل ما فعلته صحف أمريكية – نيويورك تايمز مثلا- حين قدرت مبكرا أن الخبر هو المادة الأولية فى الصحيفة على تنوع مجالاته، ثم قدرت أن صحافة التليفزيون تستطيع أن تغطى شكل الخبر وسطحه بالصورة واللون والصوت والحركة لكنها لا تستطيع أن تنفذ إلى عمقه، لأن الكاميرا لا تستطيع أن تغوص فى هذا العمق، والقلم يستطيع».

هو العمق إذن بحسب الأستاذ، فالصحيفة التي تملك وقت أكبر نسبيا، خصوصا إذا دعمته الكفاءة تستطيع أن تصل إلى ما لا تصل إليه الكاميرا أو يصل إليه محرر الموقع الإلكتروني المشغول بالسرعة والسبق، فالعمق والدقة والتحليل والتعليق هي العناصر التي يمكن أن تسمح للصحيفة الورقية بمنافسة المنصات الأخرى.

الرجل الذي قضى نحو 7 عقود من حياته في كواليس ودهاليز مهنة الصحافة تغيرت فيها ظروف وأحوال سياسية ومهنية وتقنية، واستحدثت خلالها منصات إخبارية وإعلامية جديدة، استطاع أن يضع يده على مفاتيح الحل

قد يقول البعض إن تطور الجوانب التكنولوجية واختلاف مزاج الجمهور في السنوات السبع الماضية يجعل من تحليل هيكل ورؤيته عن أزمة الصحافة المطبوعة جزء من التاريخ، لكني أرى أن الرجل الذي قضى نحو 7 عقود من حياته في كواليس ودهاليز مهنة الصحافة تغيرت فيها ظروف وأحوال سياسية ومهنية وتقنية، واستحدثت خلالها منصات إخبارية وإعلامية جديدة، استطاع أن يضع يده على مفاتيح الحل.

أسباب أزمة الصحافة المطبوعة في مصر التي تحدث عنها هيكل وحصرها في غياب العمق والدقة والتحليل والتعليق، هي أزمة كل المنصات الصحفية الآن ورقية ورقمية وفضائية، وكي تتحقق تلك العناصر التي تعيد للصحافة بريقها ومصداقيتها هناك عنصر مؤسس يمكن أن نعتبره قاعدة بناء المحتوى الصحفي، فلو اعتبارنا أن العناصر السابقة هي الأعمدة الحاملة، فقاعدة البناء هي «الحرية»، بدون حرية لن يكون هناك عمق ولا دقة ولا تحليل ولا غيره ولن يكون للصحافة بكل منصاتها مصداقية أو بريق يجذب الجمهور ويقنعه بالإقبال عليها.

مطلع عام 2020، دعت الهيئة الوطنية للصحافة باعتبارها المسئولة عن إدارة الصحف القومية أطراف المهنة إلى سلسلة من الاجتماعات لمناقشة أسباب الأزمة التي تمر بها الصحافة القومية وسبل النهوض بها من كبوتها.

الدعوة والمناقشات كانت من باب استشعار الخطر الذي يحيط بالمؤسسات القومية التي وصلت ديونها إلى أرقام مخيفة، الحلول التي طرحها خبراء وأكاديميون وصحفيون تأرجحت بين رقمنة المحتوى الذي تقدمه المؤسسات القومية وتدشين منصات إلكترونية تناسب العصر الحالي وترضي احتياج أجيال جديدة تتابع الأخبار عبر هواتفها الذكية

 

الدعوة والمناقشات كانت من باب استشعار الخطر الذي يحيط بالمؤسسات القومية التي وصلت ديونها إلى أرقام مخيفة، الحلول التي طرحها خبراء وأكاديميون وصحفيون تأرجحت بين رقمنة المحتوى الذي تقدمه المؤسسات القومية وتدشين منصات إلكترونية تناسب العصر الحالي وترضي احتياج أجيال جديدة تتابع الأخبار عبر هواتفها الذكية، واستغلال أصول المؤسسات المهملة ضمن خطة متكاملة لوقف نزيف الخسائر وتقليل قيمة الدعم التي تقدمه الحكومة.

ولاعتبارات سياسية، غابت عن تلك الاجتماعات قضية حرية الصحافة واستقلال الصحف بما يكفل حيادها، بحسب النص الدستوري الذي ألزم الدولة أن تضمن «تعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص فى مخاطبة الرأى العام».
باستثناء اللقاء الذي جمع أعضاء «الوطنية للصحافة» بمجلس نقابة الصحفيين لم تخرج أي إشارة عن أزمة الحصار والرقابة السابقة واللاحقة المفروضة على المحتوى الصحفي، والذي تسبب في أن تتحول معظم صحف مصر إلى نشرات دعائية تنقل وجهة النظر الحكومية في أخبار وتقارير ومقالات يتشابه متنها وعناوينها إلى حد التطابق في بعض الأحيان.

«الحرية هي أول طريق لحل أزمات الصحافة والحفاظ على الدولة المصرية»، كانت تلك هي الإشارة الوحيدة عن الأزمة الحقيقية للصحافة والتي أشير إليها في اجتماع أعضاء الهيئة الوطنية للصحافة بمجلس نقابة الصحفيين، ودون ذلك دارت مناقشات وطروحات حول استغلال أصول المؤسسات لتسوية الديون، والتحول الرقمي لتوفير تكاليف الطباعة والورق.. ألخ.

في مارس من عام 2019 اجتمع رئيس الوزراء مصطفى مدبولي برئيس الهيئة الوطنية للصحافة حينها كرم جبر وبحضور وزراء التخطيط والمالية والتضامن لبحث ديون الصحف القومية المستحقة للحكومة.

المتحدث باسم مجلس الوزراء، المستشار نادر سعد، عقب على الاجتماع المشار إليه حينها وقال: «الصحافة الورقية في أنحاء العالم، تواجه مشكلة كبيرة بعد توجه العالم للصحافة الإلكترونية.. ويجب على كافة المؤسسات القومية دمج إصداراتها التي تحقق خسائر مالية، وسرعة القيام ببعض الإصلاحات والتوجه بالاستثمار في الصحافة الإلكترونية والأصول التي تمتلكها كل مؤسسة لسداد ديونها».

وأوضح سعد أن مديونيات المؤسسات القومية وصلت إلى مليارات الجنيهات لمؤسسات الدولة، لافتا إلى أنه يجب على المؤسسات القومية سرعة الاتجاه للإصلاح، فلا تستطيع دولة دعم هذه المؤسسات على طول الدهر.

أثارت تصريحات المتحدث الرسمي لغطا كبيرا داخل أروقة المؤسسات القومية، وثارت شائعات عن خطة حكومية أعدتها وزيرة التخطيط هالة السعيد عن تصفية مؤسسات ودمج إصدارات صحفية، وهو ما دفع المتحدث الرسمي إلى إصدار بيان لاحق يوضح ما قصده في تصريحاته السابقة، كما صدر عن رئيس الهيئة الوطنية للصحافة حينها نفي لما تردد عن تصفية المؤسسات الصحفية، لكنه أشار إلى أن الحكومة خفضت دعمها المالي للصحف القومية بنسبة الثلث عن العام الماضي.

ملامح الخطة الحكومية للدمج والإلغاء تكشفت شيئا فشيئا، وكأن الاجتماعات السابقة التي أجرتها الحكومة أو الهيئة الوطنية كانت تهدف إلى تمهيد الطريق لاتخاذ القرار الأخير بتحويل الإصدرات المسائية للمؤسسات القومية «المساء، والأهرام المسائي، والأخبار المسائي» إلى إصدارت إلكترونية، مع الحفاظ على وظائف العاملين وحقوقهم المالية، والسبب تراكم الديون وارتفاع تكاليف الورق والطباعة، كما ذكرت مصادر بالهيئة.

واجهت الحكومة خلال اجتماعات معلنة أو غير معلنة القائمين على المهنة بأرقام عن خسائر وديون المؤسسات القومية وأرقام توزيع الإصدارات واتخذت قرارها الأخير بإلغاء الإصدارات المسائية، لكنها لم تسأل كيف وصلت صحافتها إلى هنا؟.. هل اشتبكت الصحافة مع هموم القارئ وقضاياه أم اكتفت بتقديم أخبار «بايتة» خبرها الجمهور قبل ٢٤ ساعة من خلال وسائط أخرى؟ وهل كسر الصحفيون الحصار الذى تفرضه المصادر، وهل تمكنوا من الحصول على قصة صحفية مكتملة الأركان؟، أم أننا ندور جميعا فى دوامة نقل البيانات والتصريحات المعلبة للدرجة التى تجعل الصحف المصرية تخرج فى أيام كثيرة بذات المانشيت؟ هل هناك هامش يسمح للصحفي بالبحث «عما وراء الخبر» فتقدم الصحف قصة صحفية تمتاز بالعمق والدقة فيعود للصحافة تأثيرها وقارئها؟

هل تنتظر صحف مصر رصاصة الرحمة؟
هل تنتظر صحف مصر رصاصة الرحمة؟

أدعى أن هذا لا يحدث عادة، فصالات التحرير تمر بأزمة حقيقية عند التعاطى مع أخبار مؤسسات الحكم وقضايا المواطن وأزماته، وهو ما دفع هذا المواطن إلى هجرها، والبحث عن بدائل آخرى تلبى رغباته فى المعرفة وتشتبك مع همومه وقضاياه حتى لو كانت غير موثوقة.

قبل أن تفكروا في إلغاء إصدارت أو دمج مؤسسات صحفية فكروا أولا في الأزمة الحقيقية للصحافة والتي دفعت جمهورنا لهجرتها والبحث عن وسائل ومنصات أخرى، فبدون هامش حرية يسمح للصحافة أن تقوم بدورها في إخبار الناس بما يدور لن تفلح خططكم في التحول الرقمي.

قبل أن تفكروا في إلغاء إصدارت أو دمج مؤسسات صحفية فكروا أولا في الأزمة الحقيقية للصحافة والتي دفعت جمهورنا لهجرتها والبحث عن وسائل ومنصات أخرى، فبدون هامش حرية يسمح للصحافة أن تقوم بدورها في إخبار الناس بما يدور لن تفلح خططكم في التحول الرقمي، وكما اتخذتم قراركم الأخير بإلغاء الإصدارت المسائية، قد تضطرون إلى إطلاق رصاصة الرحمة على المنصات الصحفية التي أدخلتموها غرف الانعاش عندما لاحقتوها بالتعليمات والرقابة السابقة واللاحقة.

فك الحصار عن الصحافة، وفتح الباب أمام تداول الأخبار والأفكار والاشتباك مع قضايا الوطن ليس ترفا، بل ضمانة أساسية لنهضة المجتمعات واستقرار الدول.

الآلة الدعائية الإعلامية الجبارة التى دشنها جوزيف جوبلز وزير الدعاية الألمانى قبل 100 عام تقريبا لدعم طموحات هتلر وأفكاره النازية أنهت حلم الفوهرر بالسيطرة على العالم، فهُزمت ألمانيا شر هزيمة فى الحرب العالمية الثانية، أما الصحافة الحرة التى دعمتها النظم الغربية وجعلت منها سيفا للمحكوم مُسلط على رقاب الحكام فأسست دولا تملك مقومات الحياة والاستقرار والاستمرار.