يقف الجنرال الأميركي جلين مكماهون باعتداد واضح بالنفس على المنصة ليحاول إقناع ممثلي التحالف الدولي بزيادة عدد مقاتليهم في أفغانستان شارحا رؤيته في سبيل ذلك. وبينما ينصت الجميع في صمت تتدخل ممثلة ألمانيا لتلقي على مسامعه عدة كلمات قاسية لم تهدم منظوره عن الحرب، التي نجح في إقناعهم بها، وإنما هدمت منظوره عن ذاته بالأساس، مُحطمة ذاك التمثال الذي بناه لنفسه في مخيلته، وبمعول صغير.
في فيلم “آلة حرب”، المقتبس من رواية مُتخيلة لفترة الجنرال ستانلي مكريستال في قيادة التحالف الدولي في أفغانستان. يناقش الفيلم بكوميديا ساخرة جانبا من “الحرب على الإرهاب” التي امتدت لعقدين من الزمن وبعضا من كواليسها.
تُلقي ممثلة ألمانيا على مسامع الجنرال، الذي أتت به سُمعته الجيدة في العراق إلى تلك البقعة الملتهبة. ما لم يجرؤ أحدهم على قوله بصيغة مُلطّفة: “اسمح لي، أنا لا أشكك في نواياك الطيبة، وإنما أشكك في مدى قدرتك على تحقيق ما تؤمن به. أشكك في منظورك لذاتك”. مضيفة، أنه بعد قضائه أعواما عديدة في الحروب فإن ما يأمل تحقيقه لا يتجاوز طموحا شخصيا يُمكن أن يكلف كثيرا من الأرواح.
رغم ذلك ينجح الجنرال في إقناع الوفود الأوروبية بزيادة عدد قواتها، بعد معركة مع البيت الأبيض وجولة مع الأوروبيين، إلا أن الكلمات التي ألقيت على مسامعه كانت اللحظة التي أدرك فيها فعلا أنها حرب لا انتصار فيها، ثم فشل في مهمته بالطبع.
يبدو منظور الجنرال تجسيدا للمنظور الأمريكي القاصر عن الحرب في أفغانستان، ومثل الجنرال فإن رؤية الولايات المتحدة للحرب خضعت للمراجعة الذاتية وأدركت أنه لا مجال للانتصار وبالتالي كان التصميم مؤخرا على الانسحاب.
انسحاب سيشعل ساحة صراع دولي جديد ناجم عن الفراغ التي ستخلفه أمريكا من خلفها، تاركة بوادر حرب أهلية قد تمتد لوقت، ولاعبين إقليميين يدركون أهمية مصالحهم المهددة في تلك البلد الآسيوي الممزقة.
وكي تتضح الصورة أكثر فإن اللاعبين الإقليميين هم: الصين، روسيا، إيران، الهند، باكستان، وانضم إليهم مؤخرا تركيا. كُل له مآربه وأهدافه المتشابكة والمتصادمة مع الآخر. وفي الداخل فإن الأطراف المتواجهة هي حركة طالبان أمام قوات تحالف الشمال (الحكومية)، التي ينضوي تحتها مئات الميليشيات المتنابذة عرقيا والمختلفة مصالحيا. وهنا يمكن أن تدرك صعوبة فك عُقد الشباك التي ألقيت على رأس بلد كان تفردها الجيوسياسي، منبعا لمعاناة شعبها الأزلية.
خريطة المشهد الحالي
يمكن البدء من اتفاق السلام التاريخي بين حركة طالبان وإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في فبراير من العام الماضي، بالدوحة، كنقطة ارتكاز. نص الاتفاق على انسحاب القوات الأمريكية تدريجيا من قواعدها في أفغانستان، خلال مدة 14 شهرا -امتدت إلى سبتمبر 2021- في مقابل أن تلتزم طالبان بعدم قتال الولايات المتحدة، وتتعهد بعدم التعاون مع تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية ولاية خراسان “داعش”، لإيقاف أي أعمال إرهابية قد تنطلق من أراضيها.
ذلك الاتفاق الجدلي، الذي لم يضم الحكومة الأفغانية المدعومة دوليا، كان بمثابة الضوء الأخضر لطالبان كي تُصعّد مواجهاتها مع القوات الحكومية وتحرز تقدما على الأرض يقوي من موقفها التفاوضي، في ظل تخلي أمريكا عن الدعم الجوي للقوات الحكومية وتركها بلا غطاء. لاحقا بدأت عدة جولات تفاوضية بين الأفرقاء المحليين، في الدوحة، توقفت لأشهر قبل أن تُستئنف من جديد برعاية إيرانية مع مطلع الشهر الجاري.
واصلت طالبان تقدمها على الأرض بذات السرعة التي سحبت أمريكا بها جنودها. والذي تواصل مع قدوم إدارة الرئيس جو بايدن واكتمال أكثر من 90% من العملية. وفي التاسع من الشهر الجاري. قال عضو فريق مفاوضي طالبان شهاب الدين ديلاوار خلال مؤتمر صحافي في موسكو. إن “85 بالمئة من الأراضي الأفغانية” تحت سيطرة الحركة. ومن ضمنها نحو 250 إقليما من بين 398 في البلاد. فيما قالت رويترز إنه لا يمكن التأكد من إعلان الحركة من مصادر مستقلة.
سيطرت الحركة على العديد من النقاط الاستراتيجية الهامة، كثلثي الحدود مع طاجيكستان، ومعبر “إسلام قلعة” الحدودي مع إيران. الذي يمر من خلاله معظم التجارة المشروعة بين البلدين، والمعبر الحدودي مع تركمنستان. بالإضافة لعدة طرق رئيسة واصلة للعاصمة كابول. مجزأة بذلك القوات الحكومية والميليشيات المناهضة لها إلى جزر منعزلة، ما دفع الكثير من الجنود للاستسلام أو الفرار عبر الحدود إلى طاجيكستان.
وخلص تقرير للاستخبارات الأمريكية، في يونيو الماضي، أن الحكومة الأفغانية قد تسقط في يد طالبان خلال 6 أشهر، في تشاؤم واضح عن تقييم أولي سابق ذكر أن الحكومة ربما تسقط خلال عامين. ومن جانبه أوضح وزير الدفاع لويد أوستن أن الجماعات الجهادية، في إشارة للقاعدة، قد تحتاج عامين لتطوير قدراتها مجددا.
وفي كلمة ألقاها على الشعب الأمريكي للإعلان عن انتهاء عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، قال الرئيس جو بايدن: “نعلن إنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، نجحنا في مهمتنا بأفغانستان بالقضاء على القاعدة وقتل زعيمها (أسامة) بن لادن”. لكنه في ذات الكلمة أشار إلى أن حركة طالبان “في أقوى وضع عسكري لها منذ عام 2001”. وهو العام الذي سقطت فيه حكومتهم مع الغزو.
ذلك الانتصار الوشيك لطالبان ولّد قلقا دوليا كبيرا، خاصة من جيرانها المتخوفين من تهديد مصالحهم الاقتصادية والجيوسياسية وإثارة أزمات اللاجئين، وخلق أوراقا جديدة في اللعبة وهو ما ينقلنا إلى خريطة الأطراف الفاعلين.
مآرب متشابكة لأطراف متصارعة
كدولة حبيسة في وسط آسيا تُشكل أفغانستان نقطة ربط بين الشرق والغرب وجنوب ووسط القارة الصفراء إذ تحدها كل من طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان من الشمال، وإيران من الغرب، والصين من الشرق، فيما تحدها باكستان من الجنوب.
الجارة الجنوبية تعد لاعب رئيس في الصراع، مع علاقتها القوية والتاريخية بحركة طالبان التي تأوى عدد من قادتها. وحافظت على العلاقات الممتدة منذ فترة حكم الحركة لأفغانستان وحتى بعد سقوطها في 2001،
الجارة الجنوبية تعد لاعب رئيس في الصراع، مع علاقتها القوية والتاريخية بحركة طالبان التي تأوى عدد من قادتها. وحافظت على العلاقات الممتدة منذ فترة حكم الحركة لأفغانستان وحتى بعد سقوطها في 2001، رغم التحالف طويل الأمد بين باكستان والولايات المتحدة. وتظهر متانة العلاقة بين الطرفين في المشاورات التي لطالما عقدها قادة طالبان مع مسؤولي باكستان خلال مفاوضات اتفاق السلام، ورفض إسلام آباد بصرامة استضافة أي قاعدة عسكرية أمريكية على أراضيها لتسهيل مكافحة الإرهاب في أعقاب الانسحاب، خوفا من رد الفعل الجيران.
وتولي باكستان أهمية استراتيجية قصوى لعلاقاتها مع أفغانستان، فالأولى تقع بين الهند، خصمها التاريخي اللدود، وأرض الأفغان، ما يعني أن أي عداء مع الأخيرة يمكن أن يضع إسلام آباد بين فكي الرحى. أضف إلى ذلك التقارب العرقي البشتوني في المناطق الواقعة بين البلدين، وهو ما عظّم من أهمية طالبان التي تُمثل الغالبية البشتونية في أفغانستان. وتستضيف باكستان أغلبية اللاجئين الأفغان منذ نهاية السبعينيات ويصلون قرابة 3 ملايين لاجئ مسجلين، وآخرين غير مسجلين.
التقارب بين إسلام آباد وطالبان
هذا التقارب بين إسلام آباد وطالبان والتأكد من أنها ستصبح مكونا رئيسيا لمستقبل أفغانستان، لم تقف أمامه الهند مكتوفة الأيدي لتفتح بدورها قنوات اتصال مع الحركة الإسلامية، بعد عقود من الإحجام عن التعامل معها، في محاولة لمقابلة النفوذ الباكستاني، والتهميش الصيني -الخصم الآخر للهند.
وتخشى نيودلهي من أن يحرك وصول طالبان للحكم القلاقل في إقليم كشمير المتنازع عليه مع باكستان حيث الحركات الإسلامية المسلحة التي تحظى بعلاقات تاريخية مع طالبان. ولكن الأخيرة في محاولاتها اكتساب الشرعية الدولية تبدو ميالة لبث رسائل الطمأنينة لدول الجوار ومن بينها الهند، على الأقل في الوقت الحالي.
وبالانتقال إلى الطرف الصيني، فإن مبعث قلقه الرئيس يتجسد في الأسباب الاقتصادية كون أفغانستان تقع في خارطته لمبادرة الحزام والطريق، ما يعني أن عدم استقرارها يهدد مشروعه العالمي، وقدرته على الاستثمار في المعادن الصخرية العامرة بها البلاد. وترتكن بكين في علاقتها مع طالبان على باكستان كطرف موثوق قادر على إيصال رسائله.
لكن المخاوف الصينية ليست اقتصادية فقط. فالحدود المشتركة بينهما لها عاملها السياسي حيث إقليم شينجيانج (تركستان الشرقية) موطن أقلية الأويغور الانفصالية، وهم مسلمون أي أن تقاربهم مع حركة إسلامية مجاورة سيحفز تمردهم، من وجهة النظر الصينية التي مارست قمعا شديدا تجاههم. ناهيك عن أن اكتسابها النفوذ في أفغانستان يمثل موطن قدم آخر في الصراع الممتد مع الولايات المتحدة.
وفي ذلك الاتجاه تنضم إيران إلى شبكة الحلفاء الإقليميين ببلاد الجبال الشاهق. إذ تلعب الجمهورية الإسلامية دورا كبيرا في رعاية المفاوضات مؤخرا بين الحكومة الأفغانية، الحليف الأساسي لها، وطالبان، الداعمة لها منذ عقدين ضمن سياستها في مواجهة الولايات المتحدة. وهي علاقة غيّرها الغزو الأمريكي بعدما اتسمت بالعداء قبل ذلك. لهذا تحاول إيران الموازنة بين الطرفين انتظارا لما يتمخض.
وعرفت الحدود المشتركة بين البلدين خلال العقود الماضية تدفقا كبيرا للاجئين الأفغان، من عرقية الهزارة الشيعة. ما جعل إيران ثاني أكبر مستضيف خلف باكستان. وهنا يتجلى المنظور الاقتصادي المتخوف من زيادة عدد اللاجئين وتهديد الاقتصاد المتراجع بالأساس نتيجة العقوبات الدولية. ما يجعل الاستقرار الأفغاني عامل مهم في المستقبل القريب حيث القدرة على خلق فرص استثمارية بالتعاون مع النظام الصيني المتفاهم من نظام الملالي.
هذه التفاهمات تنضم روسيا إليها لأسباب أخرى، فموضع قدمها الذي بتره المجاهدين الأفغان قبل عقود، واستعادته من خلال نسج علاقات مع التحالف شمالي البلاد بات الآن مهددا أكثر من أي وقت مضى، وينذر بالخطر على واحدة من “حدائقها الخلفية” في الجنوب حيث طاجيكستان.
مخاوف روسيا
وتخشى روسيا من أن يتسبب الانسحاب الأمريكي في أزمات للاجئين وتسلل المتشددين بآسيا الوسطى، حيث نفوذها التاريخي في دول طاجيكستان و أوزبكستان وتركمانستان كجزء من الاتحاد السوفييتي سابقا. هذا القلق تفهمته طالبان برسائل حول وقف القتال في حال التوصل لحل سياسي مع الحكومة الأفغانية الحالية بقيادة أشرف غني.
وعلى الرغم من اعتبار روسيا الحركة إرهابية إلا أنها استضافتها في موسكو من أجل محادثات السلام، وواصلت طالبان الاستجابة بإعلانها أنها لن تهاجم الحدود مع طاجيكستان أو تسمح باستخدام أفغانستان قاعدة لشن هجمات على روسيا.
وتنظر موسكو بعين أخرى إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي “يجب ألا تتحول عملية خروجه إلى إعادة انتشار لمنشآت البنية التحتية العسكرية في الدول المجاورة لأفغانستان، خاصة في آسيا الوسطى”، بكلمات زامير كابولوف، الممثل الروسي الخاص بشأن أفغانستان.
وفي هذا الإطار تبرز تركيا كلاعب جديد يحاول تحقيق مكاسب استراتيجية بتموضعه في المنطقة. كشريك للولايات المتحدة والناتو، وبديل عنهما في أفغانستان بذات الوقت، بالإضافة لكونه طرف قادر على التفاهم مع روسيا رغم تناقضات المصالح.
وفي سعيها لتعزيز علاقتها مع إدارة بايدن، تعتزم أنقرة تأمين مطار كابول والبعثات الدبلوماسية بالاتفاق مع واشنطن خوفا من وقوعه في أيدي طالبان، وقد أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أن “تركيا هي الدولة الوحيدة الموثوقة لإدارة الوضع في أفغانستان على الوجه الصحيح”، إلا أن طالبان أعلنت رفضها للتواجد التركي وهددت بالتعامل مع القوات التركية كقوة احتلال.
بعد عشرين عاما، بل أكثر . لا يبدو الوضع مختلفا في أفغانستان وإن تغيرت التفاصيل. فالصورة بذات الملامح المشوهة: حرب أهلية وقوى دولية تتصارع وآلاف الأرواح المُزهقة والفقر المدقع والبنية المدمرة، ولا حل في الأفق فخيوط اللعبة تنتقل من لاعب إلى آخر بما يصنع شبكة التعقيد ثم تتعقد أكثر فأكثر كلما تواصل اللعب.